مقالات دينية

سحر أم إيمان؟

سحر أم إيمان؟

أحد الأخوة سألني عن السحر :
 ما هو السحر؟ هل هو قوة متصلة أم منفصلة عن الله؟ وما الفرق بين المعجزة والسحر، بين الايمان والسحر؟ وهل السحر حرام؟
مقدمة
في اللغة العربية تشتق لفظة “سحر” من الفعل (سَحَر) بمعنى استمال وفتن وسلب القلب، بحيث أنه يُصرف المرء ويبُعده عن نفسه، فهو أشبه بالخدعة والافساد وإخراج الباطل في صورة الحق. وهناك سحر كلامي، وسحر الأفعال: وسحر شعبي وسحر تقني: وسحر أبيض وسحر أسود… والغاية تحويل المرء أو افعاله من حال إلى حال، عن طريق الخدعة أو التخويف.
عرف الإنسان السحر منذ أقدم العصور، ومارسه، وعدّه جزءًا من الدين. فقد عرفته الحضارات والأديان والتاريخ منذ نشأتها وأراد بعضها أن يعده قائماً ومفروضاً على البشر. وازداد في منطقة دون غيرها، وفي بلد دون آخر، ولدى شعب أكثر من سائر الشعوب الأخرى، ولدى إنسان دون غيره. وقد عرفه سكان بين النهرين واشتهروا به، كما كان الباب*لي*ون والكلدانيون عارفين بالفلك والتنجيم. واشتهر السحر في مصر أيضًا، كما لدى الهنود، بل يمكن القول إنه لم يخلُ شعب، ولا بلد، ولا عهد من عهود التاريخ البشري، من مظاهر السحر وممارساته. وقد ازداد السحر هذه الأيام بفضل الميديا التي تحاول تقديم السحر بشكل خيّر ومسالم. كمما تتأثر الشعوب الفقيرة بسبب أوضاعها بهذه الظاهرة، سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات؛ ويقوى حيث يكثر الخوف ويتفاقم الخداع.
نلقى السحر، بمعناه العام، في العهد القديم. فهذه امرأة تستحضر روح صموئيل لينبئ لشاوول عن موته المأساوي (1 صم 28: 3–25). وكانت ايزابيل تلجأ إلى الحيل السحرية بكثرة (2 ملوك 22: 9)، وهناك ممارسات سحرية للملك آحاز (16: 3) والملك منسى (21: 6). ولا يخلو العهد الجديد من ذكر السحر، وأشهر ما في ذلك قصة سيمون الساحر الذي أراد شراء القدرة الإلهية على اجتراح المعجزات بالمال، فعاقبه الله على يد الرسول بطرس (أع 8: 9-24).
نشكر الله على تقدم العلوم المعاصرة والتطوّر الفكري الذي ساعدنا على التمييز بين الدين والسحر. وكذلك بين العلم والسحر. بين العرافة (التكهّن بالمستقبل) والنبؤة؛ وبين (الباراسايكولوجي) وما يتصل بها.
واقع
كل يوم تطالعنا أمور تبدو لنا أن فيها ضربًا من السحر. ويأتي من يؤكد لك الامر بما يقصّونه عليك من “أحداث” و”وقائع” لابد لك أن تصدقها، وإلا فهل يكذب عليك أصدقاؤك ومعارفك، فهذا البيت “مسكون” وهذا الشخص قد “أمسك وسُحر” وهذا يصنع ما لا يصدق!
وطبيعي أن يرتبط كل هذا بما يسمى بـ”عالم الغيب” وبما يتضمن من أمور تمضي من قراءة الفنجان أو الكّف. هذه هي مشكلة الإنسان الحقيقية! أن نظر الى العالم الواسع، بحجمه وقدراته، خشي عليه وصنع له مسكنًا محكمًا يقيه من تقلبات المناخ؛ وان تطلع إلى فوق، أستمالته النجوم والقمر والشمس حتى تعبد لها؛ وأن تطلع الى داخل ذاته فلاحظ تناقضات لم يلق لها تفسيرًا، أو تمنى ما لا يمكن الحصول عليه بشكل اعتيادي، لجأ إلى “من” و”ما” يمكنه أن يتجاوز حدوده، فأخترع، من جملة ما اخترع، السحر بشتى أشكاله.
الكتاب المقدس والسحر
يحظر الكتاب المقدس استعمال السحر، بل يعّد السحر خطيئة، والمدونات الموسوية الكبيرة الثلاث تحّرم السحر تحت طائلة الموت (لاويين 19، تثنية 18، خروج 23)، وتحظر استخدام عادات سحرية كالخلطات، وطهي الجدي في لبن أمه (رتبة الكنعانيين)، وتنبذ ذبائح الاطفال، وتحرم شرب الدم، ومع ذلك، فلعل بعض الطقوس الدينية احتفظ وما يزال بممارسات أصلها سحري (مثال قرابين العهد القديم، إذ يقيم الكهنة بأسم الرب طقوس تكفير بدم العجول والاغنام والطيور…)، غير أن “المعنى” هو المختلف. ومعلوم بأن الفعل إنما يتخذ أخلاقيته من “النيّة” و”الغاية” في الأساس، وكل ما عداهما ينبغي أن يدخل في خط النيّة والهدف.
إن السبب الرئيس لتحريم السحر، دينيًا، هو محاولة السحر إحلال فنه وقوة مفاعيله بدلاً من قدرة الله، وبالتالي فهو تطاول على الله. وكل ما ينتقص من الله وكرامته مرفوض. لذا نرى الكتاب المقدس، في نصوص ووقائع كثيرة، يحاول أن يُظهر بوضوح كيف أن الله، بقدرته اللامتناهية، يخذل السحرة ويجهض أفعالهم أو يبطل مفاعيل فنونهم، ويتركهم حيارى بل بائسين. فنرى يوسف الصدّيق منتصرًا على عرافي مصر، وموسى على سحرتها ودانيال على سحرة الكلدانيين، وينتصر بولس الرسول، في أكثر من موقف على سحرة وعرّافين ومعزمّين.
المعجزة
المعجزات والنبوءات هي مسائل إيمانية: لماذا؟ لأنها تجعل الله حاضرًا حضورًا أكيدًا، بفضل فعل إيمان عميق وحب واعي، بعكس السحر، يبعد الله عن المشهد ويبقى الانسان سجين نفسه.
المعجزة والنبوءة تحصلان بفضل إيمان واع واثق بقدرة الله الخالق المقتدر والمدبر المحب، به يمكننا أن ننقل جبال العداء والحقد، ونسكن عواصف القنوط والظلمة، وبفضل تلمس وجه الحقيقة في قلب الله، يمكننا أن نقرأ علامات الأزمنة، فنستشف المستقبل؛ في حين تأتي فنون السحر والعرافة وألاعيبها لتشوه وجه الحقيقة، وتبعد الإنسان عن جذوره ومساحات أبعاده وأفق هدفه الأسمى. لذا فهي تناقض، في الصميم، حقيقة الإنسان ومخطط الله وصورته.
تكمن الخطورة في فهم حقيقة السحر وتمييزه عن الإيمان: فالأول نفعي، أي يبغي الانتفاع، أي المال. (السحرة عادة يستخدمون فنهم لابتزاز أموال البسطاء من الناس بشكل خاص) في حين أن الايمان: مجاني، معطاء، لا يأخذ لنفسه بل يطلب لغيره؛
السحر “مادي”، في الحدث والواقعة، ففيه تتجلّى المادية التي كانت السبب في انـحراف الناس عـن الإيمان بـالله الـواحـد المنـزه عن ذلك، ويـصعب على الـبشر “تجاوز” الماديات، بمعناها المصطلح عليه عادة، ويستعصي على الكثيرين التسامي فوقها إلى ما هو “روحي”، أي إلى “الجوهر”. أما الايمان فهو روحي، عميق، صميمي ..
خاتمة
أنا شخصيًا، لا اؤمن بالسحر، ولن يخيفني قط، فاتكالي هو على من في وسعه وحده أن يقوّيني. لذا فإني بكل وضوح أقول: لا للسحر، بالمفهوم الذي يأخذ به عامة الناس، ونعم للإيمان فهو ما يليق بالمدركين الناضجين. السحر من “أعمال الجسد”، كما يقول بولس الرسول، ونحن نسعى إلى تحقيق ثمر الروح إذ نحيا بالروح ونعطي ثماره (غل 5: 19–26).
+ سعد سيروب

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!