الحوار الهاديء

ألإسراف في النقد ظاهرة غير صحية / نقد الكهنة مثالاً

الكاتب: الدكتور صباح قيا
ألإسراف في النقد ظاهرة غير صحية / نقد الكهنة مثالاً

د. صباح قيا
لا شك بأن الكثير من المواقف والمواجهات الكلامية أو البدنية التي تحدث في مرحلة حياتية مبكرة , يستهجنها صاحبها نفسه وقد ينصح خلاف ذلك في مرحلة عمرية متقدمة . فمن بديهيات الحياة بأن الإنسان يزداد حكمة كل ما تقدم بالعمر , وقد جبل المهتمون بهذا الِشأن على  اعتبار عمر الأربعين كحد فاصل لدخوله مرحلة النضج العقلي والإستقرار النفسي بعد أن تمرس في الحياة ما قبل ذلك فازداد خبرة وتجربة وصقلاً … وربما كان ذلك سبباً جوهرياً لقيام بعض الأنبياء بإعلان أو نشر دعوته بعد بلوغه سن الأربعين … وأيضاً إختيار هذا الرقم وما يليه عند الحاجة لرأي صائب وقرار متزن ممن يلجأ اليه العموم للإحتكام بقضية مصيرية معينة … ولكن للأسف الشديد هنالك من يزداد تخبطاً بدل حكمة  … وضياعاً بدل استقرار … وتخلفاً بدل نضج .
في سبعينات القرن الماضي ومع بدء عمري المهني , وجدت نفسي مديرأً  لإحدى المستشفيات المتواجدة  في قضاء من أقضية كردستان الجميلة …. أقلقني إشغال عدد من الغرف الخاصة بالمرضى من قبل ضباط ومكتب كتيبة المدفعية المتجحفلة مع اللواء في ذلك القاطع . ويظهر بأن هذا الإحتلال العسكري الجزئي  للمستشفى متوارث بين كت*ائ*ب المدفعية التي تستبدل كل عام خلال ما يعرف ب ” حركات الشمال ” ,  ولم يتحرك أي من  المدراء بالتناوب لتغيير مثل ذلك الوضع الشاذ إما مجاملة ,  أو خشية من العواقب , أو كما هو معتاد ” أني شعليه , ليش  أورط نفسي , سنة وتنكضي ,  خلي اللي يجي بعدي يتصرف مثل ما يعجبه ” . أي بما معناه الجلوس على التل أسلم … أعلنت عن امتعاضي وعدم قناعتي يما يجري , وقررت أن لا أسمح للكتيبة اللاحقة بإشغال أي جزء من المستشفى  , وأبديت وجهة نظري تلك أكثر من مرة لآمر الكتيبة المتواجد مقرها  في المستشفى  , ورجوته إيجاد مقر بديل وإلا سأغلق غرف المستشفى وأمنعهم من دخولها , وأن  كل ذلك من ضمن مسؤوليتي وصلاحيتي … وعدني خيراً رغم إحساسي بمراوغته وعدم أخذ موقفي مأخذ الجد , ربما لإعتقاده بأني في حداثة خدمتي أو كوني مسيحي لن أتجرا أو أملك الشجاعة الكافية لاتخاذ موقف صلب مهما كان السبب مهماً … ولكن خاب ظنه …. نعم خاب ظنه وتجرع مرارة قصر نظرته … وقفت في باب المستشفى عائقا ًأمام من يحاول دخولها . حدثت بيني وبينه مشادة كلامية حادة .  وبدأ يهددني بالقدم العسكري وبعواقب التجاوز على المافوق . أما أنا فذكرته بوعده الذي لم يلتزم به رغم كونه رجل عسكري … وهذه الجملة تعتبر من أكبر الإهانات التي يشعر بها  العسكري وخاصة من يحمل رتبة ضابط عندما يجابه بها … أخيراً جاءني الأمر من آمر جحفل اللواء بأن أسمح لهم بالدخول , ونفذت الأمر حسب الأصول .. وبعد أيام معدودة أخلت الكتيبة غرف المستشفى منتقلة إلى مقرها الجديد , وعادت المستشفى للطبابة بأجمعها … لقد استخدم آمر جحفل اللواء الحكمة عند معالجته للمشكلة . لم يتخذ أي إجراء قانوني بحقي لقناعته بأن موقفي سليم وصائب … أمرني أن أسمح بدخول مقر الكتيبة إلى المستشفى كي لا يتولد الشعور بأن المادون أجبر المافوق على عمل ما ولم يحاسب … أوعز للكتيبة اللاحقة بتهيئة مقر بديل والإنتقال إليه تلافياً لمجابهات مستقبلية مماثلة ولقناعته بأن ذلك هو السياق الصحيح ….
إنتهى الحادث ولكن لم ينتهي الحديث , بل بالأحرى بدأ الحديث … أصبحت الشغل الشاغل لآمر الكتيبة السابق . إقترب من أطباء مستشفى القاعدة ليكسب ودهم كي يتسنى له إفراغ ضغينته عليَّ أمامهم … موضوعه الوحيد الذي يتكلم عنه معهم بمناسبة او بدون مناسية هو أنا … أساء تقدير الموقف مجدداً وخاب ظنه في مسعاه مع الأطباء . لم يرق حديثه المغرض عني لزملائي  وبالأخص معارفي . إتفقوا على هزيمته وإبعاده عنهم … بدأوا يسخرون منه أمام ضباطه قائلين : لو تم تشريح دماغه فسيظهر فيه ورم مكتوب عليه ” دكتور صباح ” … وبذلك تمكنوا منه ونال استحقاقه منهم ولم يجني من إلحاحه المتكرر والممل غير الخيبة والعزلة … ربما كان قد تحقق له بعض ما يصبو إليه لإشباع غريزته المتجبرة المستمدة من مركزه الوظيفي لو اكتفى بالإشارة لما حدث بيني وبينه لمرة واحدة أو مرتين ليس أكثر , وعدم إفراطه ومبالغته بنقده الجارح , مما حدى بالأطباء أن ينظروا إليه كمريض يعاني من ” عقدة الشخصنة ” والتي يحاول السيطرة عليها بإعادة المشهد مرات ومرات بدون تحديد .
ما يظهر بين آونة وأخرى من نقد عدد قليل جداً من الأقلام لبعض الكهنة يقترب بمضمونه وجوهره من الصورة التي رسمتها أعلاه … نعم هنالك هفوات وربما أخطاء قد تكون عفوية , وغالباً  صحيحة من وجهة نظر الكاهن , ولكنها تتقاطع مع أفكار وتطلعات مجموعة معينة من العلمانيين , وبدل الإكتفاء بالإشارة إليها وإبداء الملاحظات اللازمة والمقترحات الضرورية لتجاوز ما لا ينسجم مع أهوائهم , يبدر منهم اسلوباً تظلله المحاسبة والتقريع إلى درجة الإهانة أحياناً , ولا غرابة أن يشعر القارئ بالغثيان خلال المرور عليها لما تحويه من جمل لا تنسجم مع ابسط قواعد الكتابة الحضارية ولغة المخاطبة السليمة … والأنكى من ذلك هو التركيز والدوران بدون كلل وملل حول نفس المسألة أو المسائل , وحول نفس الشخص أو الأشخاص .
للأسف الشديد أن من يساهم في هذا الإختيار هو نخبة من الأقلام المتميزة بلغتها القويمة وخلفيتها المعلوماتية المتنوعة والواسعة , بالإضافة إلى  البعض ممن تحمل قلوبهم المحبة لكنيستهم أوالإعتزاز بتاريخهم الحضاري , أو الإثنين معاً  . قد يكون من بينهم من ينطلق بهذا الإتجاه بحسن نية , ولكن حسن النبة يفقد مضمونه عندما يتكرر السيناريو , ويزخر المقال  بتعابير الإساءة في طياته … من حق الكاتب أو الناقد أن يتمتع بالحرية الممنوحة له ويمارس  الكتابة كما يشاء ويستفاد من مساحة النشر المتوفرة , وأن يساهم في تشخيص السلبيات ويبادر لتقويم الإعوجاج , إلا أن ذلك لا يعني ملاحقة الكاهن وانتقاده في كل صغيرة وكبيرة , والإصرار بحق أو بدون حق على الإستمرار بهذا النهج رغم الدعوات الصادقة والمخلصة من الكثيرين للتخفيف من قسوته .
لا يختلف إثنان بأن ” الخطأ لا يجوز معالجته بخطأ ” , وإنما بالحكمة والتروي وبالعقل الثاقب بعيداً عن المشاعر الإنفعالية وردود الفعل المتشنجة . والذي ينتقد عليه اتباع الأسس النقدية المتعارف عليها . أما  الإلحاح ” بالزلاطة ” فنتيجته معروفة سلفاً … ألنقد حق مشروع , ولكن له حدوده .. ومن يلاحق نفس الكاهن في نقده ومن زوايا مختارة يستحق أن يقال عنه بأنه مصاب  بورم إسمه ” ألكاهن ” ….
 
 
وما قاله أحد الشعراء سابقاً
ثلاثٌ هنَّ مهلكةُ الأنامِ    وداعية الصحيحِ إلى السقامِ
دوامُ مدامةٍ ودوام وطءٍ   وإدخالُ الطعامِ على الطعامِ
أضيف عليه  عاملاً رابعاً أفرزته مزايا العصر الحالي :
ولي من جديدِ الزمانِ إضافةٌ   إسرافٌ في النقدِ وتكرارُ الكلامِ
ألأنام أي ألناس  … ألسقام أي الأمراض …. ألمدامة هي الخمر …. ألوطء هو الجماع …
ألإسراف هنا يعني تجاوز الحد في الكلام ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!