مقالات عن مانكيش

كلمة بمناسبة رحيل (آدم ميخو مرخو) احد كبار وجهاء مانكيش

كلمة بمناسبة رحيل (آدم ميخو مرخو)

أحد كبار وجهاء مانكيش

د. عبدالله مرقس رابي

كلمة بمناسبة رحيل (آدم ميخو مرخو) احد كبار وجهاء مانكيش

                          انتقل الى الراحة الأبدية (آدم ميخو مرخو) يوم الاحد المصادف 25/6/2023 في مدينة هاملتون الكندية، وأُقيمت صلاة الجنازة على راحة نفسه يوم الخميس المصادف 29/ 6/2023 في كنيسة القربان المقدس في هاملتون بقداس الهي وحضور جمع غفير من أهالي مانكيش في المدينة والذين توافدوا من المدن القريبة، ديترويت الامريكية، ومدن تورنتو، ويندزور، مسيساكا الكندية إضافة الى الأصدقاء والمحبين من كل صوب، حضروا  للتعبير عن محبتهم وتقديرهم ووداعهم لشخصية عرفوا عنها الكثير، وهكذا شارك أهالي بلدة مانكيش الحزن والتعبير عن مشاعرهم لرحيل فقيدهم (آدم مرخو) وتوالت البرقيات والرسائل النصية والشفهية عبر وسائل الاتصال من مختلف البلدان وبلدنا العراق الام للتعبير عن مشاعرهم وحزنهم ومحبتهم للفقيد، كما أقيمت القداديس على نيته في بلدته مانكيش.

رافق الحضور جثمان الفقيد بعد أداء المراسيم الدينية الى مقبرة الكاثوليك في مدينة هاملتون، وبنفس الحضور حيث روي الثرى. خيم الحزن على الجميع، الحاضرون والبعيدون ممن سمعوا بالخبر المؤلم، وعبروا عن مشاعرهم في محبتهم له، وطوال تواجدهم مع بعضهم دار الحديث بينهم عن مآثر هذا الانسان وطيبته واعماله الإنسانية الخيرية، واستحضار مواقفه معهم، كلما كان أحدهم بحاجة الى المساعدة في مختلف المجالات. وبهذه المناسبة اكتب هذه الكلمة المتواضعة عن شخصية فقيدنا (أبو صباح) لتبقى مآثره في ذاكرة كل المحبين ووفاءً منا لروحه.

ولد المرحوم آدم عام 1935 في قرية مانكيش/ محافظة دهوك/ العراق من والدين تقيين (ميخو هرمز مرخو الذي عُرف في طيبته وسخائه وعطائه وكرمه، ووردية يوسف صارا) عاش في طفولته بين احضانهم مع (أخيه هرمز وأختين خيرية ونجيبة). أكمل دراسته الابتدائية في القرية عام 1949، وطوال وجوده معهم رافق والده في العمل في المقهى الذي امتلكه في محلة السوق. تزوج من السيدة (تريزيا حنا نازي) عام 1955 وله أربع بناتٍ (جانيت وسعيدة وسعاد وابتسام) وثلاثة أولاد (صباح وبسام وصلاح).

لم يكن حلم وطموح (آدم) يوماً ما ان ينتهي بمرافقة والديه والبقاء في القرية النائية حينذاك، بل راوده حلم السفر والرحلة البعيدة الى المدينة، اصبحت مدينة بغداد قبلته منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي، فغادرها وعمره (14) سنة وهو لا يزال في مرحلة الطفولة المتأخرة وبداية عن*فوان مرحلة المراهقة، وذلك لم يؤثر على مساعيه وتحقيق طموحاته في تلك المدينة التي تختلف عن بيئة القرية كلياً في مغرياتها المختلفة، باستثناء الحنين الى الاهل والقرية كما كان يذكر دائماً.

صارع الحياة من اجل العيش ثم التفوق وتحقيق مكاسب كبيرة من الجاه والمال، كان من الرجال الذين بنوا حياتهم ليفتخر به الاخرون وينال احترامهم وتقديرهم. فهو لم يتكئ على ارثٍ، ولا على عائلة، ولا على منصبٍ وظيفي، وانما بدا حياته وحيداً، وواجه قدره مسلحاً بعزيمة فريدة من نوعها، فمنذ ان خرج من قريته لم يكن يحمل في زوادته سوى زاد يومه، ولا مال ولا بطاقة توصية ليحط الرحال في العاصمة الكبيرة حيث مئات الاف من البشر يصارعون اقدارهم، ولم يعرف لهو الشباب، وانما وجه كل همه لبناء مستقبل زاهر كان يلوح بعيداً اشبه بحلمٍ. ومكنه من تحقيق حلم كان يشعر به في متناول كفه، وأثمر ذلك كله عن نجاح في حياته العملية والمادية، فاذا بالنقود القليلة تصبح رأسمالاً. وهذا يدور في مشروعات ناجحة فيدر المزيد، وإذا بالرجل المجهول في المدينة الكبيرة يصبح واحداً من أهلها بحكمته ودرايته وتواضعه وصبره وطموحه وانسانيته وخبرته الاجتماعية والعملية في إدارة الاعمال، واخلاصه لأصدقائه ومعارفه في العمل والسوق وفي حياته الاجتماعية، وبذلك أصبح واحداً من أصحاب الشأن والجاه والمال والفاعلية الاجتماعية في العاصمة بغداد ومن وجهائها المعروفين وذوي العلاقات الاجتماعية الواسعة على مختلف المستويات الاجتماعية والرسمية في الحكومة العراقية، ومع مختلف المكونات الدينية والاثنية في المجتمع البغدادي والعراقي.

كيف بدأ آدم مشواره؟ بإصرار وصبر بدأ (آدم) هناك في أصغر الاعمال واقلها شأناً، فعمل في البيوت وفي المطاعم، وبعد ان اكتسب الخبرة وتكيف مع البيئة الجديدة، بدا التفكير بان يكون له عملاً خاصاً به وبشراكة مع غيره، تارة يربح وأخرى يخسر، فشارك خاله (يوسف يوسف صارا في مطعم صغير، وبعدها شارك مع غيره في بيع الثلج، ولم يملك رأسمال لتغطية النفقات بل طلب الدين بفائدة وصلت الى 60٪ حينها. ولم يستسلم الى الإحباط والتشاؤم، لا بل عمل ثانية باجور عند غيره ليستوفي ديونه، وبإرادة قوية وحبه للعمل والاعتماد على النفس استوفى ديونه وبدأ مشواراً جديداً، فاجر حانوت كلية بغداد في الصليخ المعروفة للآباء اليسوعيين، وبعدها شارك في إدارة كازينو (شاطئ دجلة) في شارع ابي نواس، ومطعم خان دجاج عام 1969 في منطقة العلوية والمطل على ساحة الفردوس، ساحة الجندي المجهول سابقاً مع (سلمان توما)، وبعد ان فسخا المشاركة كان نصيبه مطعم خان دجاج، فامتلك المطعم واصبح من المطاعم المشهورة في بغداد وبل في العراق لحسن ادارته واهتمامه بالزبائن ونوعية الاكل الذي قدمه لهم بوجبات لذيذة، ولأمانته واخلاصه في تجهيز الأفضل لرواد المطعم، ذاع صيته في كل انحاء بغداد واصبح من المطاعم المشهورة جداً. واشار الفقيد عدة مرات الى انه بذل جهوداً كبيرة وعملا شاقاً ليلا ونهاراً من اجل نجاح المطعم ومعه أخيه هرمز وابنه صباح، وبعد ان تأهل ابنه بسام للعمل، اعتمد عليه في ادارته وتوفرت فرصاً له للسفر بين حين وآخر للقيام برحلات إجازة وراحة واستجمام الى الدول الاوربية وامريكا وأستراليا وهو مطمئنٌ على سير العمل في المطعم.

استثمر على مر السنين ما اكتسب من الأموال في مشاريع أخرى، فاستأجر بار ومطعم نادي النفط، واشترى حقول الدواجن في الضاحية الجنوبية الشرقية من بغداد، واشترى قطعة ارضٍ المجاورة لمطعمه وشيد عليها بناية برج خان دجاج المتكون من عشر طوابقٍ.

أصبح المطعم مركزاً يتردد اليه معظم ابناء مانكيش لأغراض متعددة، طلباً لإيجاد فرصة للعمل او مساعدتهم لحل مشكلة ما، قد تكون اجتماعية او مالية، او لأغراض التوسط لأجل ترويج معاملة ما في دوائر الدولة وغيرها من المؤسسات العراقية، وأخصها في العاصمة بغداد، او من احتاج نصيحة او توجيهاً من اهل مانكيش دون تمييز. وبل أصبح محطة للوافدين الى بغداد من قريته لإيصالهم الى ذويهم او الاتصال بهم.

ما انجزه (آدم مرخو) من اعمال إنسانية خيرية وإدارية في حياته، يعجز الكاتب ان يغطيها بمقال، وعليه الخص أبرزها وتلك التي أعلمنا بها بين فترة وأخرى بما يأتي:

فضل الفقيد عدم الاباحة واعلام الاخرين بما قام به من اعمال خيرية انسانية، اذ أراد ان تكون بينه وبين الرب مكملاً لتعليمه وتوصياته. انما عام 1996. اثناء جمع البيانات لتأليف كتابي الأول عن القرية المعنون (منكيش بين الماضي والحاضر)، أجريت عدة مقابلات معه لغرض تدوين ملخص عن حياته تقديراً له، تمكنت من استخلاص العديد من تلك الاعمال، ولكن ابى ان اذكرها في الكتاب بكل تفاصيلها انما الاكتفاء بالإشارة اليها في سياق عام. ولابد هنا ان اذكر أبرزها عرفاناً وتقديراً بعد رحيله:

أصبح ملاذاً يداوي جروح ويطيب مرضى أبناء قريته ويقبل عاثريهم، وساعد من يقدم الى العاصمة، ولو طلب أحدهم العمل في مشاريعه لم يمتنع إذا توفرت الفرصة، فعمل عنده العديد من الطلبة لتوفير مصاريفهم وآخرين لإعالة عوائلهم، كما عمل عنده الكثير من المؤظفين والمعلمين المتقاعدين لتحسين حياتهم جراء رواتبهم التقاعدية، وكان يحث الجميع على الكفاح من اجل العمل والحياة.

ساهم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في لم المساعدات للمحتاجين من اهل قريته الوافدين الى بغداد لأجل الطبابة والدراسة ولإخراج السياسيين الموقوفين. كما قام بزيارة الموقوفين بنفسه للوقوف على حالتهم والتوسط لإخلاء سبيلهم. وكثيرا ما سعى الى الخير وحل الخلافات والمشاكل بين أبناء بلدته ان وجدت ولغيرهم.

مساعدة العوائل المحتاجة اثناء الحرب العراقية الإيرانية والحصار الاقتصادي المفروض على العراق. واتفق مع الجمعية المختصة لأعداد مستلزمات الدفن والتعزية للشهداء من ابناء الكنيسة الكلدانية في مقبرة بعقوبة. إضافة الى مساعدات مثلها للعوائل المحتاجة من اهل قريته ولغيرهم. وقد أعلمني بانه كانت أكثر من ثمانين عائلة تتلقى منه مساعدة مالية منتظمة شهرياً طوال فترة الحرب العراقية الإيرانية والحصار الاقتصادي في بغداد لسد احتياجاتها المختلفة. ولعل ابرز ما قدمه بهذا الخصوص مراعاته ومتابعة مكوث مثلث الرحمات رئيس أساقفة أربيل/ عينكاوا حنا زيا مرخو في المستشفى الاردني بعد ان تأزم صحياً وادخل اليه اثناء رجوعه من زيارة لأمريكا وتوفي على اثرها في 22/10/1996، فتابع نقل الجثمان الى بغداد وثم الى إقليم كوردستان في عينكاوا، حيث رتب كل المستلزمات الرسمية والمالية والمراسيم التي طالت اكثر من أسبوع.

تقديم مساعدات مالية للمحتاجين المسافرين الى خارج العراق لغرض الهجرة. بالرغم من انه كما ذكر لم يكن من مؤيدي السفر دون رجعة ولكن بمرور الزمن واثناء الحصار الاقتصادي غيرّ فكرته لما آلت اليه الظروف السيئة في العراق.

شجع أهالي مانكيش في المهجر الى التبرع لمن هم في العراق من أبناء القرية لمقاومة الظروف الاقتصادية السيئة فترة الحصار الاقتصادي.

ساهم في جمع المبالغ اضافة لتبرعه لتزويد كنيسة ماركوركيس الكلدانية في مانكيش بالمقاعد الخشبية في اواخر السبعينات من القرن الماضي، إضافة لتبرعات عينية او مالية للكنيسة بين حين وآخر. علاوة لتبرعاته السخية لكنائس بغداد.

بنى ديراً لراهبات القلب الاقدس في مانكيش على نفقته الخاصة، اذ اثناء زيارته في نهاية الثمانينات من القرن الماضي لبلدته، لاحظ ان دار الراهبات لا يصلح لأقامتهن لرداءته، فقرر بناء دير جديد ليكون ملكاً لهن، وقد عرض على ورثة (عوديشو كتو آل اوسي) كل من (ايشو اوسي واوراها اوسي) لشراء قطعة ارضهم الواقعة في محلة السوق العائدة لهم وراثياً، الا انهما تبرعا بها، واشترى (آدم) قطعة الأرض المقابلة ايضاً كي لا يتم البناء عليها مستقبلاً وتحجب واجهة الدير. ولأمانته ذكر لي ان الدكتور المهندس (نوئيل حنا بكو) وضع تصميم وخارطة الدير مجاناً، كما تبرع (ملكزداق يوسف نازي) بالكهربائيات اللازمة، وتبرع (نجيب حنا ميخو قلو بمبلغ 1000 دينار) ومع تبرعات بسيطة من مؤمنين محدودين، وتم افتتاحه عام 1996.

ساهم وشجع وكان له الفضل الاول لتأسيس نادي سومر العائلي لأهالي مانكيش في بغداد عام 1973 مع نخبة من الشباب آنذاك، وأصبح عضو الهيئة الإدارية للدورة الأولى. وثم فسح المجال للآخرين للعمل مع الاستمرار في التواصل معهم.

شغل عضواً في الهيئة الاستشارية في بطريركية الكنيسة الكلدانية في بغداد في عهد مثلث الرحمات البطريرك روفائيل بيداويذ، وقدم العديد من التوجيهات والنصائح حينها، الإدارية والمالية والاستثمارية.

بعد ان أدرك ما آلت اليه الظروف والاحوال السياسية والأمنية المضطربة والاجتماعية والاقتصادية في بلده العراق، وسبق ان غادر كل من أبنائه وبناته واخوته العراق في التسعينات من القرن الماضي، قرر مغادرة البلد الذي كان محباً له حيث مسقط راسه وطفولته وشقائه وكفاحه الاجتماعي منذ صغره، غادره عام 2005 الى كندا واستقر في مدينة هاملتون قريباً من ولديه واحدى بناته، وحيث العديد من الاقرباء والمحبين يعيشون فيها، فعاش بينهم محباً ومحترماً، ولم تتغير طباعه واخلاقه ومبادراته بخصوص الاخرين واستمر على نفسها التي تميز بها في العراق الى ان رحل عنهم الى الحياة الأبدية في التاريخ المذكور اعلاه.

نم يا أبا صباح ابن الخال العزيز قرير العين، مرتاحاً مطمئناً، حيث تبقى كل ما سررت به وما قدمت في ذاكرة محبيك من العائلة والاقرباء والأصدقاء وكل من التقاك في حياتك. حقاً كنت من رجالات مانكيش وبل المجتمع العراقي الراغبين في النهوض والرخاء، ومثال للكفاح من اجل حياة مستقرة وإنسانية، فتستحق الاعتزاز والثناء والذكر والفخر، وكنت خير رجل أحب بلدته وأهلها ونالت منه الكثير

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
2 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
آزاد جعفر بيسفكي
آزاد جعفر بيسفكي
2023-07-11 15:49

الرحمة على روح عمي الغالي ابو صباح والصبر والسلوان لعائلته الكريمة .
لقد كان رجلا شهما وكريمًا يشهد له الجميع ، لقد عرفته مذ كنت طفلا ولم اعرف رجلا مثله صاحب اخلاق سامية وقيم ومبادئ ، لقد حالفني الحظ ان زرته في هاملتون عام 2017 ولكن للاسف لم يحالفني الحظ لحضور جنازته لاعبر لنفسي اولا وللحضور كم آلمني فقدانه فهو كان عما وصديقا ورفيقا ، اسال الباري تعالى ان يرحمه بواسع رحمته وان يسكنه فسيح جناته.

آزاد جعفر بيسفكي

وردا إسحاق
وردا إسحاق
2023-07-13 05:00

نسأل الرب بمكافأة أبو صباح بحسب محبته وأعماله الصالحة للمحتاجين وخدمته للكنيسة . كان قدوة صالحة في حياته الزمنية وبفضائله التي لمست الكثيرين . العزاء لأسرته وأقربائه وللمحبين من أهل بلدته وأصدقائه . شكراً لك دكتور لسردك المفصل للكثير من محاسن المرحوم فقد كرمته بكلماتك لما يستحق . دام قلمك
الكاتب
وردا إسحاق

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!