الحوار الهاديء

جرائم ذوي الياقات البيض وكارثة عرس بغديدا (قرقوش)

د. عبدالله مرقس رابي

في البدء اود اعلام القاريء العزيز اني لا اقصد شخصا محددا في محتويات هذه المقالة، بل اعتبرها درساً في علم الاجتماع الجنائي موجها لاصحاب الشأن في السلطات الثلاث في العراق، التشريعية والتنفيذية والقضائية والأحزاب السياسية المتنفذة والمتورطين في الجرائم، لعله تخلق ولو شيءٌ من الوعي في مجالي مكافحة الج#ريم*ة والوقاية منها والوعي القانوني، أو قد يتحسس المتورطون بمثل هذه الجرائم ويصحون لمراجعة الذات وفحص الضمير، ويتعرف العامة من افراد المجتمع العراقي مخاطر هذا النوع من الج#ريم*ة من حيث اسبابها وابعادها وتاثيراتها المجتمعية على كافة الأصعدة.

قد يكون العديد من المهتمين لأول مرة يصادفهم مصطلح (جرائم ذوي الياقات البيض) وبالاخص في البلدان النائمة التي لا يهمها التنمية، وذلك لاستخدامه اكاديمياً من قبل ذوي الاختصاص في العلوم ذات العلاقة في دراسة الج#ريم*ة تحديداَ، فهو غير متداول او معروف لدى اغلبية السياسيين وافراد المجتمع. وقد استخلصتُ هذه المقالة من عدة بحوث اكاديمية عن الج#ريم*ة اعدتها للاغراض العلمية والتخطيطية، ومن تدريسي لمادتي علم الاجرام واصلاح المجرمين، وثم من خبرتي الميدانية للاتصال المباشر مع المجرمين البسطاء والخطرين المحكومين بالسجن لأغراض اعداد البحوث الاجتماعية فترة خدمتي التدريسية في الجامعة.

تعرف الج#ريم*ة قانونيا: هي كل فعل يقرر له النظام القانوني العقوبة وفقاً لقانون العقوبات المعمول به في البلد، أوهي كل سلوك يعاقب عليه بموجب القانون. وأما اجتماعيا تعرف بأنها ذلك السلوك الانحرافي الموجه ضد مصالح المجتمع ككل، أو هي خرق للقواعد والمعايير الاخلاقية للجماعة او المجتمع. وأما سايكولوجيا فتعني الج#ريم*ة اشباع لغريزة انسانية بطريقة شاذة لا ينتهجها الانسان العادي في ارضاء الغريزة نفسها وذلك لخلل كمي أو شذوذ كيفي في هذه الغريزة مصحوبا بعلة أو اكثر في الصحة النفسية.

أما ج#ريم*ة (ذوي الياقات البيض) فهي الج#ريم*ة التي يرتكبها اصحاب النفوذ السياسي والوظائف ذات الشأن الرفيع والمتقدم في الدولة باستغلال الامتيازات الوظيفية المناطة لهم واصحاب الثروات والمصالح ذوي القدرة العالية لتكوين العلاقات مع المتنفذين في الدولة، مكونة في ذلك اكثر من شخص يتورط في مثل هذه الج#ريم*ة، وقد اطلق هذه التسمية لأول مرة عالم الاجرام الأمريكي (أدوين سذرلاند 1883-1950) لاعتبار ان مرتكبيها هم من طبقة المتنفذين والاغنياء الذين يرتدون القمصان البيضاء تمييزاً عن جرائم افراد الطبقة الفقيرة والعاملة في المجتمع الذين غالبا ما يرتدون القمصان الزرقاء ذات الدلالة على العمل اليدوي.

كانت النظريات العلمية قبل (سذرلاند) تفسرعملية ارتكاب الجرائم الاقتصادية بمؤشر عامل الفقر، استناداً على النظرة السائدة في عالم الج#ريم*ة المعروفة، ان الجرائم تُرتكب من قبل افراد الطبقات الفقيرة دون الطبقات المتنفذة والثرية في المجتمع. انما (سذرلاند) اثار انتباه العلماء والباحثين لدراسة الجرائم التي يرتكبها ذوي الياقات البيض الاثرياء التي تعد اكثر خطورة من الجرائم المرتكبة من قبل الفقراء البسطاء، فهناك فرق كبير بين ج#ريم*ة سرقة بعض النقود من قبل عامل بسيط لحاجته اليها في تأثيرها على المجتمع وتلك التي يرتكبها صاحب معمل للمواد الغذائية بسبب الغش المتعمد في صناعة حليب الاطفال مثلا او الغش المتعمد في المواد المكونة لتشييد البناء او الجسور او عدم تطابق مواصفات الادوية المصنعة في شركة الادوية لنظم القياس والسيطرة، اوتلك العقود التي يبرمها صاحب النفوذ في الدولة مع شركات قد تكون وهمية بمليارات الدولارات التي تسحب من اموال الشعب.

لا يمكن ان تحدث مثل هذه الحالات ما لم يكن هناك ايدي خفية من قبل المتنفذين في السلطة بانواعها مع الأثرياء وأصحاب المشاريع، مما تعد مشاركتهم او تسترهم على هكذا جرائم بمثابة ج#ريم*ة. يكون الفعل الاجرامي لهذا النوع من الجرائم مُركّب من عدة جرائم تُرتكب لتكتمل العملية، اذ لبناء العلاقات مع المتنفذين في الدولة لابد من تع-اط*ي الرشوة، وتخوفاً من الرقابة يرتكب المتنفذ احياناً ج#ريم*ة التزوير للمستمسكات، كما يستخدم المتنفذ جرائم التهديد بالطرد من الوظيفة للمؤظفين الصغار في حالة عدم المطاوعة لتنفيذ أوامره او تطال افراد الشرطة والدوائر القضائية، وغالباً ما تحصل التهديدات والتراشقات الإعلامية بين السياسيين المتورطين في هذه الجرائم وتصل الحالة الى ارتكاب جرائم الق*ت*ل المتعمد او تشويه السمعة عبر وسائل الاعلام، إضافة الى ما تخلفه العملية حالة من الاختلافات بين المشاركين في الج#ريم*ة حول الأموال او التخلص من طرف ما، فتحصل جرائم الق*ت*ل او اشعال الحرائق في ممتلكات الخصم او تخريبها او تعطيلها من العمل، لابل تحدث حالات التسمم المتعمد ايضاً، ولاخفاء معالم الج#ريم*ة الاصلية او ابعاد الشكوك عن مرتكبيها، يلجأ المجرم الى ارتكاب ج#ريم*ة غسل الأموال عن طريق إخفاء الأموال المستحصلة بوسائل مالية فنية لتهريبها خارج البلاد، او ابتكار حيل وخدع مالية لاضفاء الشرعية القانونية على الأموال، وهنا ايضاً لابد من توريط آخرين في الجرائم لتتم العملية برمتها.

احياناً يكون هناك ضحايا مجموعة من الافراد او مجموعة متجمهرة لغرض ما لا علاقة لهم بالعملية.  تُرتكب هذه السلسلة من الجرائم من قبل ذوي الياقات البيض الأثرياء بالتعاون مع المتنفذين في الدولة، ولكن في النهاية لتمتعهم بمكانة اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلائقية واسعة مع جهات متنفذة في الدولة، فمن السهولة التخلص من ملاحقة القانون والعقاب، فيبقى طليقاً في المجتمع، بينما تكتظ السجون بالمجرمين من الطبقات الفقيرة والمؤظفين البسطاء المخدوعين. اما عن الأسباب المؤدية الى ارتكاب هكذا جرائم فالحديث عنها لا يمكن تغطيته في المقال.

بعد هذه المقدمة التوضيحية عن ما هية جرائم ذوي الياقات البيض وآلياتها التنفيذية، أحاول تطبيقها في المجتمع العراقي المعاصر واحتمالية ان تكون حادثة عرس بغديدا والضحايا من آثارها المأساوية. تعتبرالاحوال السياسية والإدارية في مؤسسات الدولة سواء التنفيذية او القضائية او الرقابية أفضل بيئة حاضنة لهكذا نوع من الجرائم منذ عام 2003 جراء الفوضى العارمة التي لم يشهد لها مثيل في تاريخ العراق جراء التغيير السياسي الذي تقلد على أثره اشخاص لا خبرة لهم في إدارة شؤون الدولة وتسلط الأحزاب الدينية ذات التوجه المذهبي على زمام الحكم وبناء كل منها ميليشية عسكرية تجول وتصول في العراق كما يتناسب مع تطلعات حزبها السياسي وتدخلها السافر في إدارة شؤون الدولة، حيث خلقت المحاصصة الادارية وطغت المفاهيم الطائفية على الوطنية، فتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والتربوي والتعليمي وكل نواحي الحياة الاجتماعية مع الفقدان التام لقوة القانون وضعف الجيش والشرطة لحماية الوطن والشعب. في كل المقاييس الدولية اصبح العراق الحالي في مقدمة البلدان المتخلفة والفاسدة. اذ تشير التقارير المقدمة خلال الوسائل الإعلامية ومن الجهات الرسمية سنوياً الى التدهور المالي واختلاس مليارات الدنانير العراقية من المال العام، ومؤشرات متعددة على تورط أصحاب النفوذ السياسي والإداري في الدولة بجرائم الفساد الإداري والمالي بالتعاون مع أصحاب المصالح الذين هم خارج المنظومة الإدارية الحكومية التي تعد من جرائم ذوي الياقات البيض بالمقاييس التي أوردتها في المقدمة وبحسب مفهومها وآليات تنفيذها.

ان حالة الصراع على السلطة هي رسالة واضحة عن تفشي الفساد الاداري والمالي الذي يعرف – بسوء استخدام النفوذ العام لتحقيق ارباح خاصة – فكل كتلة سياسية تحاول السيطرة على أجهزة الدولة لتحقيق مصالحها، حتى ولو بطرق غير شرعية للاستحواذ على المشاريع العملاقة وابرام العقود سواء الوهمية او تلك التي تنفذ دون ان تحقق شروط السيطرة النوعية لكسب الأرباح الضخمة وبالتعاون مع أصحاب المصالح من الأثرياء او ذوي الميول الاجرامية المستعدين للمساهمة في تنفيذ المشاريع غير الشرعية. والكل يعلم ان العديد من المتنفذين السياسيين امتازوا بحياة اقتصادية رديئة أو متوسطة قبل مجيئهم الى سدة الحكم، بينما الان يتمتعون بحياة من الترف والبذخ والانفاق والرفاهية في المعيشة، فتلك هي قصورهم واموالهم تشهد على ذلك داخل العراق وخارجه، ذلك الثراء الفاحش والمثير للاعجاب الذي لايتمكن من يماثلهم من المواطنين العراقيين اقتصاديا ومهنيا واجتماعيا ان يكتسبه بل اصبح يتراوح في مكانه، فمن اين هذا الثراء ياترى ان لم يكن جراء ارتكاب سلسلة الجرائم التي ترتبط مع بعضها كما اشرت في المقدمة لتكوّن جرائم ذوي الياقات البيض.

وهناك امثلة متعددة على تورط هؤلاء في هذه الجرائم لامجال لذكرها هنا، فالمشاريع الصناعية والتجارية والخدمية الضخمة لابد ان تمر من خلال مؤسسات الدولة التي تسيطر عليها الكتل السياسية، اذ تجري اتفاقات مضاعفة في القيمة ومخالفة لقيمتها الحقيقية لكي تذهب الاموال غير المعلنة الى حسابات هؤلاء المسؤولين. فكثيرا ما تُسلّم المشاريع الى الدولة بعد الانجاز بمواصفات هزيلة لاتتطابق مع شروط العقود المبرمة لانجازها، او تفتقد الشروط السليمة والمتفق عليها لتحقيق السلامة والأمان لمستخدميها.

ومن المتابعة اليومية لما يُنشر من المعلومات اعلامياً وما يحدث في الواقع من الصراعات والتراشقات والاتهامات المتبادلة بين بعض الاطراف المشاركة في الفساد الإداري وتسلط الميليشيات بدعم من احزابها والاستحواذ على ممتلكات المواطنين، وفقدان المشاريع التنموية المستدامة، وتخلف الخدمات والمشاريع الصناعية في البلد، والتزايد اليومي لما يمتلكه المتنفذون من العقارات والمشاريع وما يتمتعون به من حياة مترفة وحسابات مصرفية ما هي الا دلائل لتفاقم الج#ريم*ة.

من الأدلة الواضحة على تورط بعض من المتنفذين السياسيين وافراد السلطة التفيذية من أعلى المستويات الادارية في جرائم ذوي الياقات البيض، الاكتفاء بالوعود دون تحقيق شيءٌ ملموس في الواقع، ليس بإمكانهم اتخاذ الإجراءات اللازمة لانهم شركاءٌ في العمليات الاجرامية، والا ما هو واجبهم الأساسي؟ والأخطر ما يدور في عراق اليوم هو اختراق السلطة القضائية من قبل أصحاب النفوذ المشاركين مع منفذي هذه الجرائم من خلال الضغوط السياسية التي تتلقاها، كما ان هناك اختراق للمؤسسة الدينية من كل الأديان والمذاهب جراء الاغراءات المالية التي يتلقاها بعض رجال الدين من بعض المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال، مما يؤدي بهم الالتزام بالحيادية او السكوت تجاه حدث ما، وبل يتم اختراق (الكتاب الهواة) غير الاختصاصيين من قبل ذوي الياقات البيض والسياسيين المتنفذين والأحزاب السياسية لترويج كتابات ومنشورات تتناسب مادتها مع اجندات وايديولوجيات تلك الأحزاب، مع استعداد الكاتب او المؤلف التزوير في المادة المكتوبة او المنقولة مقابل اغراءات مالية لنشر الكتب وترويجها. هذا هو حال العراق اليوم.

ولعل اخطر جرائم ذوي الياقات البيض تلك التي تترك آثاراً مأساوية جماعية من الضحايا الأبرياء كما حدث مؤخراً في بغديدا (قرقوش) مركز قضاء الحمدانية التابع لمحافظة نينوى قاعة الاحتفالات الاجتماعية اثناء إقامة حفلة عرس، اذ نجم عن الحادث اكثر من مئة حالة وفاة واكثر من (150) حالة من الاصابات المختلفة بين الخطيرة والبسيطة، وما تركته من آثارٍ اجتماعية ونفسية وعائلية على ذوي الضحايا آنياً وما ينجم على نحو تلك الاثار مستقبلاً، جراء فقدان شروط السلامة والأمان لتشغيل المشروع الخدمي المذكور من حيث جودة وصلاحية المواد الداخلة في البناء التي يستوجب على أجهزة الدولة ذات العلاقة فرضها لغرض الحصول على إجازة العمل، ولكن يبدو ان تلك الأجهزة الإدارية مخترقة من قبل بعض أصحاب النفوذ من السياسيين وكبار المسؤولين في الدولة لكي تمرر طلبات الحصول على الاجازة تحت ضغوط علائقية سلطوية دون توفر الشروط المطلوبة للمشروع لطموحهم المفرط لكسب الأموال وعدم الاكتراث لما سوف يحدث مسقبلاً جراء هكذا اعمال مُشينة إذ أصحابها مُسيرين بحسب نوازعهم المريضة لضعف المنظومة الأخلاقية في تصرفاتهم. فاذن هناك ميل واحتمالية في رأيي بحسب المعلومات المتسيرة التي كُشفت مبدئياً وتطرقت اليها وسائل الاعلام المختلفة وشهود عيان من الموقع تورط جماعات متنفذة من الأجهزة الإدارية المختصة ومتنفذين سياسيين في ارتكاب جرائم من نوع ذوي الياقات البيض التي باتت من الجرائم المنتشرة والسائدة في العراق اليوم دون ردعها لبقاء منفذيها طلقاء في المجتمع، وفي كل حادثة او فعل اجرامي يُكتشف من هذا القبيل اما يُغض النظر عنه جراء الضغوط وفقاً للعلاقات المقرونة بالاغراءات المالية التي يتسارع البعض لتلقيها كلما سنحت الفرصة، او يكون الضحايا بعضٌ من المؤظفين التنفيذين البسطاء.

طالما تستمر الحالة الشاذة السياسية وتعدد الحكومات داخل الدولة الواحدة متمثلة بالاحزاب السياسية المدعومة من ميليشيات مسلحة التي تؤدي الى ضعف السلطة التنفيذية والقضائية، اللتان اساساً كما ذكرت مخترقتان سوف لن يتم ردع جرائم ذوي الياقات البيض. فما الإجراءات الوقائية التي تدعو اليها الحكومة بعد وقوع الجرائم ما هي إلا مؤقتة وهشاشة لا قيمة لها وتظل حبر على الورق. كما ان وعود المسؤلين في الكشف عن المجرمين ايضاً لن يتحقق بدليل العديد من الجرائم السابقة وقعت ولا يزال منفذيها احرار طلقاء، بل كما ذكرت سينال بعض البسطاء العقاب.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!