الحوار الهاديء

دور الجامعة في ترسيخ ثقافة السلم/ جامعة الموصل أنموذج

دور الجامعة في ترسيخ ثقافة السلم

جامعة الموصل أنموذجٌ

 

د. عبدالله مرقس رابي

        

                 يعد موضوع الثقافة من المواضيع الأساسية المحورية التي تهتم العلوم الإنسانية والاجتماعية في دراستها لارتباطه الوثيق بالمجتمع والمشكلات الاجتماعية والسياسة الاجتماعية للتنمية البشرية، واهمها علم الاجتماع والانثروبولوجيا والخدمة الاجتماعية. والثقافة كمفهوم علمي هو الكل المركب من القيم والتقاليد والعادات والسلوكيات الاجتماعية والدينية والفنون واللغة والقانون والأعراف والعلوم وكافة أنواع المعرفة، ووسائل الإنتاج، وفي ممارسة هذه العناصر لمجموعة بشرية تمنح لها هوية مجتمعية تميزها عن غيرها من المجتمعات البشرية.

ولما كانت النفس البشرية مركبة من مجموعة دوافع وراِثية تختلف من فرد الى آخر في قوتها وعمقها بحسب نظرية الفروق الفردية تدفعها لإشباع حاجات مختلفة لأجل البقاء والاستمتاع من خلال تحقيق لذة ما في ممارسة سلوك معين، ولهذا قد تكون لبعض الدوافع التي تخص قسم من الافراد ذات سمة عدوانية  لها وقعتها المؤثرة سلباً على المجتمع عند الممارسة، وعليه فان العن*ف ظاهرة قديمة في المجتمع البشري لوجود في المكنونات النفسية للبشر دوافع او نزعات تصقلها التنشئة الاسرية وبعض وكالات التنشئة المجتمعية الأخرى كالسياسية والإعلامية، والتعليمية، واحيانا الدينية لتقويتها وتبريرها، وقد تظهر وتختفي أحيانا في المجتمع الواحد بحسب طبيعة العناصر الثقافية التي يتزود بها الافراد وصقل ممارسة اشباع الدوافع باتجاه اللاعن*ف او العن*ف بحسب الرؤى التي يهدفها المجتمع، ومن هذا المنطلق اذن يمكن للجامعة كمؤسسة تعليمية او غيرها ان توجه تلك الممارسات نحو اللاعن*ف لإحلال السلم المجتمعي او ترسيخ ثقافة السلم.

ثقافة السلم: الثقافة التي تحمل في طياتها اللاعن*ف، أي يسودها الحوار والمناقشة مع الاخر المختلف سواء على مستوى الافراد او الجماعات او المجتمعات، بمعنى قبول التعددية على ما هي سائدة في المجتمع جراء عوامل تاريخية واجتماعية ودينية وسياسية، وليس كما يريد الفرد او جماعة ما وتفرض قيمها وتطلعاتها على الجماعات الأخرى. وفي ثقافة السلم يعم السلم المجتمعي والاستقرار للتوافق بين الجماعات والعيش حياة مشتركة على ارض جغرافية معينة، وتنبذ مفهوم التصادم الحتمي جراء أسباب التباين.

كلما ينشط الوعي الإنساني باتجاه الموضوعية والمفاهيم الإنسانية كلما تجنح مواقف المجتمعات الى ثقافة السلم ونبذ العن*ف، فالمواثيق الدولية للتأكيد على حقوق الانسان ما هي الا مؤشرات هذا الوعي المتنامي من حيث حرية التعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية والانتمائية، واحترام حقوق المرأة والطفل وترسيخ قيم التسامح والحوار والعدل وسيادة القانون، أي احترام حقوق الانسان الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والانتمائية.

دور جامعة الموصل: لتكتمل الفكرة من المقال، سوف أشخص آليات وعناصر ثقافة السلم بربطها مع ما تقدم اليه جامعة الموصل في هذا الإطار، تلك الجامعة التي تعد اليوم من أكبر المراكز التعليمية والبحثية في العراق وثاني أكبر جامعة حكومية بعد بغداد والتي تأسست عام 1967 وتاريخها حافل بالعطاء العلمي في مختلف المجالات المعرفية وتفاعلها مع المجتمع المحلي.

تعد المؤسسة التعليمية بمختلف مراحلها الدراسية من اهم وكالات التنشئة الاجتماعية بكل ابعادها التي يتعرض لها الفرد مباشرة بعد المؤسسة الاجتماعية الاسرية، ولما كان موضوع المقال، المرحلة الجامعية، سأركز على دورها في ترسيخ ثقافة السلم.

لا تهدف الجامعات اليوم تخريج عدد من الطلبة المؤهلين لممارسة اختصاصات معرفية علمية وزجهم في المجتمع فحسب، بل من أهدافها الأساسية التفاعل المباشر مع المجتمع المحلي الذي تقع الجامعة ضمن حدوده الجغرافية والاجتماعية لمواجهة الازمات والمشاكل المختلفة التي يتعرض اليها، ومنها ازمة ما تخلفه الحروب الداخلية الاهلية، فتساهم في إعادة التأهيل للمجتمع المحلي لخلق ثقافة الاستقرار والسلم والتضامن وقبول التعددية لفئات المجتمع واحترام الاخر المختلف وتوفير سبل التنمية المستدامة في مختلف نواحي الحياة. كما انها تحاول محو الاثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للحرب، ووضع برامج لتشخيص مآسي الحروب ونتائجها المدمرة، وثم وضع برامج لمواجهة الصراعات الداخلية المستقبلية. ولمجرد متابعة الأنشطة والفعاليات الاجتماعية والثقافية لجامعة الموصل يدرك المتابع مدى مساهمتها الإيجابية الفعالة لتحقيق الأهداف المُشار اليها.

إضافة الى توعية الطلبة في توجيه مواقفهم الشخصية نحو ممارسة القيم والسلوكيات التي ترسخ ثقافة السلم من خلال مناهجها وندواتها ومؤتمراتها والبحوث الميدانية المطلوبة كجزء من متطلبات نيل الشهادات الدراسية العليا. تقوم جامعة الموصل بممارسات تفاعلية في المجتمع المحلي وليس فقط عن طريق تزويدهم بالمعرفة والمعلومات بل التدريب على ممارستها. فهي توجه برامج اعداد البحوث لمواضيع تخص ترسيخ ثقافة السلم والسلم المجتمعي، والمتمثلة بالدرجة الأساس في الدراسات الإنسانية والاجتماعية واخص بالذكر في علم الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس والاعلام والتاريخ والقانون ومن هذه الدراسات الميدانية بعد تحرير الموصل من (د*اع*ش) كأمثلة في قسم الاجتماع عن السلم المجتمعي الذي هو أحد اركان ونتاج ترسيخ ثقافة السلم.

الاندماج الاجتماعي للثقافات الفرعية وعلاقته بالسلم المجتمعي. الج#ريم*ة وانعكاساتها على الامن المجتمعي. السلم المجتمعي وانعكاساته على التنمية الاجتماعية. تحويل النزاع وبناء السلام. اعمار المناطق المحررة وانعكاساته على السلم المجتمعي. بناء السلام الرقمي، دراسة تحليلية. التكامل الاجتماعي ودوره في تعزيز السلم المجتمعي، العدالة الاجتماعية وانعكاساتها على السلام، مشاريع تنمية الأقاليم ودورها في تعزيز السلم المجتمعي.

وعلى صعيد الندوات العامة العلمية، عقدت في 17/ 1/2019 جامعة الموصل/ كلية الآداب / قسم الاجتماع بالتعاون مع (بيت الحكمة للدراسات) في بغداد، المؤتمر العلمي السابع للقسم تحت عنوان (المشكلات الاجتماعية والنفسية للمجتمع الموصلي لما بعد د*اع*ش، الواقع والمعالجات)، شارك العديد من أساتذة القسم من كلا الجنسين في بحوثهم الميدانية المقننة التي تناولت المشاكل الاجتماعية والتداعيات النفسية للعديد من الظواهر السلبية التي خلقتها الأوضاع السياسية الحالية ما افرزته سيطرة الار*ها*ب على المدينة من أوضاع مأساوية بعد التحرير. ركزت تلك الدراسات على تحقيق السلام المجتمعي والمصالحة الوطنية، وتعزيز هيبة الدولة واحترام الحقوق الأساسية للإنسان. ومن اهم نتائجه:

لا يتم الاعمار والتنمية دون إعادة الاستقرار وضمان الامن والطمأنينة لأفراد المجتمع المحلي في مدينة الموصل وفي محافظة نينوى التي تضم تنوع لثقافات فرعية دينية ومذهبية واثنية.

ان إعادة الاعمار هي اشمل من بناء الجسور والطرق وغيرها، بل تعني بالدرجة الأساس بالإنسان المتضرر الأكبر، بالتأكيد عن طريق إعادة بناء وتأهيل شخصيته من خلال محو الأثار النفسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب.

ومن نتائجه، ان عملية طرد التنظيم الار*ها*بي ربما لن يكون كافياً مالم يتم تأسيس نظام تشاركي يقوم على تمثيل الجماعات والطوائف والقوميات المختلفة وتبني مبادرات تضمن السلم الأهلي وبناء مؤسسات الدولة القوية المسلحة بالقانون ومحمية من جيش وقوات امنية نظامية.

ان التنمية والسلام والامن وحقوق الانسان أمور مترابطة يعزز كل منها الاخر، فهناك حاجة الى اتباع منهج منسق ومتكامل لبناء السلام والمصالحة في مرحلة ما بعد انتهاء د*اع*ش، يهدف الى تحقيق السلام المستدام ويصبح فعالا باتجاه عدم ارتداد المجتمع للعن*ف مرة أخرى، بعد اخذ بنظر الاعتبار جملة من المعايير اهمها: القبول المجتمعي، عدالة التسويات السلمية وتوازنها واشتراك الجميع في بناء السلام، ومعالجة الهواجس والمخاوف والشعور بالظلم لمختلف المكونات القومية والدينية والمذهبية والاثنية والثقافية.

وتعد زيارة رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور (قصي كمال الدين الاحمدي) لغبطة الكاردينال مار لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية في 23/ 12/ 2021 مؤشراً هاماً لدور الجامعة في ترسيخ ثقافة السلم وقبول التعدد، كما تأتي أهميتها في إطار النشاطات الفكرية والميدانية لغبطته في سياق ترسيخ ثقافة السلم والانتماء الوطني وقبول التعدد، ولهذا أكد الطرفان على ترسيخ هذه الثقافة واشادة بعضهما بالبعض لتماثلهما في انشطتهما الفكرية والإنسانية ودورهما في المجتمع.

ومن ابرز الممارسات العلمية التي تخص ترسيخ ثقافة السلم على مستوى المجتمع البشري هو المؤتمر العلمي العاشر لكلية الآداب، تحت عنوان (ثنائية الشرق والغرب واثرها في التواصل الحضاري) الذي عُقد في 1-3 / 2022 الذي شاركت فيه معظم الأقسام العلمية في الكلية، إضافة الى أساتذة من الجامعات العراقية ومصر والجزائر وفرنسا وكان المؤتمر برعاية ودعم من الفرنكوفونية، وكان لي الشرف للمشاركة في المؤتمر تجاوباً للدعوة الموجهة، فتم قبول بحثي الموسوم (دور الاعلام المعاصر في ترسيخ ثقافة قبول الاخر/ تحليل سوسيولوجي)، الا انه بعد انهاء البحث حالت ظروفي الصحية دون المشاركة الفعلية لوقائع المؤتمر.

واليوم، الثامن من أيار لعام 2023 عقدت كلية الآداب ممثلة بقسم الاجتماع وبالتعاون مع بيت الحكمة -بغداد وكرسي اليونسكو- جامعة الموصل، ضمن فعاليات ونشاطات أسبوع كرسي اليونسكو في قاعة المنتدى الثقافي والادبي تحت عنوان (آفاق تعزيز المصالحة والسلم المجتمعي في المناطق المحررة) وعلى إثر الدعوة الموجهة لي للمشاركة، ولعدم تمكني، ارتأيت كتابة هذه المقالة اكراماً لهذه الجامعة العريقة ودورها الفعال في المجتمع.

تتضمن الفعاليات الفكرية والميدانية لجامعة الموصل العديد من الآليات والمقومات التي ترسخ ثقافة السلم، ولعل أبرزها:

ترسيخ مفاهيم الثقافة الوطنية والانتماء الوطني التي هي جزء من الثقافة العامة لتوحد التنوع الثقافي في المجتمع العراقي في مسارات فكرية واجتماعية مشتركة، لتكون المرجع الأساسي لبناء منظومة أخلاقية وقيمية وسلوكية ومواقف موحدة بغض النظر عن الانتماء للثقافات الفرعية الدينية والمذهبية والاثنية والجغرافية الإقليمية والطبقية لمواجهة التحديات. تسود قوة القانون وحمايته وطنياً بواسطة الجيش والقوات الأمنية ذات الولاء الوطني وليس الطائفي او الاثني. كما انها تنبذ الممارسات الولائية الطائفية والسياسية المحدودة الممثلة بالأحزاب. تساهم جامعة الموصل في تعزيز الروح الوطنية على مستويين، أولهما في اعداد الطلبة فكرياً وعملياً لترسيخ الثقافة الوطنية ليكونوا جيل المستقبل الذي ينخرط في رسم السياسة الاجتماعية في البلد في مختلف جوانبها، وثانيا من خلال الممارسات الميدانية الانية وتفاعلها الديناميكي مع المجتمع المحلي لتجاوز ازماته وترسيخ مفاهيم ثقافة السلم التي احدى عناصرها هي الثقافة الوطنية.

مشاركتها مع منظمات المجتمع المدني ومراكز البحث المحلية والدولية التي تخطو خطوات هي الأخرى في ترسيخ قيم ثقافة السلم المتمثلة في توعية أهمية الحياة المشتركة للثقافات الفرعية في المجتمع وقبول الاخر على ما هو عليه، وليس كما يتطلع المختلف لوحده وما يؤمن به. ونبذ العن*ف وتشخيص آثاره المأساوية في تخلف المجتمع، وتحقيق هذه الثقافة والسلم المجتمعي يحقق الانسجام والتضامن والتماسك الاجتماعيين والاستقرار والحد من الجرائم والاضطهادات والنزاعات الداخلية وتحقيق العدالة الاجتماعية وحوار الحضارات، كلها تساهم في تعزيز عملية ازدهار المجتمع وتطوره.

تسعى جامعة الموصل من خلال فعالياتها في هذا الشأن الى تغيير الاتجاهات والمشاعر والسلوكيات لتتوافق مع ثقافة السلم والى جانب غرس المفاهيم، تقوم بالممارسة الفعلية من خلال مشاركة افراد من الثقافات الفرعية المختلفة وليس تزويد المتلقي والممارس بالمعلومات النظرية فقط.

تحقق جامعة الموصل التنمية المستدامة للمجتمع المحلي من خلال وضع سبل الوقاية من نشوء النزاعات المستقبلية، ومن خلال انعكاس فعالياتها في تعزيز الثقة بالنفس لجميع الأطراف وضبط النفس، وتحسين البيئة، وترسيخ مفاهيم حقوق الانسان في المساواة والتعايش السلمي، وتنمية المهارات التي تمحو صدمة الحرب الاهلية.

تساهم في تعميق فكرة اعتماد على الذات في ترسيخ ثقافة السلم والتعايش محلياً واقليمياً، أي عدم الانتظار في عملية التغيير ما بعد الحرب على الحكومة المركزية، بل على الذات المحلية في ضوء التشريعات القانونية.

يتجلى دور جامعة الموصل في ترسيخ ثقافة السلم في تعميق دور الأقسام العلمية المتمثلة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا والخدمة الاجتماعية والاعلام والتاريخ والقانون والسياسة لكونها فروع المعرفة العلمية التي تمكنها من تشخيص عوامل الترسيخ لهذه الثقافة وممارستها في ضوء المواد المنهجية التي يتلقاها الطلبة، إضافة الى تشجيع حركة التأليف والبحث ووضع البرامج المنوعة ميدانيا والاعمال الفنية التي تعكس عناصر ثقافة السلم التي تصب في عملية بناء الانسان.

وبناءً على هذا الدور الكبير الذي تؤديه جامعة الموصل في ترسيخ ثقافة السلم وبناء السلم المجتمعي، وقد حصلت على كرسي اليونسكو.

أتمنى من الحكومة المحلية في محافظة نينوي والحكومة المركزية وحكومة الاقليم ان لا تخطو كما هي حكومات البلدان النامية التي تعتمد على افكار السياسيين المحدودة والضيقة التي تمثل احزابهم في وضع برامج التنمية والسياسة الاجتماعية في البلد وعلاقاتها الدولية، بل اعتمادها على النتاجات الفكرية للباحثين والأكاديميين في المؤسسات التعليمية الجامعية ومراكز البحوث، مثلما تعمل الحكومات في الدول المتقدمة، وقد اكدت الدراسات في هذا الشأن ان أحد اسرار تقدمها هو الاعتماد على نتائج بحوث الجامعات والمعاهد المختصة، وتخلف البلدان النامية وتراوحها في مكانها هو اعتمادها على السياسيين وتطلعاتهم الضيقة فقط. كما أتمنى ان تدع هذه المؤسسات ان تستمر في مشوارها دون التدخل في شؤونها وبرامجها التنموية.

تحية لكادر جامعة الموصل من الأساتذة والطلبة والاداريين والفنيين في مختلف كلياتها واقسامها العلمية، مع تمنياتي لها بمزيد من التقدم العلمي والازدهار لأجل التنمية المستدامة لمجتمعنا وبلدنا العزيز العراق.

د. عبدالله مرقس رابي

كندا في 7/ 5/ 2023

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!