الحوار الهاديء

سفر برلك في رؤية الاحفاد تقديم وتقييم كتاب

د. عبدالله مرقس رابي    

 

سفر برلك

في رؤية الاحفاد

تقديم وتقييم كتاب

د. عبدالله مرقس رابي

                      تعد عملية تقديم الكتاب وتلك المقترنة بتقييمه مهمة لكل من القارىء والمؤلف نفسه، فهي وسيلة لتعريف القارىء المهتم بالموضوع بمحتويات الكتاب، وهل ستلبي أحتياجاته مما يبحث عنه. وعليه بعد ان وصلني الكتاب الموسوم ( سفر برلك ،مذابح ومجازر واضطهادات العثمانيين للكلدان والاشوريين والسريان والارمن 1914 – 1918 ) كهدية من المؤلف الكاتب (يوحنا بيداويذ)، وبعد مطالعتي الكتاب حفزتني محتوياته للتفكير بتقديمه وتقييمه من منظور سوسيولوجي. حيث تختلف طريقة الطرح والتحليل لما قرأت سابقاَ من المصادر المختلفة عن الموضوع نفسه، وسيتبين هذا الاختلاف فيما أقدمه من تحليل عن الكتاب .

يقع الكتاب (الطبعة الاولى ) لعام 2017 المطبوع في ملبورن الاسترالية من قبل مطبعة (تيك أوف ديزاين) في 416 صفحة من القطع المتوسط موزعة على مقدمة وخمسة فصول وملاحق وخاتمة. ويظهر جلياَ أن الهدف من الكتاب هو تسليط الضوء على المذابح والمجازر والتهجير القسري للاقوام المسيحية من الارمن والكلدان والاشوريين والسريان الذين يتميزون بعمق تاريخي موغل بالقدم في المنطقة قياساَ لغزاة بلادهم حديثاَ من الاتراك والاكراد أو العرب. ليكشف لابناء هذه الاقوام المنتشرين في بقاع العالم المختلفة تلك المسيرة المؤلمة من الاضطهاد في تاريخ أجدادهم، ولما كانت اصول المؤلف يوحنا بيداويذ ترجع الى واحدة من تلك القرى الكلدانية التي تعرضت الى الاضطهاد والتهجير القسري”بلن” ،شعر بمسؤولية أخلاقية وانسانية ليُضيف جهداً أخراً الى الموضوع وليساهم في بناء تصور شمولي عنه.

  خصص الفصل الاول المعنون( أحوال المسيحيين وتاثرها بأعمال الصفويين والعثمانيين )ليقدم للقارىء فكرة عن احوال المسيحيين في بلادهم قبل فترة موضوع البحث، أي قبل 1914 ليبين أن الاضطهادات والابادات الاجماعية والتهجير لم يبدأ مع فرمان سفربرلك العثماني وانما يمتد تاريخياَ منذ دخول الاقوام المذكورة في المسيحية فاضطهدوا لانهم مسيحيون، وسلط الضوء على العديد من الاحداث التاريخية المؤلمة التي تعرض لها المسيحيون للق*ت*ل والتشريد على أثر الصراعات بين الصفويين والعثمانيين. ومنها حملة الشاه اسماعيل الصفوي عام 1507 – 1508 وحملة نادر شاه الاولى على بغداد والموصل وسهل نينوى عام 1732 والثانية عام 1743، وحملة ميراكور (محمد آغا الراوندوزي عام 1833 التي امتدت وشملت كل القرى والمدن المسيحية من عقرة الى ماردين، وحملة اسماعيل باشا أمير بهدينان على القوش عام 1842 وثم حملة بدرخان الاولى على أبناء الكنيسة النسطورية الشرقية في حكاري عام 1843 – 1846 وثم حملته الثانية على تياري تخوما عام 1846. اضافة لاحداث متفرقة اخرى مؤلمة بحق المسيحيين في الفترة ما قبل الحرب العالمية الاولى 1914. ذكرها الكاتب ليتواصل في الفصول الاخرى ليسرد ويحلل ما تعرض له المسيحيون من الارمن والكلدان والاشوريين والسريان على أثر فرمان أو قانون سفربرلك العثماني .

فالفصل الثاني  الذي عنونه (الارمن) خصصه لسرد الاضطهادات التي تعرض اليها الارمن، مبتدأً بلمحة تاريخية عنهم ليعرف القارىء من هم الارمن. وأما الفصل الثالث خصصه للكلدان، وبعد أن وضع مدخلاً مقتضباً عن تاريخهم وأصولهم الحضارية والجغراقية، أعرج الى الاضطهادات التي تعرضت لها قراهم المنتشرة في المنطقة على أثر سفربرلك، بينما كتب في الفصل الرابع عن الاضطهادات التي تعرض اليها الاشوريون في المنطقة مستهلاً ايضاً الفصل بمدخل تاريخي مختصر عن الاشوريين واصولهم الحضارية وتاريخ امبراطوريتهم في بلاد النهرين، وجاء السريان في الفصل الخامس، واستعرض الاضطهادات التي تعرضوا لها كغيرهم من الاثنيات الاخرى على أثر سفربرلك بعد أن قدم ملخصاً عن تاريخهم واصولهم الحضارية  الارامية والجغرافية وتأثير لغتهم في المنطقة. وتوج الكاتب كتابه بخاتمة رائعة للتعبير عن رأيه وتحليله لموضوع الكتاب وهذه ميزة منهجية مهمة لكي تتضح شخصية الكاتب عن ما كتبه وان لا تقتصر على السرد القصصي التاريخي كما يفعل البعض. وثم الملاحق المهمة التي تخص الموضوع وقائمة المصادر المتنوعة من الحديثة والقديمة الاساسية ومنها تلك المكتوبة من قبل مهتمين عايشوا سنوات الاضطهاد والتهجير القسري والمذابح وكانوا شهود عيان لما جرى آنذاك، مثل كتاب”هل ستفنى هذه الامة للاب جوزيف نعيمة”وكتاب الاب اسحق ارملة”القصارى في نكبات النصارى” والمكتوبة باللغة العربية والانكليزية .

ما تميز به الكتاب

تميز الكتاب بشمولية التغطية للموضوع وابدع بها الكاتب يوحنا بيداويذ بجدارة فائقة من حيث المصادر والاهتمام بالحواشي التي تضمنت توضيحات لمواضيع ذات الصلة بالاحداث، والتنظيم للفصول ومتابعة الاحداث بتسلسل منسق واضح مقروناً بالوثائق المكتوبة من قبل المسؤولين في الدولة العثمانية التي تشمل المخاطبات بينهم والكتب الرسمية الصادرة من الدوائر الرسمية، وثم وثائق لحكومات أجنبية التي تلقت مناشدات من القادة الروحانيين أو المدنيين في المنطقة للتدخل في وضع نهاية لتلك المأساة والاوضاع الرهيبة. ولعل اهم وسيلة اخرى اعتمدها الكاتب هي تلك القصص والروايات التي سمعها مباشرة من كبار السن الذين نجوا من تلك الابادة بحكم كونه كما ذكرت من أهالي المنطقة المنكوبة أو تلك القصص التي دونها العديد من هؤلاء. وكما زود الكتاب بالارقام الاحصائية المنظمة بجداول مرتبة تجسد مدى عمق تلك المآسي. أضافة الى الصور التي تعد مستمسكاً صريحاً للابادة وصحة المعلومات، منها الصور الشخصية للقادة الذين كان لهم دوراً أجرامياً لتشريع القوانين للتهجير القسري واسالة دماء الابرياء من المسيحيين، والصور الشخصية لابرز القادة من الضحايا الروحانيين والمدنيين ومثلها صورجماعية تكشف آثار الجرائم التي تعرض لها الضحايا. مما تعكس كل هذه الادوات بعداً منهجياً سليماً لمصداقية التحليل وموضوعيته.

من الابداعات التي تميز بها المؤلف هي تخصيص مدخلاً لكل فصل مستعرضاً فيه الاصول الجغرافية للاثنيات موضوع الكتاب من الارمن والكلدان والاشوريين والسريان أضافة الى عمق تواجد حضارتهم الراسخة في المنطقة وأنجازاتهم وتأثيراتهم الثقافية والعلمية واللغوية. ومثل هذه الخطوة قلما نجدها في المصادر التي تحدثت عن الموضوع ذاته، فهنا قدم الكاتب يوحنا بيداويذ صورة جلية للقارىء ورسالة واضحة له وبالاخص القارىء من غير المشمولين بالاضطهاد، مفادها أن المسيحيين الذين تعرضوا للمذابح وتشريدهم وتهجيرهم عن قراهم ومدنهم هم الاقوام الاصيلة واصحاب الارض ومالكيها منذ الاف السنين ولا يمكن قياس فترة تواجدهم مع تلك الفترة القصيرة التي تواجد بها الظالمون الجناة الغرباء عن الارض من الترك والكورد والعرب الذين شاركوا بتلك المذابح، وانهم جاؤا بقسوتهم ولظروف تاريخية واستولوا على الارض التي لا وجود لهم عليها في العهود القديمة. كما أنهم أهل الدار والارض قبل دخولهم بالمسيحية، ولا يرتبط وجودهم بالارض مع زمن الايمان بها. وتميز بوضع تسمياتها الاثنية كما هي في الواقع بعيدة عن الالغائية والاسقاطات التسموية التي اشغلت العديد في ايامنا هذه دون جدوى، مما يعد ذلك مؤشرا مهما للمؤلف في حيادته وموضوعيته واحترامه للجميع.

تأتي محاولة المؤلف في تدوينه للمواقف الانسانية التي تبناها بعض الاهالي والوجهاء والقادة المحليين من شيوخ العشائر والرسميين من الاكراد والاتراك في المنطقة تجاه المسيحيين المضطهدين خطوة ومؤشر موضوعي، مما تترك عند القارىء انطباعاً ايجابياً عن حيادية المؤلف ونقل المعلومة كما هي لا كما يجب .

تأتي أهمية الكتاب وتميزه عن غيره، أعتبار المؤلف يوحنا بيدايذ مستقلاً عن أية أنتماءات أيديولوجية سياسية بحسب علمي وهذا كان جلياً في طرحه وتحليله للموضوع، فالكاتب الذي لا يرتبط بحزب سياسي أو ايديولوجية معينة يكون أكثر موضوعياً وحيادياً من غيره في تدوين المعلومات وتحليلها وأخص بالذكر في المواضيع التاريخية والاجتماعية الانسانية القابلة للاجتهاد والتأويل تأثراً بالانتماءات السياسية للكاتب التي تقيده للكتابة وفقاً لسياقات وأهداف الجهة التي ينتمي اليها.

أهم ما يتميز به موضوع الكتاب هو أثارته لظاهرة أجتماعية أساسية لها دورها في استقرار المجتمعات البشرية من عدمها وهي التمييز الديني مقترنة مع التمييز العنصري الاثني العرقي. فالمضطهدون على أثر قانون سفربرلك كانوا ضحية للاسباب دينية بالدرجة الاساس وثم الاختلاف العرقي الاثني لهم عن الجناة المنفذين للمذابح والتهجير القسري. فتبين أن التمييز الديني من الاسباب الرئيسة الاساسية في نشوب الصراعات بين الحضارات على مر الازمان، ولا تزال متأصلة في عقلية الانسان المسلم بدليل ما تعرض له المسيحيون والايزيديون للاضطهادات في السنوات المتاخرة في ظل غياب القانون والحكومة المدنية القوية في العراق وأجزاء اخرى من الشرق الاوسط. ومثلها التمييز على الاساس الاثني لا يزال قائما بين المجتمعات وسبباً مأساوياً لنشوب الصراعات والابادة الجماعية في مختلف مناطق العالم.

فالكتاب هو رسالة للجميع أن هكذا أحداث تاريخية تبنتها الاقوام ضد الاخرين المختلفين عنهم  دينياً وأثنياً وفي عقر دارهم وباستمرار ليومنا هذا تعكس سلباً على عملية التعايش السلمي بين الشعوب على أختلافهم وتحول دون تحقيقها. كما أن الكتاب يحمل في طياته ومضمونه بعداً سياسياً وبشرياً لانتهاك حقوق الانسان من خلال تحليله لتجارب من هذا القبيل ووضعها أمام المسؤولين وقادة المجتمعات لعلهم يتقون شر ظواهر التمييز الديني والعنصري التي تتكرر في مجتمعاتنا اليوم.

بالرغم من الدقة والتنسيق والحرص والموضوعية التي ألتزمها الكاتب يوحنا، الا أن الكتاب لا يخلو من بعض نقاط الضعف أو ربما هي أشكالات بسيطة لا تؤثر في أية حال على أهمية الكتاب وجودته وحياديته، ولا تعد مثل هذه الملاحظات هدفاً لانتقاص من أمكانية الكاتب، أنما أضعها أمامه وقد يستفيد منها في مشاريعه الكتابية القادمة اذا رغب فيما أقدمه ومنها:

كان الاجدر والافضل أن يحدد معنى كلمة “سفربرلك” التي هي عنوان الرئيسي للكتاب، معناها الحرفي اللغوي والتفسيري، فهناك العديد لايعي ما المقصود بها، انما اصبحت كلمة مقترنة باحداث ومذابح المسيحيين في الحرب العالمية الاولى من قبل العثمانيين. ومن الضرورة التمييز وبيان ما المقصود بمفردتي المذابح والمجازر اللتان وردتا في عنوان الكتاب وفي رايي هما مرادفتان. كما كان من الضرورة  تعريف القارىء بالصفويين ليتمكن من تمييزهم عن العثمانيين قبل تناوله لصراعاتهم.

بالرغم من التنسيق والدقة في سرد المعلومات، الا ان الكاتب وقع بتكرار متعدد للاحداث وبعض المعلومات. كان السبب هو التزامه في تصنيف الفصول ومتابعة الاحداث في الفترة المذكورة بحسب الاثنيات، وبما ان التوزيع الجغرافي لاثنيات موضوع الكتاب من الارمن والكلدان والاشوريين والسريان متداخل في المنطقة وعليه عندما تحدث عن أضطهاد الارمن مثلا في آمد أضطر أن يذكر شيئاً عن الكلدان وعندما تحدث عن كلدان ماردين كرر معلومات عن الارمن والسريان، وهكذا في الفصول الاخرى، وكان بامكان الكاتب معالجة التكرار لو أتبع تصنيف الفصول بحسب المناطق الجغرافية الاساسية التي تواجدت الاقوام المضطهدة فيها. ومن التكرارات أيضاً تحدثه عن اللغة الارامية لاكثر من مرة.

ولما كان الكتاب حصراً وتحديدا عن المذابح والتهجير القسري الذي تعرض اليه الاقوام المذكورة وبحسب العنوان الرئيسي للكتاب، كان على الكاتب تجنب الخوض والخروج عن الموضوع الاساسي في طرحه لبعض المواضيع التي لم ار وجود مناسبة لذكرها وتحليلها في الكتاب لكي لا تشتت متابعة القارىء للموضوع والخروج بتفكيره وتركيزه على تلك المواضيع ومنها:

الحديث عن الانشقاقات الكنسية، ومشكلة آل أبونا، والاتحاد مع روما وظهور الكنيسة الكلدانية، وقدوم المبشرين الى المنطقة.

تعرجه لموضوع التسمية وأشكالياتها بين الاثنيات الثلاث الكلدان والاشوريين والسريان، وموضوع اللغة.

وبما انه قدم صورة لاضطهاد المسيحيين قبل عام 1914 وخصص فصلا كاملا عنها، كان من الاجدر الاشارة الى الاضطهادات التي تعرضوا اليها أبان الدولة الفارسية.

ذكر الكاتب لبعض المواقف الانسانية لشيوخ وشخصيات كوردية وتركية ضد المذابح والتعاون مع المسيحيين بعد نهاية الفصل الاول الخاص بالارمن، طالما وكما تبين أن مواقفهم هذه أشتملت جميع الاقوام المذكورة علية كان من الافضل درجها بعد نهاية الفصل الاخير.

وأخيرا لايسعني الا ان أشكر الكاتب القدير يوحنا بيداويذ لهديته القيمة التي بعث بها لي من استراليا ، وشخصياً ليست لي معرفة مباشرة معه، الا اني تعرفت عليه من خلال كتاباته القيمة ونشاطاته التي يبذلها من أجل خدمة شعبنا. وهي كتاب قيم ومهم جداً أعجبني واستفدت من محتوياته. ففي الحقيقة لايمكن الاستغناء عنه كمصدر للباحثين المهتمين باحوال شعبنا وفي مجالات معرفية علمية متعددة منها السياسة والقانون والاجرام وحقوق الانسان والاجتماع والتاريخ والاعلام. وعليه أتمنى من القارىء الكريم محاولة أقتناء الكتاب لاهميته وجودته .

مع تمنياتي بالتوفيق والنجاح الباهر للكاتب يوحنا بيداويذ في مشاريعه المعرفية القادمة.

كندا في

31/07/ 2018

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!