مقالات

سلامة موسى …. من رواد الفكر التنويري العربي

قامت ثورة الضباط الأحرار ضد النظام الملكي في مصر عام 1952 وتولت زمام الحكم في البلاد، ثم توالت خطوات التوجه نحو الإشتراكية التي بدأت بالإصلاح الزراعي الموجه نحو تقنين ملكية الأراضي الزراعية، ثم توالت الخطوات التي كان أبرزها تأميم قناة السويس، وإقرار دستور الدولة الذي يعتمد الإشتراكية منهجا للحكم. وبغض النظر عن تفاصيل التجربة الإشتراكية في عهد جمال عبد الناصر، ما لها وما عليها، فإن هذا التوجه نحو الإشتراكية في مصر لم يكن أصيلا، فقد سبقه المفكر المصري “سلامة موسى” رائد مبادرة تأسيس حزب اشتراكي في مصر في مطلع عشرينيات القرن العشرين. لذلك تم تخصيص هذا المقال ليتناول شخصية المفكر سلامة موسى وأبرز معالم مشروعه الفكري استنادا إلى موسوعة “أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر”، كمصدر رئيس، وهي من تأليف الدكتور أيوب أبودية وصدرت في طبعتها الأولى عام 2008 عن وزارة الثقافة الأردنية.
ولعل أبرز ما يلفت النظر بعد هذه المقدمة، أن سلامة موسى المولود عام 1887كان قد نشأ في أسرة قبطية من صعيد مصر، وكان لهذه الأسرة “عبد رقيق” في مرحلة سبقت مولده، وخادم في مرحلة أخرى، وهي دلالات تشير إلى الثراء النسبي للعائلة التي نشأ سلامة موسى فيها. أماعلى الصعيد الفكري فقد تأثر موسى مبكراً بمجلة “المقتطف”، وبيعقوب صروف الذي وجهه إلى طريق العلم ، وشبلي الشميّـل الذي وجهه إلى رفض الغيبيات، وإلى الدعوة إلى حرية المرأة، ووضح له نظريّة التـطور. وفيما فتح له فرح أنطون آفاق الأدب الأوروبّي، فإن أحمد لطفي السيّد مكنه من أن يكون وطنـيـّـاً في مصر. وبالرّغم من ذلك كلـّـه، فقد عزم على السّـفر إلى أوروبّا في عام 1907 . وقد قصدها على غير وجه تعليمي محدّد، سوى الحصول على الثـّـقافة العصريّة، حيث انبهر بالحياة الأوروبية حدا أشعره ببعض القصور فيما قدمه له أساتذته وموجهوه الذين تقدم ذكرهم في مصر.
بدأ سلامة موسى حياة الإغتراب في باريس، ثم انتقل إلى لندن بعد سنتين، ومكث فيها لغاية عام 1910، وقد صادف وجوده في إنجلترا الثورة الفكريّة التي قادها المفكرون على التـّـقاليد “الفيكتوريّة” الجامدة. وكانت الجمعية الفابية بزعامة ولز، وبرناردشو قد حملت لواء نشـر الاشتراكيّة بين الأغنياء والميسورين. وأيضاً،جمعيّة العقليّين، التي قرأ سلامة موسى تبسيطاتهم العلميّة واكتشافاتهم المناهضة للعقائد الدّينيّة، والتي انتفع بها في مشروعه الفكري فيما بعد
تلقى سلامة موسى ابن الأسرة الثرية صدمة حضارية في غربته أثناء وجوده في أوروربا، في العقد الأوّل من القرن العشـر ين، وذلك رغم ما تلقاه من توعية وتوجيه من قبل عدد من رواد الفكر المصـريين الذي تقدم ذكرهم في هذا المقال ، وقد صبغته هذه الصّدمة كمفكر مادّي اشتراكي، شابته الاعتقادات الفابيّة التي وجدها مناسبة لمناهضة الاستعمار والرّجعيّة معاً. كما وجد سلامة موسى أسلحته الملائمة لمقاومة الغيبيّات في نظريّة التطور، التي اعتنقها بضراوة، واتـّخذها منهجاً له في الحياة.
إلا أن سلامة موسى لم يتوقف عند هذا الفكرة الأولية عن الإشتراكية التي اتسمت بالطوباوية، وإنما خاض عددا من المراحل الفكرية خلال نحو خمس عقود من العمل السياسي والفكر، إذ تعرض خلالها للملاحقة والسجن بتهمة الشيوعية والدعوة إلى الجمهورية، مع أنه لم يعلن عن ماركسيته قبل عام 1952، إلا أنه أشار إلى تأثره بكتابات ماركس في أكثر من موقع، حيث تميزت كتاباته في بعض المراحل بنغمة ثورية لم يكن قد عبّر عنها من قبل، سيما في كتابه “مختارات سلامة موسى – الجزء الثالث”، وما لبثت أن اتضحت أكثر في كتابه “تربية سلامة موسى” في أربعينيات القرن العشـرين ، خصوصا بعد خروجه من السجن.
رأى سلامة موسى تدعيم العلاقات النضالية بين المثـقـّـفين والطبقة العاملة المصرية عبْر الأدب والفكر، ودعا إلى تعميم العلم، ومع ثورة 1919، التي شاركت فيها جماهير الشعب كلها، ظن أنّ الوقت قد حان لتنظيم العمل السّياسي الاشتراكي، فشكـّـل حزباً عام 1920، ما لبث أنْ طـُورد أعضاؤه. فاتـّجه، في منتصف العشرينيّات، إلى الأحلام الاشتراكيّة اليوتوبيّة على غرار ما دعى إليه أفلاطون في “مدينته الفاضلة”، وكذلك الفارابي، ثم تدرَّج إلى حلم اشتراكي أكثر واقعيّة في كتابه “الدّنيا بعد ثلاثين عاماً”، نحو عام 1930.
إنّ ترويج سلامة موسى لفكرة إمكانيّة تحقيق الثـّورة الاشتراكيّة في الأطراف التـّـابعة، وتساؤلاته الرّائدة حول كيف يمكن أن تكون الاشتراكيّة في مصر، شكـّلت –في اعتقاد بعض المحللين – تجاوزاً مهمّـاً للنـّظرة الماركسيّة التـّقليديّة التي كانت تتعامل مع الواقع العربي نصوصيّـاً. كانت هذه نتيجة طبيعيّة لمفكـّـر أصيل لتحقيق مشروعه الإشتراكي، لأنّ القوى السّياسيّة والوطنيّة التي سيطرت على السّاحة المصريّة آنذاك لم تحقـّـق الطـّـموح المنشود، إذ بقى حزب الوفد، مثلاً، ممالئاً للإنجليز وللملكيّة معاً. وعمد إلى تطوير البعد الوطني الذي يدعو إلى التحررمن الإستعمار، أكثر من البعد التـّحويلي الاجتماعيالداعي إلى الإشتراكية في مصر.
بدأ سلامة موسى يهدف إلى تدعيم العلاقات النـّضاليّة بين الفئة المثـقـّـفة والطـّـبقة العاملة. وبذلك أصبح موقفه السّياسي أكثر وضوحا، وغدت أهمّـيّة التـّـنظيم أساسيّة لديه مرّة أخرى، إلا أنه لا يعلن عن ماركسيّـته إلاّ بعد ثورة يوليو 1952، وقد شدد على أهمّيّة العامل الاقتصادي، وأهمّيّة التـّصنيع والمكننة، وقد سبق في ذلك مدرسة رؤول بريبش في التـّـشيلي في نهاية الأربعينيّات، التي نادت بالتـّصنيع لإحداث ثغرة في حائط التخلـّـف المسدود.؟ كما اتـّجه نحو التـّـثـقيف العلمي، ودراسة الاقتصاد السّياسي العالمي في ارتباطاته بالسّياسات المصـريّة، وغدا ينادي بالتـّصنيع، وبالعقل العلمي المتحرّر من التـّـقليد والخرافات، بوصفهما وسيلتيْ بلوغ الاشتراكيّة بالتـّدرّج.

كما كان سلامة موسى من أوائل الـّـذين تساءَلوا عن سبب عدم قيام النـّهضة الحديثة عند العرب، ومن أوائل من ربطوا بين الفكر النـّـظري الغربي – كالاشتراكيّة – والأحوال المعيشيّة والتاريخيّة، في بلده الطـّرفي التـّابع للمراكز الرأسمالية المتطورة، لكنـّه – وبالرّغم مما سلف – لم يَـتنبَّه إلى أهمّيّة التـّـنمية المتمحورة حول الذّات، التي بدأت مع مدرسة التـّبعيّة. ولقد كان التـّـنبّؤ بها صعباً للغاية، وذلك لوجود مشروع وطني كبير في تلك الفترة ممثـّلاً بالمشروع النـّاصري.
لذلك، يمكننا القول إنّ فكر سلامة موسى شكـّـل نهاية عصـر وبداية عصـر جديد تمّ فيه إدراك أنّ التـّـنمية، في ظل ارتباطها بالنّظام الرّأسمالي العالمي، إنـّـما هي تنمية للتـّخلـّـف، وانتهى سلامة موسى إلى إقامة تسوية بين القديم والحديث، بين التـّراث والمعاصرة، كما أقام تسوية بين الطـّبقات. وقد تمظهرت هذه التـّسوية في النحو في اللغة العربيّة التي أرادها أن تأخذ من تعبيرات الشّعب وألفاظه؛ لتكون جنباً إلى جنب مع لغة الأمراء والأغنياء. أي أنه أراد إدماج لغة الناس العامية في اللغة الفصحى
و هكذا تمثـّـلت التـّسوية في اللغة في قبوله اللغة الفصحى، ولكن، بشرط إضافة كلمات شعبيّة جديدة إليها. أمّا التـّسوية في الدّين، بعد أن قام في البداية بتفسير نشوء الدّين تفسيراً مادّيّاً لا تشوبه مثاليّة، فقد تمثـّلت في قبوله بدين عالمي في النـّهاية على غرار اللغة العالمية “الإسبيرانتو”
خلاصة القول في موقفه من الدّين أنـّـه بدأ في الدّعوة إلى هدم الدّين، ثم إلى الاجتهاد فيه، فتحييده، فتغييره، ليصبح فلسفة مفادها”اليقظة إلى الوعي الكوني”.

غالباً ما تتم التـّسويات الفكرية عندما يصاب المرء باليأس من التـّغيير، فقد سعى سلامة موسى إلى التـّغيير اعتماداً على الفهم المادّي للوجود، بوساطة وسائل كاللغة ونظريّة التـّطوّر، ودراسة التـّاريخ المادّي في التـّراث، ونحو ذلك. وعندما أصابه اليأس وتقدّمت به السّنون، وشهد ما حدث للتّجربة النـّاصريّة، بدأ فكره يشهد تسويات على الصّعد كافـّة.
ورغم ذلك فربما كان سلامة موسى من الأوائل الّذين تساءَلوا عن الأسباب الموضوعيّة المادّيّة التي أعاقت قيام النّهضة الحديثة عند العرب، ومن أوائل الّـذين حاولوا تطوير الفكر النّظري الغربي، بما يتلاءَم مع الظّروف الموضوعيّة المادّيّة في مصر. فقد حاول تطبيق الاشتراكيّة في مصر، مع مراعاة الخصوصيّة المصريّة، وإنْ كان تطبيق نظريّة اقتصادّية اجتماعيّة غربيّة على مجتمع عربي أمراً يدعو إلى التـّساؤل حول مشروعيّة هذه المحاولة، لكنّ النـّـماذج المتوافرة آنذاك لم تـُعِطه خياراً.
ختاما ربّما نستطيع القول أنّ المرحلة الأخيرة من حياة سلامة موسى تمثـّـلت – وخاصة بعد عام 1957 – في الدّعوة إلى السّلام العالمي، وإلى كبح جماح التـّطوّر العلمي بالرؤيا الفلسفيّة الواضحة. وربّما تتضمّن هذه الدّعوة هروباً من الواقع، أو ربّما تتضمّن تسوية معه، وذلك بعد أن فشلت التـّجربة الثـّوريّة المصـريّة، وانطلاق الصّراع النـّـووي العالمي. وهذا حال أغلب الفكر النـّظري العالمي بعد عام 1945.ومهما يكن من أمر فإن فكر سلامة موسى يضعه في مقدمة الفكر التنويري النهضوي العربي، الذي لم يتخل عن مشروعه المادي رغم التسويات التي فرضتها الأحوال الموضوعية آنذاك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!