مقالات دينية

العقل والأيمان

الكاتب: وردا اسحاق

 


العقل والأيمان
 

بقلم / وردا أسحاق قلّو

خلق الله الأنسان عاقلاً ناطقاً ومفكراً لكي يدرك ويبدع ويقرر فيعمل ضمن المحسوس ويقتنع ويقنع الآخرين بالمنطق مع إثبات الأمور بالدليل والبرهان القاطع ، ومصدر هذه القدرة هو العقل الذي له المقدرة على التفكير وأصدار القرار . بهذا كرمً الله الأنسان وفرزه عن الحيوان ، كما وضع كلمته في ضميره ، وذلك الصوت يكبته على أخطاءه لأنه صوت  الحب الألهي الذي يعطي للأنسان جمالاً ونقاوة ، ولكي يبحث عن الحق والعدل ويحب كل مخلوق 

تاريخ الأنسان هو عبارة عن طريق مستمر يتجه نحو الخالق ، فالأنسان وإن كان بعيداً عن الله أو لن يسمع حتى بوجوده يشعر بصوت قوةٍ خفيةٍ في داخله فيُمييز الخير عن الشر، ويحث العقل للأبتعاد عن عمل الشر ، أو حب الذات لكي يستطيع أن يشارك الآخرين في الحب والعطاء

العقل يبرهن الحقائق بالمنطق  ، أما الأيمان الذي هو هبة ألهية للأنسان فيخلق الثقة في الأنسان ، وقوة للتحرك بخطوات ثابتة ومدروسة نحو ه ويتعامل معه كل يوم . فالأيمان يجب أن يرتقي إلى محبة الجميع لكي يتحول إلى حالة نفسية ضرورية الوجود في حياة المجتمع  ، وغايته أيضاً هي إرواء ظمأ الأنسان للحقيقة . إذاً هل للعقل والأيمان هدفاً واحداً وغاية واحدة ؟ 

للعقل كيان مستقل ، وللأيمان كيان آخر مختلف ، العقل مستعد لفهم حكم الله ورسائله السماوية ، لكنه لا يستطيع إدراك أسرار الله بالعلم ، علماً بأن الأنسان في حالة أكتشاف دائم وتطور لكن في عالم المادة الملموسة فقط ، والله موجود في الماضي والحاضر والمستقبل ، وموجود في كل أنسان كروح لا يستطيع العقل أن يدرك عمقه وأبعاده وطريقة وجوده 

 ، اما الأيمان فهو الفرح والبهجة والحياة الحقيقية والذي يفكر لا بالعقل ، بل بالروح . فالأنسان الروحي يختلف عن الأنسان الجسدي الذي يعتمد على العقل . فبولس الرسول كان يرى أن الأنسان الروحي يستطيع أن يرى ما  لا يراه الأنسان بالعين ويفكر بالعقل ، فقال   

“لقد أعلنه لنا الله بروحه. لأنّ الرّوح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله. فمَن مِن الناس يعرف ما في الإنسان إلّا روح الإنسان الذي فيه؟ فهكذا أيضًا، ليس أحد يعرف ما في الله إلّا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الرّوح الذي من العالم، لكي نعرف ما أنعم به علينا الله من النعم. ونتكلّم عنها لا بأقوال تعلّمها الحكمة البشريّة، بل بما يعلّمه الرّوح، معبّرين بالروحيّات عن الروحيّات. إنّ الإنسان الطبيعي لا يقبل ما هو من روح الله، فإنّه جهالة عنده، وليس في وسعه أن يعرفه، لأنّه بالرّوح يُحكم فيه. أمّا الإنسان الروحيّ فإنّه يحكم في كلّ شيء، ولا أحد يحكم فيه. لأنّه “من عرف فكر الربّ فيعلّمه؟ أمّا نحن فعندنا فكر المسيح(1قو 2/ 10-16) .

الفرح الذي يعيشه المؤمن بسبب أيمانه لا يتوخى المتعة الزمنية الضيقة ، بل هو سعادة داخلية يشعر بها الأنسان بالسلام والطمأنينة والتفاعل مع الكون بقناعة وحتى وإن كان يحمل صليب الألم والأضطهاد والظلم بسبب الفرح الداخلي الذي يعطيه موهبة المحبة للجميع ، وهنا يتجلى نمو الروح وغناه في فرح الأنسان ، فتزداد روحه غنى وجمال ، كما يقول الرب ( ستفرح قلوبكم وما من احد يسلبكم هذا الفرح ) ” يو 22:16″ . 

أما هدف العقل والأيمان فيجب أن يكون واحد ، وهو العمل من أجل الحق والمساوات للوصول إلى الحقيقة ، فطريق العمل والمثابرة لهذا الهدف واحد وهو حياة الأنسان ومستقبله . لا يجوز أن يتحرر العقل عن الأيمان ، فالذين ادعوا بأن العلم الذي وصل إلى القمة بسبب العقل لا يحتاج إلى الأيمان أو الدين ، بل اعتبروا الدين أفيون الشعوب والعقول ، وهذا نابع من جهل حقيقة وجود الأنسان والغاية من وجوده ومستقبله ، وطريق الحياة التي يحب أن يسلكه ، فالأيمان هو أساس حياة الأنسان ، والحياة هي عمل أيماني مستمر ، بل الأيمان بشكل عام هو ظاهرة حياتية ضرورية وبدون الحاجة إلى الدخول في عمق أهداف الأيمان وغاياته . الأيمان هو المعلم الأفضل لرسم الحياة الفضلى في المجتمع . قال أحد الملحدين ، لولا وجود الأديان لكنا نضطر لصنع الأديان لكل نسَيّر الشعوب . وهكذا فشل الألحاد وبرز الأيمان ليعيد عافيته في دول الألحاد . والكلام موجه أيضاً إلى المجتمعات الرأسمالية التي نشأت على حساب ظلم الفقير وأستغلاله ، فصعدت طبقات برجوازية على ظهور الطبقات الفقيرة وطمس الأيمان ، بل تعمل إلى أزالته لأنه الصوت الصارخ في برية تلك الأمم وإنه ينادي من أجل الحق والمساوات . عندما نتصفح أوراق التاريخ فنجد بأن الأيمان يضطهد فيهبط كموجة البحر لكنه لا يتلاشى ، وسرعان ما يرتفع فوق قوة المضطهدين فيظهر الحق . كما يجب أن نفرز بين الأيمان الحقيقي والأيمان الذي يصنعه الأنسان بأسم الله فيتحول إلى قوة مدمرة للشعوب ويتسلط على العقول وينحدر بالمجمع إلى الهاوية فيفقد السلام وتظهر المنازعات والحروب والأضطهاد والتدمير بأسم الأيمان . 

في الختام نقول : غاية العقل والأيمان القويم يجب أن تكون واحدة ، وهي القضاء على إستغلال الأنسان والعمل من أجل الحق والمساوات ، وهذا يتم باستخدام العقل من أجل أبراز العدل ، والأيمان ينير العقل لصالح الأنسان لكي يسمو العقل فيفكر ليعمل لخدمة الشعوب بالتساوي . كذلك نقول ، العقل ينير الأيمان ايضاً بالعلم والمعرفة ، وهكذا يجب أن يتكاتف العقل مع الأيمان من أجل وحدة عمل مشتركة لخدمة حياة بني البشر .

أبدى القديس توما الأكويني برأيه عن هذا الموضوع ، قائلاً ( الوحي ” الأيمان “ والعقل ، ما دام كل منهما سبيلاً إلى الحقيقة ، يجب أن يتفقا ، وليس من الجائز أن يعلم الوحي ما يأباه العقل ) ، هذا القول منطقي ومقبول .

أما الرب يسوع ، فقال ( تعرفون الحق والحق يحرركم ) ” يو 32:8″ . وأخيراً نقول ، الأيمان قوة تحرر عقل الأنسان لكي يفكر بالحق ويعمل للعدل والخير والسلام لخدمة الجميع 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!