مقالات دينية

الحقيقة بين العقل والأيمان

الكاتب: مشرف المنتدى الديني

 

الحقيقة بين العقل وألأيمان 

 

الجزء السادس
العقل والوحي ألألهي*
 نافع البرواري

  “ما يحصله ألأنسان من معرفة الله يساعده في استكمال كُلِّ معرفة أخرى تتعلَّق بمعنى وجوده “ 
الأيمان والعقل  للبابا يوحنا بولس الثاني 
” احيانا كلما كُنتَ مُتعلِّما سَهلَ عليك أن تُعلِن تصريحات منافية للعقل وأن تنجو بفعلتك “
ار . سي . سبرول
دكتوراه في اللاهوت والفلسفة
“إنَّني أرى أنَّ ذلك الحاجز الذي قام طوال أربعة قرون بين العقل والأيمان سيتهاوى بفعل دمج ومقارنة وجهات النظرالتطورية الحديثة بالفكر المسيحي ” 
تيار دي شاردن “العلم والمسيح”

يبدو من اللازم اليوم أن نعود فنقرأ تعليم الكنيسة بمجمله من أجل التذكير ببعض حقائق أساسيّة في التعليم الكاثوليكي تتعرض للتشويه أو للرفض في الآونة الراهنة. فإنّ حالة جديدة برزت في المجتمع المسيحي ذاته الذي شهد انتشار شكوك واعتراضات كثيرة من الوجهة الإنسانيّة والنفسانيّة، والاجتماعيّة والثقافيّة، والدينيّة، حتى اللاهوتيّة بالذّات، حول تعاليم الكنيسة
وتنبت هذه النظريات متأثرة تاثراً سافراً تارةً، وتارةً مقنَّعاً، بتيارات فكريّة تصل الى حدّ قطع الصلة الضرورية والأساسية بين الحريّة البشرية والحقيقة.
المعلومات والمعرفة وألأجتهادات حول دراسة الكتاب المقدَّس كان سببا رئيسيا في ألأنقسامات في داخل الكنيسة وظهور هرطقات وبدع والحاد عبر تاريخ الكنيسة . اذا كانت هناك معلومات ومعرفة دون حكمة الله وارشاد الروح القدس ، فالأنسان يتيه في بحر تلاطمه ألأمواج ولن يستطيع ان يرسي الى بر ألأمان . وبالمقابل هناك الكثيرون من المسيحيين يملكون الحكمة ولكنهم لايمتلكون معرفة ومعلومات وهذا ايضا خطر، لأنّ المسيحية يجب أن تعقل ألأيمان لكي يشرح المؤمنين  للآخرين سبب الرجاء الذي فيهم .  والدليل على ما نقوله هو حالة الكنيسة في القرون الثلاثة ألأولى بعد المسيح  وكيف إنتشرت المسيحية ،بزمن قياسي ، في العالم كما يخبرنا سفر اعمال الرسل وتاريخ الكنيسة .
ومقارنة بحالة الترخي والبرود التي تعيشها الكنيسة ، والتشويش الذهني الذي يعاني منه المؤمنون ، في العصور الثلاثة الأخيرة ، وخاصة بعد انتشار الفلسفة ألألحادية في الغرب الذي كان قلعة الكنيسية عبر التاريخ ، علما أنَّ الكتاب المقدّس تُرجم الى جميع لغات العالم . وهناك  تحدّي كبير من قبل الداروينيين والفكر الفلسفي ألألحادي ، الذين يقولون لا اله ولامكان للحقيقة المطلقة بل هناك حقائق نسبية .
يقول البابا يوحنا بولس الثاني في كتابه العقل والأيمان 
“مع ظهرو الجامعات ألأولى ، كان لابُدَّ للاهوت من أن يواجه ، بطريقة مباشرة ، أشكالا أخرى من البحث والمعرفة العلمية . وكان القديس ألبرتس الكبير والقديس توما ألأكويني في طليعة المعترفين بضرورة التسليم باستقلالية الفلسفة  ، وبدأت  تتحول شيئا فشيا الى أنفصال مشؤوم . فبسبب ما كان هناك من روح عقلانية متشدّدة عند بعض المفكرين ، تحجَّرت المواقف الى حدّ الوصول ، فعليا ، الى فلسفة معزولة عن العلم في مجالات أبحاثهما ، مع المحافظة على العلاقة العضوية بين اللاهوت والفلسفة . ولكن مع نهاية العصر الوسيط ، أخذ الفرق الشرعي بين علمي اللاهوت والفلسفة مطلقا عن محتوى الأيمان ، وبدأت تنمو في النفوس أيضا ، بنتيجة هذا ألأنفصام ، عاطفة متنامية من الحذر تجاه العقل ذاته ، فأخذ البعض ينادون بموقف شامل من الحذر والريبة واللاأدرية ، وذلك إمّا ليفسحوا للأيمان مجالا أوسع وإمّا ليندِّدو بكُلِّ مرجعية عقلانية للأيمان . 
وخلاصة القول أنَّ ما توصَّل اليه الفكر الآبائي والوسيطي من إقامة وحدة عميقة وفاعلة تُولِّد معرفة قادرة على الوصول الى أرقى أشكال الفكر النظري ، هذا كُلُّه قد أنهار عمليا ، تحت وطأة المذاهب المنادية بمعرفة عقليّة مفصولة عن ألأيمان وتحلُّ محلَّه”
“الكثيرون استخدموا معرفتهم بطريقة خاطئة ، وهذا ما حدث في القرن التاسع عشر في الجامعات والمعاهد المسيحية ، لأنَّ الفلاسفة واللاهوتيين اعتمدوا على العقل في علمهم للوصول الى الحقيقة ، هكذا أُسِّسَت  كنائس في الغرب وامريكا  مسلّحة بالعلم والثقافة وتفسير للكتاب المقدّس ، ولكن لم تُركّز على معرفة شخص المسيح ولم تعتمد على الخبرات الروحية التي تُميّز المسيحيين عن الآخرين . وعندما انفصل العلم عن الأيمان  في الغرب ظهرت فلسفات وافكار الحادية تقوم على أساس العقل في تفسير كُلِّ شي ء. 
العقل أوصلنا الى طفرات علمية وتكنولوجية ومعلومات لكننا خسرنا الحكمة . أصبح العلم والعقل أدوات لها مخاطر على العالم ، واصبح العقل هو الذي يسيطر على العالم ولكن أثبت (العقل) أنَّ الذكاء لاعلاقة له بالحكمة . 
اليوم أكتشف الفلاسفة  المعاصرون أنَّ الفلاسفة العقلانيون أنتجوا حضارة مشوّهة ….يجب التركيز على السعادة والتساؤلات بدل المعلومات ، لأنَّ المعلومات حاضرة يستطيع الحصول عليها كل انسان في هذا العصر باخراج الأنسان من حالة الطبيعة الى الحالة ألأجتماعية  . كان ألأنسان ذئب لأخيه ألأنسان  ولكن في عصر النهضة أصبح ألأنسان أخو ألأنسان . ولكن في حالتنا اليوم ( العصر الحالي) في الغرب ، ونتيجة الثورة المعلوماتية  أصبح ألأنسان أخو ألأنسان وأيضا ذئبا للأنسان !!!!”

يقول توماس جيفرسون  :” فلنتسائل بجرأ حتى عن وجود الله لأنَّه لوكان هناك إله لابد وأن يتفق والعقل بدلا من الخوف ألأعمى “.
أمّا العالم المعروف غاليليو غاليلي يقول:” لاينبغي أن تؤمن بأن ألأله الذي وهبنا العقل وألأدراك والفطنة ، هو نفسه من يُحرمنا من إستعمالها “. ويسوع المسيح يؤكد ذلك بقوله :”فتِّشوا الكتب “يوحنا 5: 39
 لقد خلق الله ألأنسان قادرا على التفكير ليفتش عن المعرفة ويهضم الحق . والله يطالبنا باستخدام عقولنا . يقول الرسول بطرس “مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسالكم عن سبب الرجاء فيكم ”  
“نعرف أننا من الله ، وأنَّ العالم كُلُه تحت سلطان الشرير . ونعرف أنَّ إبن الله جاء وأنَّه  أعطانا فهما نُدرك به الحق . ونحن في الحق في إبنه يسوع المسيح”1يوحنا 5 : 19 -20  …لأنَّ الحق ثبت فينا ويبقى معنا الى ألأبد “(2يوحنا 1 : 2 “
العقل يساعدني لمعرفة وجود الله أو يقودني الى انكار وجوده ، ولكن حتى الشياطين تؤمن وتعترف بوجود الله ولكن الله لايعرف بالعقل الا بالروح القدس .
لم يعرف البشر الله معرفة كافية بالحكمة ، ولا بواسطة نور الطبيعة ، فإنَّ جميع الوثنيين من المتقدمين والمتأخرين ، متمدنين أو متوحشين ، حاولوا كثيرا أن يحلّوا المشاكل المهمة بواسطة نور عقولهم وفشلوا. ويسوع المسيح يقول لنا “انا نور العالم من يتبعني لايمشي في الظلام “(يوحنا 8 :12)
اختلف الذين يرفضون إرشاد الوحي ، ويتبعون ارشاد نور العقل ، في ألأجابة على ألأسئلة الوجودية ، ونتج عن آرائهم ضياع الراحة السياسية والسعادة الشخصية .. ونشأة حالة يمكن أن نسميّها “جهنم
 ألأرضية “.
بحث القديس أوغسطينوس هذا الموضوع في كتابه “مدينة الله “ وقدم أدلة تظهر احتياجنا للوحي ،  فقد كان اوغسطينوس فيلسوفا ومحاورا معروفا  ومع ذلك  لم يستطع ألأهتداء الى المسيحيية الا بصلواة امه “مونيكا” وطلباتها ودموعها الحارة ، وهو الذي اعترف بهذه الحقيقة من خلال اعترافاته 
بحث القديس اوغسطينوس العلاقة بين الوحي والعقل وتوصل الى النتائج التالية :
1 – يحتاج ألأنسان في حالته الساقطة الى إعلان من الله لسدِّ حاجاته .
2 – يطلب وجدان ألأنسان الديني (قواه الباطنة ) المعونة الروحية وألأرشاد للحق .
3 – البشر دوما مستعدون ليستقبلوا ألأعلانات ألألهية لأنّهم يتوقعونها ويحتاجون اليها .
 4 – لاتقوم الديانة الكاملة بمجرد نظر البشر لله ، وتقديم العبادة له ، بل بنظر الله أيضا للبشر وأعلان نفسه لهم ، ليكون ألأقتراب بين الله وبينهم متبادلا ، خصوصا وأنَّ ألأنسان بحاجة لأقتراب الله اليه أكثر مما يحتاج الله لأقتراب البشر له قبل أن يخاطبوه هم 
5 – ليس بين آراء البشر الفلسفية أو أعتقاداتهم الدينية الوثنية ما يغنينا عن الوحي مطلقا ، بالعكس، فقد أغنانا الوحي عن كُلِّ آراء البشر في شأن الدين ، وهو يحتوي على كل ما يتاح اليه من التعليم والأرشاد .
(راجع كتاب “اعترافات” عن قصة اهتدائه الى المسيحية بسبب صلاة امه وليس بفلسفته وعلمه وحكمته ألبشرية ).
أمّا القديس والفيلسوف أنسليم  (1033م)، حاول التوفيق بين طرفي الصراع بين الفلاسفة واللاهوتيين في أولوية العقل أم ألأيمان . أعطى أنسليم أهمية كبيرة للعقل ، وأعتمد عليه لوحده دون ألألتجاء الى سلطة أخرى مثل الكتاب المقدس أو آراء اللاهوتيين كالقديس أوغسطينوس الذي أعتمد في إيمانه على الوحي الألهي .ولكن نوّه القديس أنسليم بأنَّ ليس معنى كلامه أنَّ العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة ، بل المصدر الوحيد للبرهان . ويعود الى قضية ألأيمان بالوحي ويضعه فوق العقل كالقديس أوغسطينوس في مقولته الشهيرة “آمن كي تعقل” . أنسليم يؤمن ببرهان العقل ولكن ذلك البرهان مبني على أساس حدس ديني أصلا ، فهو عكس مقولة أوغسطينوس قال: “ألأيمان باحث عن العقل ” . فقد انطلق القديس أنسليم من زاوية جديدة للموضوع ، فهو يرى أنَّ العقل لابدَّ يستند الى شيء في بدايته ، على قاعدة أو مرجعية أو منطق آخر سواه ، ولايوجد شيء آخر سوى ألأيمان .
فالأيمان هو الحجر ألأساس والمنطلق ألأول لدى العقل(راجع مقالاتنا السابقة  عن المنطق ) لأنّه لايستطيع العقل التفكير في لاشيء ، وإنَّ تعقُّلَ شيء فهو عقل ألأيمان ، ولكنه يرجع مرة أخرى ليدافع عن العقل وسلطته ضدَّ خصومها ، فلايرى ألأيمان  ،يعني تحريم الجدل الذي نتاج العقل . ألأيمان يحتاج الى العقل وبالعكس، فالعقل يبدأ من حدس ألأيماني في تعقُّل ألأمور. فالعقل الذي ينهج بطريقة صحيحة ومنطقية حتما تقوده الى ألأيمان بوجود الله .
(راجع كتابه بروسلوجين)
راجع ار سي سبرول (القديس انسليم)
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم مقتبسا من رسالة بولس الرسول الى اهل روميا فيقول:
“ندعوه (اي الله) إذا ألأله الذي لايمكن التعبير عنه ، ولا تصوّره ، ولا رؤيته ، ولا إدراكه . ولنعترف أنّه يتجاوز قدرة كُلِّ انسان بشريّ ، أنّه يفلت من قبضة كلُّ عقل مائت ….لايعرفه سوى ألأبن والروح القدس 
وفي  “العظَّة الثانية ” له يبيّن ذهبي الفم  أنَّ القديس يوحنّا الرسول ، الذي كان فقيرا وما تعلّم ألآداب والفلسفة ، تفوَّق على أشهر الفلاسفة في زمنه ، فالكلام ألأنجيلي هو الفلسفة الحقَّة . 
ويضيف قائلا : “لنرى ، أيّها ألأخوة الأعزاء ، ما تعلّم هذا الصياد (يوحنا) الذي قضى حياته قرب المستنقعات ، وهو منشغل بالشباك والسمك ، هذا  الرجل الذي من بيت صيدا الجليل ، هذا الذي هو ابن صيّاد فقير ، بل فقير جدّا ، هذا الجاهل(بنظر العالم) الذي كان جهله عميقا جدّا ، وقد لبث أُمّيا قبل وبعد أن تعلَّق بيسوع المسيح .  أما يحدِّثنا عن الحقول والسواقي وتجارة السمك ؟ قد لاننتظر خطابا من صيَّاد! ولكن لاتخافوا ، لن نسمع شيئا من هذا النوع ، بل هو يحدِّثنا عن ألأمور السماويّة ، عن أمور لم يعرفها أحد قبلهُ ، إنّه يُعلِّمنها عقيدة سامية ، وخُلُقيَّة رفيعة ، وفلسفة جميلة بقدر ما نستطيع أن نستقي من كنوز الروح القُدس ، وقد نزلت ألآن من السماء ، أو ألأحرى ، قد لا يكون الملائكة أنفُسهم الذين في السماء قد عرفوا ما سوف يُعلِّمنا قبل أن يتكلّم .”
أسألكم : هل هذه لغة صيّاد ، أو رجل بلاغة ، لغة سفسطائيّ أو فيلسوف ، أو انسان متعمّق في العلوم البشريّة ؟ كلاّ ثُمَّ كلاّ . فما من عقل بشريّ يستطيع أن يُقدّم الفلسفة أو أن يُعمل العقل حول الطبيعة المغبوطة واللامائتة ، حول القوى الخاضعة لها ، حول الخلود والحياة ألأبديّة ، حول ألأجساد المائتة التي سوف تصبح لامائتة …رفع الذهبيّ الفم يوحنّا ألأنجيلي الى قمِّة المعرفة الفلسفية ، وطرح المواضيع ألأساسية التي يعالجها ألأنجيل بطريقة تتعدّى المفهوم البشري . فهل يستطيع مفكِّروا العالم الوثني أن يصلوا الى هذا المستوى ؟ لا ، يقول الواعظ ، فكُلُّ ما يقولونه هو هذر وسخافة . نعم حرَّكَ افلاطون وفيثاغورس بعض هذه ألأسئلة ، أمّا سائر الفلاسفة فلا يستحقّون أن يُدعوا (كذلك)لأنَّهم جعلوا نفوسهم موضوع هزء ….أمّا الصيّاد (يوحنا) فقد قُبل في معبد السماء ، وتكلَّم بالهام من الربّ ، فما عرف كلامُه ضعف الكلام البشريّ .
راجع كتاب يوحنا الذهبي الفم الخوري بولس الفغالي .
المسيحية هي الديانة الوحيدة التي تُطالب المسيحي بامتحان كُلِّ شيء”أمتحنوا كُلِّ شيء تمسَّكوا بالحسن ” (1 اتسالونيكي 5 :21). المسيحية ديانة معقولة تؤمن بالعقل وتُعلى على العقل.
كان أبلوس من مدينة ألأسكندرية في مصر ، وتعتبر ألأسكندرية (في عهد المسيح) ثاني مدن ألأمبراطورية الرومانية ، وكانت مقرا لجامعة عظيمة ، وكان أبلوس فصيح اللسان مقتدرا في الكتب خطيبا بليغا وعالما ، ومجادلا عظيما . وبعد معرفته بالمسيح إكتملت له جوانب المعرفة ، وقد استخدم الله هذه المواهب بصورة كبيرة في تشجيع الكنيسة وتعضيدها وتقويتها . إنَّ العقل أداة قوية إذا أحسن استخدامه في الموقف المناسب السليم . وقد أستخدم ابلوس العقل والمنطق في إقناع الكثيرين في اليونان بحق ألأنجيل  ( راجع أعمال  الرسل  18: 27 ، 28)
يسوع المسيح يقول :“فتشوا الكتب هي التي تشهد لي” فالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد هو إعلان مجد الله في المسيح الذي  عن طريقه يقاس الحق .ويستطيع ألأنسان أن يختبره ، ولكن لايستطيع أن يفسِّرهُ ، لأنَّ علوه وعمقه وعرضه يفوق كُلِّ معرفة . ….إنَّ روح الله القدوس في كلمته ، وإنَّ نورا جديدا وثمينا يضيء من كُلِّ صفحة من صفحات الكتاب المقدس ، ففيه يُعلن الحق … إنَّ جمال الكلمة وغناها لهما قوة مغيِّرة في العقل والخلق .
(كتاب المعلم ألأعظم)
يقول الدكتور عصام عبدالله وهو استاذ مساعد في جامعة عين شمس في القارهرة:
“لما جاء الرسول مرقس الى مصر ، استطاع هذا الرجل (البسيط ومن الطبقة العامة ) أن يؤثر على عقل العالم ، بوجود المدرسة ألأسكندرية ،حيث الفلاسفة كانوا كألأنبياء في ذلك الزمان ، فكيف استطاعت المسيحية   أن تؤثر  على أساطيل العقول للعالم ؟. علما أن جامعة الأسكندرية ، مثل جامعة هارفر ، كانت المدرسة الفلسفية ، يأتي اليها الطلاب من انحاء العالم وكانت تتبنّى فلسفة الفكر ألألحادي لأرسطو . لكن مرقس استطاع ، بفكره البسيط  ، أن يحوّل الفلاسفة الى اساتذة أللاهوت وأصبحوا فلاسفة المسيحية في مدرسة ألأسكندرية لاهوتيين ، أمثال أوريجانوس ، وكالسوس في أثينا  كانوا وثنيّون صاروا مسيحيّين . لولا المسيحية ديانة معقولة كيف تحوّل هؤلاء الفلاسفة وغيرهم كثيرون الى الديانة المسيحية ؟.
من البداية المسيحية والفلسفة ممتزجتان بمدرسة ألأسكندرية الفلسفية اللاهوتية ، وكانت  مركز وينبوع  ألأفكار للعالم . 
هناك قصة  عن ألأب أنطونيوس تقول : أنَّ وفدا من الفلاسفة اليونان ذهبوا الى القديس أنطونيوس ، بعد ثلاثين سنة من اعتكافه في دير بمصر. وكان دهشة الفلاسفة ، أنّه لايملك الاّ الكتاب المقدَّس ، ولكنهُ مُلِمٌّ بأحدث علوم العصر ، فبهتوا واندهشوا وسألوا القديس انطونيوس  من أينّ لك هذه المعرفة ؟ فبدل أن يجيبهم سألهم  هو هذا السؤال: من الذي جاء أولا العقل أم المعرفة ؟ فلم يعرفوا ألأجابة . فقال القديس :“العقل وزنة من وزناة نعمة الله ، يمارس التفكير والوعي وألأستنتاج والفحص والتمحيص “.
 يجب على العقل أن يستخدم في خدمة الفلسفة واللاهوت “.
المسيح يقول لنا : “احب الله من كُلِّ قلبك ونفسك وعقلك  “  فمحبة الله تتطلب منّا العقل والتفكير ، ويسوع المسيح عنَّف تلاميذه لأنهم لم يفهموا كلامه . 
اعتمد  القديس توما ألأكويني على المنطق ألأروسطي في كُلِّ العلوم الفلسفية ، فيبدأ بالأستقراء ، ثم يتقدّم على نهج استنباطي بعدي كشفي ويتخّذ علم الميتافيزيق عند ألأكويني طابعا أرسطيا مسيحيا ، وموضوعه ، علم الوجود، وهو أوّل ما يُدركه العقل . ويدرس هذا العلم الجواهر وفق أنماط الوجود المختلفة في نظامها التسلسلي أبتداءا من الله المبدأ ألأول للوجود ، مرورا بالجواهر اللامادية المفارقة للحس ، الملائكة ، وأنتهاء بالجواهر الحسّية التي تتركب من مادة وصورة .
يقول البابا يوحنا بولس الثاني:
أنّ الحقيقة التي نحصلها عن طريق الفكر الفلسفي والحقيقة الصادرة عن الوحي لاتختلطان ، وأنَّ الواحدة لاتُغني عن ألأخرى : “هناك صنفان من المعرفة متميّزان ، لا من حيث المصدر وحسب ، بل من حيث الموضوع أيضا . أمَّا من حيث المصدر ، فلأنَّ المعرفة ألأولى تتوسَّل العقل الطبيعي ، وأمَّ الثانية فتعتمد ألأيمان ألألهي للوصول الى المعرفة . وأمّا من حيث الموضوع ، فلأنَّ هناك ما يتخطى الحقائق التي يستطيع العقل الطبيعي أن يحصلها ، وهو مجموع ما يُقدِّمه لنا ألأيمان من أسرار مطويّة في الله نعجز عن معرفتها إذا لم يكشفها اله لنا .
في الرسالة الجامعة “تألق الحقيقة” نوّه قداسة البابا إلى أن كثيراً من المعضلات المطروحة في عالم اليوم سببها “أزمة في شأن الحقيقة”.
“ما يحصله ألأنسان من معرفة الله يساعده في إستكمال كُلِّ معرفة أخرى تتعلَّق بمعنى وجوده ، وبأمكان عقله أن يتوصَّل اليها . لأنّ العقل لوحده ولا المنطق يستطيع أن يكشف سر* الله .، لأنّ هناك حتى أسرار كونية لايستطيع العقل كشفها ولكن يؤمن بها “:
أسرار مطويّة في الله تعجز عن معرفتها إذا لم يكشفها الله لنا . والواقع أنّ ألأيمان المرتكز على شهادة الله والمدعوم بالنعمة العلوية هو من غير مستوى المعرفة الفلسفية .
*فهذه (الفلسفة الطبيعية ) تعتمد ألأدراك الحسّي وألأختبار ، وتنمو في ضوء العقل فقط . الفلسفة والعلوم تتقدم على صعيد العقل .
* بينا ألأيمان الذي يستنير ويهتدي بالروح فهو يجد في بُشرى الخلاص “ملئ النعمة والحق ” (يوحنا 1،14)  ، الذي أراد الله أن يكشفه لنا في التاريخ وبطريقة حاسمة بأبنه يسوع المسيح (1يوحنا 5،9. يو 5،31-32).
يسوع المسيح كشف لنا (سرَّ الله ) ، وهذا الكشف عن الله في التاريخ  بطابع خلاصي ….. فلقد أرسل الله إبنه ، الكلمة ألأزلي ، الذي ينير(عقول) كُلِّ البشر ، باقواله وأعماله ثم بآياته وعجائبه ، وأخيرا بارساله روح الحق  وينجز هكذا الوحي ويتمّمه ، ويطلعهم على أعماق الله (يو 1 :1-18)
.. بهذا الكشف يتلقى ألأنسان الحقيقة القصوى في شأن حياته وفي شأن مصير التاريخ .
أين يستطيع ألأنسان أن يلقي جوابا على ألأسئلة (الوجودية) الخطيرة ، كالعذاب البريء ، والموت الاّ في الضوء المنبعث من سرّ آلام المسيح وموته وقيامته .
ألأيمان وحدهُ يتيح لنا ولوج السرّ منطقيا …. الدلالات الماثلة في الوحي تساعد العقل في سعيه الى فهم السرّ وتفيد في تحقيق البحث عن الحقيقة بوجه أعمق ، ويحوّل العقل أن يتغلغل في أعماق السرّ بطريقة مستقلة .
مثال على ذلك :
في ألأفخارستية : المسيح حاضر حضورا حقيقيا وحيّا ويعمل بواسطة روحه . ولكنك –على حد قول القديس توما ألأكويني-  لاتفهمه (عقليا ) ولا تراهُ. ولكن ألأيمان الحيّ هو الذي يؤكد ذلك ، متعاليا فوق الطبيعة . 
الخلاصة : 
سرّ الله الذي لايستطيع العقل أن يسبر عمقه بل عليه أن يقبله ويتقبّله في ألأيمان . ضمن هذين المعطيين ، يتمتع العقل بخيّز خاص يحوّله القدرة على البحث والفهم ، لايحدُّه في ذلك الاّ محدودين بإزاء الله اللامحدود .
كلام البابا عميق جدا  ، ويدلُّ على مدى خبرته وعلمه وفهمه اللاهوتي من خلال  الكتاب المقدَّس وتعمقه الفلسفي وحتى العلمي  .

ان الرب يسوع “في كشفه عن سر ألآب ومحبته ، يبيّن للأنسان حقيقة الأنسان وضوح كامل ، ويكشف له عن سر دعتوته ” 
فسرُّ الله الذي لايستطيع العقل أن يسبر عمقه بل عليه أن يقبله ويتقبله في الأيمان  ضمن هذين المعطيين يتمتع العقل بحيّز خاص يحوله القدرة على البحث والفهم لايجدهُ في ذلك الا محدودين بازاء الله اللامحدود

 —————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————

* كلمة “أوحى” تعني في اللغة العربية : ما يلقيه الله الى أنبيائه فيعطيهم علما وفهما . ويقابِلهُ ألألهام وهو: أن يلقي الله في نفس ألأنسان أمرا يبعثُهُ على فعل شيء أو تركُهُ.
بولس الفغالي 
 أوحى تعني “كشف الغطاء أو القناع ، أو بعبارة أوضح ، تبيان ما كان خفيّا ، فعُرِف به.

أمّا في اللغات ألأجنبية فالوحي يعني أنَّ الله يكشف عمّا كان سرّا ويُعلِّم ألأنسان ماكان مجهولا لديه من أمور تفوق الطبيعة . أمَّا ألألهام فيدلُّ على حركات وأعمال وأفكار مرجعها نفخ إلهي يشبهُ النفخ الذي يُدخل الهواء الى الصدر ، فيعمل المُلهم كنسمة الهواء في النفس والروح . وهكذا عبر الوحي تصل الى الناس حقيقة الله ، وعبر ألألهام يصل الله في الكاتب المكرَّم فيدفعه الى أن يكتب ما أوحى به اليه  
بولس الفغالي 

يمكنك مشاهدة المقال على منتدى مانكيش من هنا

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!