مقالات

الزجال محمد جنياح: لا نجني من وراء التأليف والنشر سوى

لم تتوقف مسيرة الشاعر المغربي الزجال محمد جنياح عن الكتابة والإبداع في مجال القصيدة الشعرية عموما، والقصيدة الزجلية على نحو خاص. وهي التي استحوذت على اهتماماته إلى حد كبير، حيث وجد فيها ضالته. بعد إصداره ديوان -غزيل الريح 1999 – سيواصل مساره الإبداعي في هذا الضرب من الفنون الأدبية مستلهما الحياة بانزياحاتها بطموحها وتطلعات المواطن في العيش الكريم. راصدا ذبذبات النبض الاجتماعي في حركاته وسكناته، مستشعرا المعاناة اليومية للمحيط القريب منه والبعيد عنه. لكن والحقيقة تقال، فشاعرنا قارئ نهم، ومتتبع ذكي ومواكب لما ينشره الشعراء المغاربة على صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولما كان شعر الزجل من روائع الكلام، فهو شفاف رقيق حين يقاربه محمد جنياح، ويجعله يتسرب إلى قلب قرائه من مدينته الأم كما في باقي ربوع الوطن بيسر وسهولة، ويتقبله السامع لحلاوة كلماته وشفافيته. ويتحلى الزجال محمد جنياج بسرعة إذ يجنح بديهته وقوته في الارتجال، خاصة في مقاربة ما هو سياسي، حينما يتعلق الأمر بشهيد من أجل الحرية، أو الرأي أو مجرد الرغبة في البقاء.
شلا وشحال من زجال
وعجزت على وصفو قلام
من الوصف ياخد حقو محال
دهب ياحب من منجم النقرة
ملاك نزل من سماه
يتبختر ف جلال بهاه
ينعش القلب يروي البال
لكل لهفان، عطشان ف قهره

ومن الجدير هنا، الإشارة أن الشاعر محمد جنياح لم يأت إلى الكتابة متطفلا فارغا من دون رصيد ثقافي وفكري. بل أتى مدججا بالجرأة والإيمان بقوة الكلمة، بقلب نابض بالثقة والحلم بمستقبل أفضل. فهو يعتقد أن التخلف والجهل ليس قدرا بل سياسة. وهو ما يلحظه القارئ ويتجلى بوضوح في جميع قصائده. إن التأثير الملحوظ الذي خلفه الانتماء السياسي لليسار إبان فورته يبدو جليا في المنتوج الزجلي للشاعر. هذا الانتماء السياسي بما له وما عليه زمن القمع والرصاص لعب دورا كبيرا في بناء جدار للمقاومة ضد الرداءة والتصدي لكل الاختلالات مهما كان مصدرها. كما مكنه من تملك آليات الحوار والإقناع، وزوده بمنهج الدفاع وآليات التصدي والوقوف إلى جانب المظلومين والاستماع إلى نبض المجتمع. فضلا عن ملكة الجرأة والتصدي العلني لكل الاختلالات في تدبير الشأن الاجتماعي. فنجد الشاعر يكتب عن ضنك العيش ومحنة المعيش اليومي للمواطن ويرصد نبض معاناته اليومية. تارة يحفز طموحهم وتطلعاتهم نحو غد أفضل وتارة أخرى يحفز آمالهم ويذكي حقهم في الديمقراطية وحرية وتعبير.
تصااااااب القلب و التعطب
وانزل شلال الدم
غزيييييير يصب
وف خندق الحلم
انايا مازال مدرق
مخبي ب جلال الصدق
صابر ،معتاكف نساااين
وسط هوال و محاااين
هااااز راية السلم
عساها تحن و تشفق

إن النص الزجلي عند الشاعر محمد جنياح يفرض تحليلا أعمق، بدءا بعنوان القصيدة غير الساذجة وغير البريئة، وصولا إلى النص بأسئلته الشكلية والمعنوية، وتأويلاتها وتداعياتها، وباللغة المعادية لكل شيء حتى لذاتها. وبذلك يتأكد بأن المعنى الثابت لا وجود له. هكذا نجده في أغلب قصائده يشاغب باحثا عن أقواس الفرح، مطبطبا أكتاف هياكل الحزن حتى يمر بأقل الخسائر ويقلب أوجاع الذاكرة البعيدة بحثا عن مواسم الحب وأنهار السعادة، عن ألم الفراق وتداعياته النفسية. يكتب عن الناس حين يحبهم ويبعث فيهم إكسير الأمل، وبالمقابل يهز العالم من أذنيه في محاولة للحد من انزياحاته، ويتساكن والوجع سلاحه الوحيد الكلمة النابضة تحت سقف القصيدة المبددة للأحزان.
“كم كان موجعا ذلك اللقاء الأخير، مؤلم كان ذلك الوداع بشراسته، بمرارته الغامضة والكثير من الألم والشهوة والجنون في حضن ذلك البيت الذي كان مطلا على أحلامنا، المسكون بالكثير من المغامرات والذكريات وشهوات شبابنا الذي مر على عجل بسرعة فرحل”
في قصيدته تازة ياحزينة يرثي الشاعر أحزان مدينته ويتمنى لو سنحت الطبيعة وأجازت فسخ القيود، ليتسنى له نقلها بخطوة في غفوة من المغرب غير النافع إلى المغرب النافع، من عالم التخلف إلى حيث مواكبة الركب التنموي الشامل.
وبالموازاة مع ذلك، تتسع قاعدة اطلاعه وقراءته للمنتوج الوطني في حقل الزجل ويبدي إعجابه بمجموعة من رواد القصيد الزجلي بالمغرب أمثال رضوان افندي، ادريس بالعطار…وإذا كان الزجل نمطا شعريا لا يختلف عن القصيدة الفصيحة، فهو إلى ذلك موهبة وحبك رصين، يقول جنياح. والشاعر هنا لا يفقد الأمل في أن يعثر هذا الحس الإنساني الرفيع على موطئ قدم في الحقل الثقافي، ويجد له مكانا لا ئقا عند القراء مادام يتحدث بنبضهم ويلامس مشاكلهم ومعانتهم. وبرأي الشاعر فإن المشهد الزجلي في المغرب” على قلة الشعراء ” عرف تطورا كبيرا بالنظر إلى الزخم في نشر الدواوين وكذلك ما ينشر من أشعار جديرة بالتأمل على الصفحات والحسابات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما الفايسبوك. يضحك الشاعر محمد جنياح من أعماقه حين تسأله عن مدى استفادته المادية من بيع دواوينه الخمسة ” أي ربح مادي ياأستاد؟!، الثقافة بصفة عامة لا نجني من ورائها سوى التعب، لكن نجد فيها المتعة التي تنسينا هموم الحياة” ويصف الشاعر احتفاءه وفرحته بالقصيدة لحظة ولادتها ” قائلا الفرحة لا حدود لها وخاصة عندما تلقى اهتماما من لدن قراء نوعيين. وتحظى بتحفيز مشهود من جهات مهتمة أو من أصدقاء يسبرون أغوار القصيدة الزجلية. لكنه يستطرد متأسفا على غياب نقد عميق ومنصف.

ويواصل الشاعر مسيرة إبداعه الشعري بإصدار ديوان – ليل الغربة عام 2008 – جنون الحنين شذرات شعرية فصيحة في العام 2015 القاهرة جمهورية مصر العربية. لكن سنة 2023 سيصدر – الشان اللي كان- عن مؤسسة باحثون للدراسات، الأبحاث، النشر والاستراتيجيات الثقافية. والشاعر له كذلك عدة دواوين زجلية مشتركة وأخرى قيد الطبع ويعتكف على إتمام سيرة ذاتية يقترح لها كعنوان – زمن الطفولة الأخاذ-
في ديوانه الأنيق ” غزيل الريح ” الذي يحمل بين دفتيه 16 قصيدة تزخر بتفاعل الشاعر مع ذاته ومع المجتمع ، مع تقديم للقاص الدكتور جمال بوطيب ولوحة للفنان محمد أشريفي نقرأ” ليس جديدا أن نقول إن القصيدة الزجلية ليست مرحلة موالية في الشعر المغربي، بقدر ما هي شكل أساس من أشكال القصيدة المغربية، إن على المستوى التاريخي، او على المستوى الشكلي لبنية القصيدة او على مستوى التعدد اللغوي واختلاف تمظهراته ، كما أنه ليس جديدا أيضا، أن نقول إن الزجل كشكل تعبيري ناتج عن انفعالات الزجال، هو الآخر ، له بنية معقدة تقتات من الاستعارات، وتنز عن المنطق الفطري ولا تخضع له”
إن القصيدة الزجلية المغربية كجنس نآى عن التقليد وعن الإرث الإبداعي بنوعيه الغربي والشرقي ،يضيف الدكتور بوطيب استطاع أن يؤلف في طياته بين مجموعة من البلاغات والتراكمات الإبداعية ، وتؤكده الكثرة النوعية للأسماء الزجلية بالمغرب على اختلاف مرجعياتها، وأسلوب كتابتها، وتنوع فهمها للزجل وللغة الزجلية كعنصر أساس داخل البنية التعبيرية العامة. وقد لاحظ الناقد أن الزجال محمد اجنياح لم يخرج عن هذه القاعدة ، وان كان اختار لنفسه طريقا تمثل في كون القصيدة الزجلية عند الشاعر ، تمثل رهانا ثقافيا وسياسيا.
اخدينا بالفتوى/
قلنا نبدلو لهوى/
وتبدا ل لعتابي راحة/
لمرضنا لقاو دوا/
نكسبو ثروة/
واسوايع فضاحة.

إن ما يسميه الناقد رهانا ، قد لا يعني أن الأستاذ محمد اجنياح يضحي بالجمالي لصالح الإيديولوجي ، بل يجد الشاعر في التصريح احتجاجا ، وفي الإشارة غنى، وفي أن تكون الفائدة عن طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ”. إنه يجنح نحو الحقيقة كما ترى، وكما يتم تداولها، ولن يلتجئ إلى مسوغات ما، كي تلبس نزوعه، أو تبرر تصديه، وتغشي تصوره للذات، والآخر بما فيه المقدس.
من بعد ليل طويل/
قالو ما عندو صباح/
بدا صوت لموذن يهلل/
وديوكة تتعند على الصياح/
ومن بعيد صمت بعيد/
لحمام بد يزجل/
عالن على مطلع نهار جديد/
نكسر لحديد/
داب جليد/
م المنفى رجع لوليد.

ويتغنى اجنياح لمدينته التي يبحث لها عن موطئ قدم في المغرب النافع ، كما يشدو للوطن و يهمس في آذان الطبيعة ويسمو بالجمال . كلماته الشفيقة ينتقيها بوجدانه المتأصل ،تحمل الدفء ، وتنثر السحر الذي لا يوجد في غيره،
مال هذا الما ما بغا يصفا/
مال هذ النار ما بغات تطفا/
ما لهذ المسيح ما بغا يفصح/
الغول ولد الماغول/
مازال ينطح.
والزجل هو مسرح الحياة اليومية التي يعيشها اجنياح بجميع قواعدها ، لذلك يتناقل أصدقاؤه والناس بعضا من زجله من خلال جلساتهم وسهراتهم العائلية ، فنرى الزجال يستمع له المئات بل الألوف من الناس وتهتز لكلماته الأجسام القلوب والآذان وهو يقارب المصير الذي تؤول إليه المدينة ، وقد ركنت حضيض التنمية ، ضدا على رغبة سكانها. إنه لا يستنجد بالكرامات ، ولكن ، يهز المريدين من آذانهم.
لو كان عزوز/
يفسخ لي القيود/
وتمد لي للا عذرا/
يدها بش نوض/
بسالفها نحزم تازة/
على كتافي/
نقطع بها جبال وفيافي/
نتحدى القمع ولمدافع/
ونحطها في المغرب النافع.
وسبق أن تساءل الناقد جمال بوطيب يوما : لماذا تغيب لفظة سيدي من أمام عزوز =ولي صالح يوجد ضريحه بمدينة تازة المغربية = وإثبات للا أمام عذرا علما أنهما معا رمزان من رموز المدينة”؟ بل وكيف نفسر تحرج الزجال وعدم رغبته في ذكر لفظة غير النافع في حديثه عن بلده المغرب؟
في تقديرنا ،إن مسوغات الرغبة في عدم الإشارة إلى المقيد والاكتفاء بالإشارة الى عملية الفسخ والفاسخ والمفسوخ ، تجعل الناقد يعيب على الزجال هذا الإصرار، وتبعا للمعنى يؤسس الزجال اجنياح نصوصه على بنى حكائية تقوم أساس على ملاحقة معنى ما ، بهدف الوصول إلى موقف فني من الذات ومن الآخر ومن العالم المحيط. من هنا لا نرى ما يجعل الشاعر ينصب حدودا بين الذاتي والموضوعي ، بين المالي والإيديولوجي ، فهموم الشعب والذات والوطن تتوحد في الإنسان ، وهو عنده مقياس كل الأشياء.
الصداع قوا/
القلب بنار الغدر تكوا/
هذا الحياة المحسوبة/
ع لعمر والو ما تسوا/
عيينا بمخيض الماء/
وما صورنا غير الرغوة.

على سبيل الختم نود التأكيد على مسألة غاية في الأهمية هي أن الزجال الشاعر محمد جنياح لا يورد الكلام على العواهن كما يقال، ولا وجود لألفاظ مجانية محشوة دونما رسالة هادفة ونبيلة. فالقصيدة عنده تنهض تركيبة كيميائية حية متفاعلة من الذات نحو المجتمع ومنه إليها، تتقاطع تترابط تتماسك تتناغم وتتعانق بهدف خلق مساحة جذب وإغراء، والفريسة هنا هو قارئ مفترض. ذكي ونبيه لا تنطلي عليه لعبة الاستهلاك اللفظي للدارجة، بقدر ما تسحره غواية المعنى. فينساق منتشيا بعيدا عن السوقية نحو أفق يرتاده بقناعة وإشراق تضاهي ما يتركه الشعر الفصيح من إذكاء للجمال وحفز للذوق والرقي الى مستوى الشعر بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!