مقالات عامة

من فكر هادي العلوي البغدادي

ألَّف هادي العلوي البغدادي في سنوات عمره الأخيرة كتابه الملحمي (مدارات صوفية) ضمنه تراث الثورة المشاعية في الشرق وصدر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي – دفاتر النهج – الطبعة الأولى سنة 1997. والكتاب من أخطر ما ألف هذا الباحث المجاهد. يقول في تقديم الكتاب: (جاء في مجمله لتعزيز الوجدان المشاعي عند أجيالنا الجديدة لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان مشاعياً يجب أن يكون له قلب مشاعي لا مجرد فكر مشاعي، بل إن المشاعية لا صلة لها بالفكر بل هي ليست من الثقافة في شيء، بل إن أسوأ غرارات المشاعيين هم المثقفون).

وهذه فرصة -استغلها هنا- لتصحيح غلطة بسيطة من هادي العلوي البغدادي آمل أن تُصحّحها (دار المدى للثقافة والنشر) حين تُقدم على طبعة جديدة من كتاب (مدارات صوفية) فقد جاء في باب (الأبدال) الصفحة 146 من الطبعة الأولى عام 1997: (كارل ماركس من أسرة يهودية تنصّرت. عاش في ألمانيا ما بين 1813-1883 ومات عن سبعين عام). والصحيح أن كارل ماركس ولد في 5 أيار (مايو) 1818 ومات في 14 آذار (مارس) 1883 عن عمر بلغ الخمسة والستين عاماً ودفن في مقبرة هايغيت، لندن، المملكة المتحدة.

المشاعية كما فهمناها من معلمنا موقف وجداني من حياة الخلق يكرس فيها المريد حياته من أجل البشر المعذبين على هذه الأرض، لذا هي حركة نضالية مكافحة شملت أرجاء العالم قاطبة. وقد سعى هادي العلوي البغدادي في كل ما كتبه لتأصيل ثقافة شرقية خارجة عن دائرة الهيمنة الغربية ومستندة إلى الثقافة الشرقية المتماهية مع الجماهير، أي المشاعية المناضلة المكافحة بفكرها وممارستها. لذلك أعتقد مع السلف الصالح من رفاقنا المشاعيين أمثال: عامر العنبري وأبو ذر الغفاري وحسين بن منصور وابن عربي وفيلسوف المعرة وجمال الدين الأفغاني وليف تولستوي وكارل ماركس ولينين وعبد المعين الملوحي وحسين مروة وغيرهم. إن وجود هؤلاء على هذه الأرض هو بحد ذاته توبيخ من الله لأهل السلطة التي تجنح في طبعها إلى الاستبداد، ويكون عبد الرحمن الكواكبي محقاً في تسمية كتابه طبائع الاستبداد. ونضيف إلى حملة الفكر المشاعي السيد المسيح أيضاً وكان مع فقراء الناس وضد الأغنياء والتجار الذي قرن عملهم باللصوصية، وكان لطيفاً ليناً مع المساكين غليظ القلب مع أهل السلطة والمال، واعتبر الغنى من الكبائر التي تمنع مرتكبيه من الدخول إلى ملكوت الله. وقد تشدد في هذا المعيار، فرفض دخول الأغنياء في جماعته. ونحن نجد اليوم في المجتمعات العربية من يملك مليارات الوحدات النقدية وغيره يكسب قوته اليومي بالتسول أو بأي وسيلة أخرى يقوم بها على حساب كرامته الشخصية أو على حساب جسده. والبشر من عمال وفلاحين وحرفيين -خارج مؤسسات الدولة- تهلك أجسادهم في العمل ولا يجدون في نهاية عمرهم إلا الذل والحاجة. وها هم على الطرقات -من المحيط إلى الخليج- يُكافحون في سبيل لقمة عيش كريمة بعد أن بلغوا أرذل العمر. هل يحتاج هؤلاء مسيحاً جديداً يدافع عنهم أم تنظيماً مشاعياً معارضاً قادراً على قول الحقيقة رغم عسف السلطة وظلمها واستبدادها؟ على كل حال على أهل الفكر والثقافة أن يتواضعوا عند دراسة تجربة الأنبياء في الشرق، لأنها في النهاية حركة جماهيرية مستمرة حتى اليوم، وفيها الكثير من الخبرة والتجربة وكذلك هي تجربة مشاعية صادقة، وما لحقها من تشويه لا يتحمل وزره الأنبياء، لأن الأنبياء تعذبوا في مسيرتهم حتى أصبح القطيع البشري الذي يشرفون على رعايته أكثر مودة ولطفاً وأنساً. وهنا ملاحظة مهمة لا بد من إظهارها تتعلق بالعلاقة بين الراعي والرعية، فقد قال سقراط في معرض رده على أفلاطون: إن أي رجل دولة مسؤول يستوجب القصاص منه والحكم عليه بالفعل؛ لأنه ترك القطيع البشري الذي يرعاه أكثر شراسة مما كان عليه حين تولى أمره. فماذا نقول نحن اليوم وعامة الخلق لا يرون رعاتهم ملوكاً كانوا أو أُمراء أو سلاطين أو أباطرة أو زعماء دول أو قادة أحزاب، فالراعي يحصر حاله ضمن نطاق ضيق فيسمى حصيرا. قال الشاعر:

وقماقم

غلب الرقاب كأنهم

جند لدى باب الحصير قيام

وفي عصرنا الحديث هذا نادراً ما نجد الحاكم يخرج إلى الناس دون حرس وأمن بل نراه محاصراً من كل جانب، وكأن بينه وبين الرعية ثأر متروك. والسؤال ما الذي يمنع الحاكم من التحرك بحرية بحيث ينزل إلى الشارع متى شاء ويقابل الناس ويدخل بيوتهم في أي وقت يريد؟ يروي الطبري في تاريخه أن عمر بن الخطاب صادف في تجواله الليلي أرملة تطبخ الماء، فيسألها عن السبب، فتخبره أنها تُسكت به جوع أولادها حتى يناموا. ثم تستطرد الأرملة قائلة: الله بيننا وبين عمر. فيعترض عليها موضحاً إن عمر لا يدري بهم. فتجيبه يتولى أمرنا ويغفل عنا. ويضيف الطبري أنها كانت تقول له وهو يساعدها في طبخ الدقيق بعد أن أحضره لها: جزاك الله خيراً أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين. تقصد أنت أحق بالخ*لافة منه، وعدم علم الحاكم بأحوال الناس لا تعفيه من حقوقهم عنده. والحكاية بهذا التفصيل تحتمل الشك، لصعوبة تصديق كيف أن امرأة بسيطة تفهم مهمة السلطة على هذا النحو الذي لا يتيسر في الوقت الحاضر للكثير من المثقفين والسياسيين. ولكننا نقول إن صحة الوعي لا تتعلق بثقافة الفرد بقدر ما تتعلق بتجربته الحياتية، فالحكمة الشعبية تنطق بها أفواه العامة. والسؤال الذي يخطر في البال: كيف نشأت هذه الجفوة بين الحاكم والمحكوم؟ وهل الحاكم المؤتمن على رقاب العباد يتصرف وفق أهواء السلطة أم وفق مصالح الخلق الذين هو راعيهم والمسؤول أمامهم وأمام الله عن أحوالهم وأموالهم وأعراضهم وحياتهم؟ مع العلم أن الحاكم يستمد سلطته من الجماهير الغفيرة التي يحكمها وهو ملزم بتحقيق رغباتها لا رغباته وهو المسؤول عن معيشة رعاياه. بل وأكثر من ذلك قد يُسمي حاكم البلاد أجيراً، فقد ذكر المفكر هادي العلوي البغدادي -طيب الله ثراه في مقبرة الست زينب في دمشق- في دراسة له عن أبي العلاء المعري هذه الواقعة: (في رواية ترجع إلى صدر الإسلام عن تابعي يدعى أبو مسلم الخولان، من أهل اليمن، دخل على خليفة أموي فخاطبه بعبارة أيها الأجير، ولما استنكرها الخليفة بين له: نعم أنت أجير استأجرك رب هذه الأغنام لرعايتها).

وفيلسوف المعرة يتحدث عن علاقة الإيجار التي تربط الحاكم بحكمه، فيهاجم الحكام لظلمهم الرعية، وإهمال مصالحها رغم أنهم أجراء لها:

ملَّ المقام

فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية

واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وإذا كان الحاكم أجيراً عند الناس فمن حقهم خلعه عندما يخل بشروط العقد الذي أبرمه معهم. وهناك قاعدة فكرية خطيرة ترجع إلى كونفوشيوس وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية: إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً عدلوا واستقاموا وإن جار وسرق جاروا وسرقوا. وهذه القاعدة تدعم فكرة سقراط السابقة. وقد سأل معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس عن الزمان فقال: أنت الزمان فإن صلحت صلح وإن فسدت فسد. وتعود المعادلة من جديد إلى معاوية الذي رسم الخط السائد لحرية الفكر بقوله الشهير: إننا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!