مقالات عامة

مدينة الحيرة المسيحية .. قصورها .. كنائسها .. أديرتها ، والأحتلال الأسلامي

الكاتب: وردااسحاق
  مدينة الحيرة المسيحية .. قصورها .. كنائسها .. أديرتها ، والأحتلال الأسلامي
الحيرة أو ( حرتا ) أسم آرامي سرياني . وهناك من يفسر معناها بالعربية فيقول أنه مشتق من التحيُّر أو الحَيرة أو بمعنى الحمى والملجأ . الا أن الرأي الأرجح بالآرامية هي المعسكر والدير والحصن .
موقعها : تقع في جنوب بلاد ما بين النهرين ، جنوب الكوفة على بعد ثلاثة أميال . أشتهرت بطيب هوائها وصفاء جوها وصحة تربتها ، حتى قيل : ( يوم وليلة في الحيرة خير من دواء سنة ، بل سنتين ) . أنشأت في عهد الملك نبوخذنصر . دمرت بعد موته فتحولت الى أطلال فأنتقل أهلها الى مدينة الأنبارالمسيحية . أعيد بناء الحيرة مرة أخرى واتخذ مالك بن  فهم منزله في الأنبار وبنى في الحيرة قصراً وبستاناً . كما شيّدَ رجاله لهم منازل كثيرة فعظم اسمها . كان لحيرة موقعاً جغرافياً قريب من بادية الشام غرباً ومن جزيرة العرب الواقعة الى الجنوب . فكانت ممراً للقوافل ومحط رجال القبائل ، وقد سكنت بعض البطون والأفخاذ العربية كالتنوخيين واللخمينيين في بيوت من الشعر غرب الفرات فيما بين الحيرة والأنبار . أما الساكنين ضمن أسوار مدينة الحيرة فكانوا من العباد أي عباد الله من المسيحيين . أشهر ملوك الحيرة هو نعمان الأول ، ويسمى الأكبر أو السائح أو الأعور ( 403-431) م وهو الذي أتاح لسمعان العمودي أن يبشر بالمسيحية في بلاده
قام أهل الحيرة ببناء القصور الشامخة وكنائس فخمة وأديرة كثيرة وأحاطوها بالبساتين الغناء والرياض الحسنة . وما الى ذلك ومن أسماء قصورهم :
1- الخورنق : كان هذا القصر يجمع بين العظمة وبهاء الزخرفة وروعة الموضع .
2- قصر السدير : وهو عمارة بديعة من غرائب ذلك الدهر ، وكما وصفه المؤرخون . ومن ذكر قصر الخورنق لا بد من أن يذكر السدير أيضاً . ففي قصائد الشعراء وروايات المؤرخين يقرن أسم الخورنق بالسدير ، فيقولون أن الخورنق كان قريباً من المدينة الى شرقها أما السدير فكان في وسط البرية وما أكثرها ذكر الشعراء هذين الموضعين .
3- القصر الأبيض : وكان لأسقف المدينة ( شمعون بن جابر ) .
ومن القصور الأخرى قصر الزوراء والعذيب والصنبر  ، وقصر مقاتل والقصور الحُمَر وغيرها . كان هناك مبدعين في فن بناء القصور الفخمة والصروح الشامخة ، وكان بعض عامة الشعب يقلدون كبار القوم في بناء بيوت وقصور كبيرة .
معتقدات المدينة : كانت معتقدات مدينة الحيرة كثيرة والأغلبية كانت تؤمن بالمسيحية التي أنتشرت في بلاد ما بين النهرين منذ عهد رسل المسيح وخاصةً مار ماري ومار أدَي واليهما ينسب القداس المتداول في مختلف كنائسها اليوم ، كما وصلت الكتب المسيحية الى المناذرة منذ القرن المسيحي الأول فتنصر بعض ملوكها . وأن  المنذر بن أمرىْ القيس كان قد أعتنق المسيحية وأعتمد وبنى في مملكته كنائس جميلة . كما كان عمرو الثالث بن المنذر مسيحياً الذي أهتدى على يد أمه هند الكبرى . كما تنصر النعمان أيضاً واعتمد نحو سنة 593 م هو آل بيته مع عدد غفير من أهل مدينته وفتح قصره للفقراء والمحتاجين ، والتجأ اليه البطريرك العظيم أيشو عياب الأرزني سنة 595 م أذ كان هارباً من غضب كسرى الفارسي ومات في قرية قريبة من الحيرة فخرجت الأميرة هند أخت النعمان مع جمع من الكهنة والشمامسة وعموم الشعب وادخلوا جثمانه الى المدينة بأحتفال عظيم يليق بمكانته . ودفن في وسط المذبح بديرها المعروف باسمها ( دير هند الصغرى ) .
نزل في الحيرة بعد تنصر هند عدد من آباء الكنيسة فعلّموا وعَمّدوا الكثيرين . ومات الكثيرين منهم في هذه المدينة فتباركت أرضها برفاتهم الكريمة ، لذا يطلق المؤرخون الكنسيون عليها أسم الحيرة المباركة . كان في الحيرة كرسي الأسقف التابع لجاثليق كنيسة المشرق . وأخبار بعض أساقفتها كثيرة في أعمال المجامع الكنسية منذ مطلع القرن الخامس . وصوم الباعوثة المعروف بصوم نينوى رتب طقوسه أسقف الحيرة مار يوحنا أزرق في القرن الثامن وعرف آنذاك ب ( صوم البتولات ) .
كان في الحيرة كنائس فخمة مشيّدة حسب الريازة الشرقية . متجهة الى الشرق حسب تقاليدنا اليوم . وفي صدرها قدس الأقداس حيث ينتصب المذبح ويغلق هذا المكان المهيب بباب أو ستار من قماش لا يفتح الا في أوقات معينة في طقوس الكنيسة وأمامه موضع مرتفع بعض الشىء لوقوف الشمامسة في فرقتين . كما كان في وسط الكنيسة موقع مرتفع كان يعرف بأسم ( البيم ) حيث يجلس فيه الأسقف ويحيط به القساوسة والشمامسة وأمامه القراءات من الكتاب المقدس . كانت جدران الكنائس مبنية باللبن وأعمدتها بالآجر وكانت مزخرفة بالنقوش والفسيفساء ، ومجلملة بالصوروقناديل الذهب والفضة . وفيها حنايا تضم رفات الشهداء والقديسين ، وتكون هذه الحنايا مغطاة بقماش من الحرير يتدلى أمامها . ومن أشهر كنائس مدينة الحيرة هي :
أولاً – كنيسة البيعة الكبرى في بني الخيان وهي الأولى لأنها بيعة الكرسي وتسمى ” بيعة الملائكة ” . لماذا سميت بهذا الأسم ؟ لأنه كان يرى مع الفعلة رجلان يبنيان ويطينان ، عليهما لباس مثل الثلج ، فإذا جلس العمال للغذاء أو العشاء أو عند أستلام العمال الأجور كانا يغيبان فجأةً . وكانا يعملان في بناء الآجر والجص حتى تم بناء البيعة .
ثانياً – كنيسة مار توما رسول المشرق .
ثالثاً – كنيسة مريم العذراء .
رابعاً –  كان هناك كنائس أخرى منتشرة في أرجاء المدينة عدا كنائس أخرى مشيدة في داخل الأديرة .
أما أديرة الحيرة فكانت أوفر حظاً من كنائسها ، فقد وصلتنا أسماؤها وأوصافها لأن أحد أبائنا المؤرخين المدعو ( أيشو عدناح ) الذي كان مطراناً على مدينة البصرة في القرن التاسع ، وضع كتاباً مختصراً في الأديرة فسجل عن أديرة الحيرة الأسماء التالية :
أولاً – دير مار يوحنا الحيري
ثانياً – دير مار باباي الكاتب
ثالثاً – دير مار عبدا أبن الحنيف
رابعاً – دير مار خودهوي
خامساً – دير مار أبراهام
سادساً – دير مار أيليا الحيري ( أنتقل بعد ذلك الى مدينة الموصل وأسس هناك ديراً آخر قريب من معسكر الغزلاني وما يزال باقياً ) .
سابعاً – دير القديسة دودي التي أسست أسست هذا الدير للعذارى
ثامناً – دير الطوباوية أذرمنج ، والتي أقتفت أثار القديسة دودي
تاسعاً – دير أبن البراق
عاشراً – دير الأعور
حادي عشر- دير الأسكون أو الأسكول
ثاني عشر – دير بني مرينا
ثالث عشر – دير الجرعة
رابع عشر – دير الجماجم . سمي بهذا الأسم بسبب القتال الذي حصل في ذلك الموقع فتركمت أشلاء الق*ت*لى وتبعثرت جماجمهم فأشتهر الموضع بهذا الأسم .
خامس عشر- دير قرة
سادس عشر – دير اللج الذي بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس وكان الملك يسير في كل عيد ومعه أهل بيته بموكب وبأيديهم أعلام فوقها صلبان ويذهبون لقضاء صلواتهم في هذا الدير ثم ينصرفون الى مستشرفة في النجف للتنزه
سابع عشر – دير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر . شيّدت هذا الدير وانزوت فيه ولها قصة طويلة ذكرها المؤرخون في سياق كلامهم عن زيارة خالد بن وليد لهذا الدير ولقائه بهند . كما قصد هذا الدير هارون الرشيد ورأى فيه قبر هند وقبر أبيها فترحم عليهما
ثامن عشر – دير هند الكبرى وهي بنت الحارث بن عمرو بن حجر ، وهي عمة الشاعر الكبير أمرؤ القيسي . زار هذا الدير هارون الرشيد بعد زيارته لدير هند الصغرى والدير يقع على أطراف النجف .
وهناك أديرة أخرى ذكرت من قبل المؤرخون العرب وخاصةً ياقوت الحموي في كتابه ( معجم البلدان ) فذكر هذا العملاق عدد كبير من الأديرة ويوجد في خزانة البطريركية الكلدانية نسخة منه .
أما المعتقدات الأخرى السائدة في المدينة الى جانب المسيحية فكانت اليهودية والنانوية وبعض قليل كانوا على جاهلية العرب ومعتقداتهم الوثنية .
أما التعليم في تلك المدينة ذات معالم الحضارة والدين والأدب والقانون والفنون فقد كثرت فيها المدارس وتخرج منها علماء أفذاذ في مجال الأدب والترجمة والعلوم والمعرفة وغيرها . أما في الفن فقد تطور فن الزخرفو والنقوش والخط السرياني الحيري الشهير . الخط السرياني والنبطي نابعة من الخط الآرامي القديم ومنها أستنبط الخط الكوفي العربي الغير منقط . ظهر في الحيرة أدباء وشعراء ومفسرون للكتب السماوية . ذكر صاحب كتاب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني عن شاعر معروف كان ينظم الشعر على السليقة ويرتجله لكنه لم يكن يعرف القراءة ، أنه المتلمس وهو جرير بن عبد المسيح الضبعي . نبغ في عدي بن زيد العبادي ، وعدي بن مرينا ، وكانت لأمرىء القيس صِلات قرابة بملوك الحيرة . وتعلم المرقش الأكبر الكتابة في الحيرة . أما نابغة الذبياني فكان ممن يحل على النعمان وينشد الأشعار في حضرته . وكذلك حنظلة الطائي والنابغة الجعدي الذي كان أقدم من الذبياني .
حيرة والغزو الأسلامي
رحب أهل الحيرة المسيحيون بالعرب المسلمين الذين دخلوا من الجنوب قادمين من جزيرة العرب فاتحين ، فرأوا فيهم محررين يزيحون من كواهلهم أوزار السلطات الفارسية والبيزنطية العاتية التي طالما أستهانت بكرامتهم واستباحت مقدياتهم وحاولت القضاء على دياناتهم بأضطهادات ومجازر متلاحقة عبر الأجيال هذه الأسباب أقنعت المسيحين في العراق الى تسهيل مهمة الفتوحات الأسلامية دون أن يعلموا نياتها بأنها ليست فتوحات بل غزوات على بلادهم والثورة على معتقداتهم ز وسيعملون أن سباب الأسلام هو أغلظ من أبهام الفرس . نعم الأسلام في بدايته أحترم المسيحية فلما حل في الكوفة والحيرة نزل المسلمون في كنائسهما واديرتهما . كان المسلمون يعظمون المسيح ويحترمون الكتاب المقدس ، ومن هذا المنطلق حارب المسيحيون أبناء كنيسة المشرق جنباَ الى جنب مع المسلمين وأبلو بلاءً حسناً أدى الى رجاحة كفة الحرب لصالح المسلمين ضد الفرس الوثنيين في معركة القادسية . الجندي الذي بارز قائد الفرس رستم وقطع رأسه كان الفارس المسيحي هلال بن علقمة من أهل الحيرة وكان ينتمي الى قبيلة بني نمر أحدى قبائل الحيرة التي حكمها خمس ملوك كلدان قبل أن يتولى حكمها العرب المسيحيين بدءً من عمر بن عدي 288-328 م . بعد أنتصار المسلمين على الفرس أظهر العرب القادمين من الجزيرة على حقيقتهم فخاب ظن المسيحيين بما كانوا يتوقعونه من العرب ودينهم الجديد . لم يدر خلدهم أن خلاصهم من أتون نار أضطهادات الفرس الوثنيين سيكون مدخلاً الى أتون نار آخر أشد حرارةً وقسوى . لن يدرسوا مسيحيي العراق حقيقة الأسلام في الجزيرة وماذا فعل بالمعتقدات الأخرى هناك كاليهود والنصارى وكيف خصص نبيهم جزيرة العرب لدين واحد فقط . أجل لقد سبق يهود يثرب ( المدينة ) أضطهاد وظلم المسلمين  ن حيث رحب يهود يثرب بنبي العرب الهارب من مكة مع جماعته حيث رأوا فيه وسيلة لزوال فترة الأصنام ، فكان سكان المدينة كلهم يفضلون أبطال عقيدة الأيمان بالأصنام الصماء وبنهايتها تسقط مكة وتنهض مدينتهم ، لا سيما أذا هاجر اليها صاحب الدعوة الجديدة ( محمد ) وصارت المدينة التي أنتقل أليها مركزاً للدين الجديد فيحج الى مدينتهم الناس بدلاً من حجهم لمكة دون أن يفهموا مستقبل ونية الرسالة الجديدة وصاحبها .
 كانت نسبة المسيحيين في أرض الرافدين المتكون من عدة ملايين من البشر 90% . وهكذا بدأت حقيقة الأستعمار الغازي من جزيرة العرب تتجلى على حقيقتها بعد القضاء على الفرس ، فبدأوا بأعتبار المسيحيين أهل الذمة ولحقتها آلام دفع الجزية ومعاملتهم بقسوة وأهانة ، فبدأت الهجرة نحو الشمال للتستر بين الهضاب والجبال الوعرة لكي يحافظوا على أيمانهم وأجسادهم .  
وهكذا كانت أرض جنوب ما بين النهرين أرض مسيحية وآثار الكنائس والأديرة الموجودة في كل بقعة اليوم تشهد على هذه الحقيقة . كان الأيمان راسخاً في القلوب لهذا نجد عدداً أكبر من الكنائس والأديرة في منطقة النجف القريبة من الحيرة . فقد أكتشفت مديرية آثار محافظة النجف أخيراً ثلاثة وثلاثين كنيسة ودير في أرض النجف وخاصة عندما قاموا بتشيد مطار النجف الدولي ، كما أكتشف فيها أكبر مقبرة مسيحية لكثرة المسيحيين في تلك الأرض . وهكذا سيكشف الزمن حقائق كثيرة دفنت تحت التراب .
بقلم
وردا أسحاق عيسى
ونزرد – كندا
المصادر
  تاريخ الكنيسة السريانية الشرقي ( الأب البير أبونا )
  كتاب مار أيليا الحيري ( الأب بطرس حداد )
  المجلد الأول ( الكلدان والآشوريون عبر القرون ) د. كوركيس مردو
 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!