الحوار الهاديء

قراءة في كتاب “تاريخ كرمليس/ الطبعة الثانية” لمؤلفه “حبيب حنونا”

قراءة في كتاب “تأريخ كرمليس / الطبعة الثانية” لمؤلفه “حبيب حنونا”

د. عبدالله مرقس رابي

قراءة في كتاب “تأريخ كرمليس / الطبعة الثانية"

 

 تعدُ الكتابة عن البلدات والتجمعات السكانية بصورة عامة من الاعمال التي تتطلب جهوداً كبيرة، وثم التأني والصبر وسعة الاطلاع على الحقول المعرفية التي تتناول المجالات المتعددة المرتبطة بدراسة البلدة تاريخياً، آثارياً، اجتماعياً، اقتصادياً، انثروبولوجياً، ديمغرافياً، سياسياً ودينيا، إضافة لما يتمتع به الباحث من النباهة والنزاهة والقدرة على التحكم في العواطف والمشاعر، واخص بالذكر، لو أراد الولوج في أعماق التاريخ وتغطية الحياة الاجتماعية والحضارية من النواحي المتعددة لسكان البلدة.    

تبين لي من مراجعة الكتاب المُشار أعلاه، ان الباحث المهندس (حبيب حنونا) تمتع بما ذكرت من المزايا الشخصية التي أهلته ان يكتب كتاباً شاملاً عن بلدته (كرمليس) ويغطي المجالات الحياتية المتعددة لسكانها، عبر المراحل التاريخية التي مرت عليها. وقد تجلت موهبته منذ عمر الصبا عندما كان يجول مع أصدقائه في حقول قريته ويندهش من تلك التلول التي انتشرت حولها، ويشاهد الغرباء من القرية وفدوا اليها ليبحثوا عن بقايا قطع الاواني والفخاريات ليجمعوا ما يستطيعوا جمعه من تلك التلول، مما دفعه الفضول الى معرفة ما الذي يعمل بها هؤلاء البحاثة الغرباء وما هي قيمتها.

طُبع الكتاب في طبعته الثانية المنقحة والمزيدة في ولاية مشيكن الامريكية عام 2023، ويقع في (188) صفحة من الحجم الكبير للورق 28×21سم. يتكون الكتاب من المقدمة وكلمة تقديمي له واثني عشر فصلاً، خصص الباحث الفصول الاربعة الأولى للحديث عن جغرافية وتاريخ البلدة والاكتشافات الأثرية منذ العصور التاريخية القديمة، بينما عرض في الفصل الخامس المسيرة الكنسية في كرمليس منذ ظهور المسيحية في المنطقة، واما الفصل السادس احتوى على تفاصيل مما عانته البلدة من الغزوات والتخريب ابان الحكم العثماني، وتحدث في الفصل السابع عن ما كُتب بخصوص كرمليس في مذكرات الرحالة والمستشرقين، ووصف في الفصل الثامن اديرة وكنائس البلدة، بينما تناول في الفصل التاسع، مخطوطات كرمليس، وذكر في الفصل العاشر شهداء البلدة عبر التاريخ، وخصص الفصل الحادي عشر لوصف الحالة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لسكان البلدة، عنون الفصل الأخير (د*اع*ش تحتل الموصل وسهل نينوي) ليوثق ما تعرضت المنطقة وبلدته كرمليس في عام 2014 الى الق*ت*ل والويلات والاضطهادات والتهجير والترهيب وما لحقها من الدمار.

وقد تضمنت فصول الكتاب على عشرات الخرائط والصور التي توضح المواقع الاثرية والمكتشفات والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، وتعكس الطبيعة والعمران في البلدة، واخرى تبرز ما لحق بها من دمار عام 2014، وكما احتوى الكتاب على ملخص باللغة الإنكليزية.   

فالكتاب القيم المتميز هذا في طبعته الثانية، شخص الكثير من الظواهر التاريخية والحضارية، وعالج العديد من التساؤلات عن تاريخ القرية الموغلة بالقدم. حيث كشف بشكل تفصيلي عن الأصول التاريخية والحقب التي مرت بها كرمليس وما جرى من تغيرات سكانية واجتماعية ودينية وسياسية، وقد أبدع في الوقوف على العمق التاريخي لنشأة القرية الذي يرجع الى عصور ما قبل التاريخ، وبل من المستوطنات البشرية القديمة جداً في العالم بحسب الجمعية الجغرافية البريطانية. ولما كان مولعاً لاكتشاف خفايا تلك التلول، فجاب متاحف العالم ليعثر عن اية نصوص أثرية تُشير محتوياتها الى تاريخ قريته، وزار مختلف المكتبات العالمية ليبحث عن المصادر والمراجع العلمية الاكاديمية، وراجع كتب الرحالة الذين زاروا القرية لعله يكتشف شيئاً عنها بين صفحاتها، إضافة الى المعلومات التي حصل عليها من كبار السن في القرية وما احتوت المخطوطات الكنسية من اخبار عنها.

اكتشف ان تلك التلول تكومت على أثر اندثار مستوطنات بشرية منذ العصر الحجري وشهدت حضارات عريقة متعددة منذ عصور ما قبل التاريخ ومروراً بالعهد السومري وخضعت للدولة الاكدية وثم الاشورية، وبعدها خضعت للدولة الكلدانية. وتبين بان كرمليس كانت مدينة دينية منذ أواخر الالف الثالث قبل الميلاد، وان واحدة من الفرضيات تؤكد في تسميتها باسم أحد الالهة الوثنية، كانت مدينة عامرة عند تأسيس الدولة الاشورية عام 1813 قبل الميلاد، مما يؤكد ذلك عدم ارتباط وجودها مع قيام الدولة الاشورية، بل سبق ذلك الاف السنين. ولما كانت منطقة التقاء الشعوب المختلفة الطامعة في بلاد الرافدين في مختلف العصور، أصبحت مسرحاً للمعارك بينها، فهدمت لعدة مرات وعُمرت من جديد وهكذا.

اكتشف مدى تمتع كرمليس بشأنٍ تاريخي حضاري وديني لأهمية موقعها الجغرافي وموضعها وطبيعة الأراضي المحيطة بها، وازدهرت وتعاظم مركزها ابان العصر الاشوري الحديث، لاستمرارها كمركز ديني، وقربها من العواصم الاشورية، وأصبحت مركزاً للولاية في القرن الثالث عشر والرابع عشر في العصر المغولي، ومركزاً لكنيسة المشرق في القرن الرابع عشر الميلادي.

تمكن الباحث من تحليل التطور الايكولوجي السكني وعلاقة الانسان مع البيئة الطبيعية، موضحاً بدقة كل التفاصيل عن طبيعة البناء للأبنية العامة والدينية والسكنية، وربط المتغيرات مع بعضها ليطلع القارئ على التطور الاقتصادي بمختلف مجالاته التجارية والإنتاجية والحرفية، والتغير الاجتماعي، والتبدل الديمغرافي والديني والمذهبي والثقافي والتعليمي في القرية، وما جرى من تغيرات عامة على مر الزمن، متوجاً الكتاب في تحليل جميل وميداني رائعٍ عن الحياة الاجتماعية متمثلة بالأنشطة الاجتماعية من حيث التقاليد والقيم الاجتماعية والعادات والممارسات اليومية لأهالي القرية وتبدلها زمنياً، مشاركةً مع الأستاذ (بهنام سليمان متي) ليغطي كل المجالات لتكون دراسة شاملة لتبعث صورة تكاملية عن قرية كرمليس. فسعى الباحث جاداً ومثابراً لكشف ما لم يكن معروفاً عن قريته والتلول المحيطة بها بعمق ودقة متناهية قلما نشاهدها عند غير المختصين في هذه الحقول المعرفية.

يرقى الكتاب الى الكتب المهمة والنادرة التي أبدع المؤلف في تأليفه، اذ كما ذكرت آنفاً من الصعوبة الكتابة في تاريخ التجمعات السكانية موضوعياً ما لم يكن الباحث ملماً في مجالات متعددة من حقول المعرفة. وقد اتقن استخدام أدوات البحث العلمي من حيث الملاحظة المقننة والمقابلات والوثائق والرسومات والمخطوطات المتوفرة واستخدام الدقيق للمصادر وتنوعها، وطريقة التعامل مع النصوص بمنطقية وجدارة وثقة بالنفس العالية المقرونة بالرغبة والإرادة في البحث، مجنباً التأثيرات العاطفية في التحليل ومناقشة الافكار، مما نقل المعلومة لنا لا كما يريدها ويفضلها هو، بل كما هي في واقعها الطبيعي.

 يعد الكتاب وثيقة بالغة الأهمية لما بذله المؤلف من جهود كبيرة في جمع المعلومات ليجعل من هذا العمل الثقافي العلمي مهماً للمهتمين في التاريخ واجتماعيات البلدان وحضاراتها. ويرفد المكتبات للقراء باللغة العربية بمصدر أساسي بليغ ذو قيمة علمية ليضعه في متناول ايدي الباحثين. ولما وجدت في الكتاب من معلومات قيمة لمختلف المجالات المعرفية، أرى ان اقتنائه وقراءته سوف تدر بأهمية للقارئ والباحث في شؤون البلدات اجتماعياً وحضارياً.

وقد أجاد الكاتب في تأليف الكتاب، مثلما أبدع في مؤلفاته السابقة التي اطلعت على معظمها وهي:

تاريخ كرمليس الطبعة الأولى عام 1988، كنيسة المشرق في سهل نينوى / ساندياكو 1992، لمحات من تاريخ كلدو وآثور /ساندياكو 1994، سفر الخروج الكلداني بطبعتيه الأولى والثانية على التوالي، 2013، 2022، والكتب المخطوطة: السورث والاكدية بغداد 1990، ديمغرافية الكلدان 2004 منشور على حلقات في الصحافة، وسهل نينوى – لمحة تاريخية ودراسة ميدانية. إضافة الى عشرات المقالات المنشورة في العديد من المجلات والصحافة الورقية والإلكترونية والمقابلات التلفزيونية والمحاضرات التاريخية، وما قدمه من برنامج خاص عن بلدات سهل نينوى في إذاعة صوت الكلدان في مشيكن.

 

تمنياتي للباحث المهندس (حبيب حنونا) المزيد من العطاء المعرفي العلمي، ووافر الصحة والعافية.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!