الحوار الهاديء

خيار الزوجية أو العزوبية للكهنة تحليل نفسي أجتماعي في ضوء مقال أ. نوئيل السناطي

د. عبدالله مرقس رابي    

 

 

خيار الزوجية أو العزوبية للكهنة تحليل نفسي أجتماعي  في ضوء مقال أ. نوئيل السناطي

                              في 17 من الشهر الجاري نشر المونسينيور الاعلامي نوئيل السناطي مقالاً جريئاً في طرحه لموضوع زواج الكهنة بعنوان ” بين الكر والفر، مرحلة جديدة بشأن خيار الكهنة المتزوجين والعزاب ” حلل فيه ظاهرة العزوبية أو الزوجية للكهنة التي أشغلت المفكرون واللاهوتيون وكرادلة الفاتيكان والاعلام في السنين الاخيرة.

أستخلص في مقاله الهام وجود فريقين متناقضين في موقفهما عن ظاهرة زواج الكهنة في اعلى الهرم الكنسي الكاثوليكي المتمثل بالكرادلة واللاهوتيين ،فئة منفتحة مؤيدة تقرأ الواقع بموضوعية وفئة محافظة رافضة ترسخ التقليد دون أن تدرس الواقع الكنسي بموضوعية . وألقى الضوء على عراقة الكنائس الشرقية الكاثوليكية منها في تراثها من موقفها لرسامة أشخاص متزوجين كهنة منذ البدء بالرغم من الشركة مع الكنيسة الرومانية التي ترفض هكذا رسامات. أخيراً يحذر من مهبة  الانزلاق للتمييز بين الكهنة المتزوجين والعزاب منبهاً بوجود أفكار انتقاصية تجاه المتزوجين مع تجذر فجوة بين الاكليروس والعلمانيين من كلا الجنسين.

لاهمية الموضوع، ولكونه من أهم مواضيع الساعة في الكنيسة الكاثوليكية والاعلام العالمي ولارتباط ظواهر هامة به أشغلت الكنيسة، كالانحرافات الجنسية لرجال الدين بمختلف درجاتهم الكهنوتية والنقص الحاد للكهنة في الكنيسة الكاثوليكية، ولاهمية المقال المذكور ،أرتأيت أن أسلط الضوء على الظاهرة مُنطلقاً من التحليل النفسي الاجتماعي .

 بناء الشخصية

             تتركب شخصية الانسان من صفات وراثية ،جسمية منها ممكن رؤيتها مباشرة، وأخرى وراثية لايمكن الاستدلال عنها ألا بالسلوك الصادر من الانسان وتسمى الاستعدادات الوراثية ، مثل الاستعداد للبقاء والتملك والسلطة والحب والكره وايذاء الاخرين والسعادة والجنس والاكل. وهي متعددة تصل عند بعض علماء النفس الاجتماعي الى 114 استعداد غريزي. ويختلف العلماء في أكثر الاستعداد أهمية في حياة الانسان، وأخرى صفات مكتسبة من البيئة الثقافية والاجتماعية التي يعيش فيها الانسان، كالتعليم والقيم والتقاليد والادوار والمكانة الاجتماعية والمهن وغيرها.

كيف تعمل الشخصية؟

 الاستعدادات الوراثية هي حاجات طبيعية موجودة عند كل أنسان وتختلف درجتها بأختلاف الافراد .تنمو مع نمو الانسان الطبيعي، وأثناء نموها زمنياً يكتسب الانسان الصفات الاخرى المُشار لبعضها اعلاه من البيئة الاجتماعية. تتفاعل الفئتين مع بعضها فتحدد تصرفات وحاجات الانسان .وهذه الحاجات تتباين بين الافراد وتمتد بين القطبين السالب والموجب ،أي زيادة مفرطة جداً لتصل الى درجة الجموح،والى النقصان المفرط لتصل الى درجة الجمود والبرود.وفي كلتا الحالتين يتعرض الانسان الى المشكلات، وعليه بقاء درجتها في وسط المقياس تخلق توازن في الشخصية وهي عند الغالبية العظمى من الناس. ولا يمكن أن يستغني الانسان ابدا عن هذه الحاجات الاساسية. منحتها لنا الطبيعة بالمفهوم العلمي ومنحها لنا الله بالمفهوم الديني. منع الانسان من أشباع هذه الحاجات وأخص بالذكر الاساسية منها، يعني تجريد الانسان من جزء طبيعي من كيانه .مما يقود ذلك الى الخلل في الشخصية.

الحاجة الى الجنس

وهي مرتبطة بموضوع المقال. نالت هذه الحاجة أهتماماً كبيراً من قبل علماء النفس والاجتماع لارتباطها بسلوك الانسان وحياته، هي تلك الحاجة التي لو انعدمت كاستعداد عند الكائن الحي لما كان هناك في الوجود كائناً حياً. وهي الحاجة التي تمهد للتناسل البشري والتكاثر، بمعنى البقاء وأستمرار البشرية.  تؤثر البيئة في تفعيل هذه الحاجة عند الانسان فتنظم أشباعها بقواعد معينة وتختلف بأختلاف ثقافات المجتمع البشري. ويتطور تنظيمها مع تقدم العقل البشري .

الحاجة الجنسية وفقاً لعلماء التحليل النفسي الاجتماعي وفي مقدمتهم ” سيجموند فرويد” يعدونها الاساسية جداً في حياة الانسان، بحيث يعزو تصرفات الفرد جميعها لغرض أشباعها. بمعنى أن الانسان لايمكن الاستغناء عنها. فشدتها أي جموحها قد يؤدي بالفرد الى تجاوز القواعد الاجتماعية ويندفع الى أشباعها بطرق غير شرعية، وأما اعتدالها ستجعل منه الانتظار الى يوم الزواج .والى حين الزواج تكون مشاعره الجنسية مكبوتة في اللاشعور ،أو قد يشبعها بطرق مختلفة لا مجال لذكرها هنا. وعليه فالمجتمعات المتحضرة لتدارك المشاكل الناجمة عن عدم أشباع هذه الحاجة عند الانسان سمحت قوانينها الوضعية بالاتصال الجنسي دون وقوع الزواج رسمياً وبرضى الطرفين، مع التأكيد  على نشر الوعي لتكون علاقة جنسية سليمة لتجنب الامراض والمشاكل.

الانخراط في السلك الكهنوتي والحاجة الجنسية

وهي حاجة لا تنطفي عند الانسان تبقى ملازمة له طوال حياته كالحاجة الى الاكل، فتشريع قوانين لمنع الانسان من اشباعها وكبحها هو أجراء تعسفي يحبط حاجة مُلحة عنده لايمكن الاستغناء عنها عند الانسان الطبيعي مُقابل منحه فرصة لاشباع حاجات أخرى . هذا بالتأكيد يحدث في المؤسسة الكنسية التي تضع قيود صارمة على من يرغب الانضمام الى السلك الكهنوتي وتمنع أشباع حاجته الجنسية ومنعه من الزواج مقابل توفير فرصة لاشباع دوافع اخرى مثل،الرغبة في خدمة الناس، تحقيق مكانة أجتماعية وهو كاهناً أو اسقفاً، تحقيق رغبة الخلاص الابدي ما بعد الموت التي يرى تحقيقها وهو كاهناً. والا، هل أن رغبة الشخص ليصبح كاهناً تأتي من الفراغ؟ بالطبع لا.

 لابد منطقياً أن كل عمل يقدم أليه الانسان هناك دافع لتحقيق حاجة أو أكثر، فالرغبة بالكهنوت حالها حال أية رغبة أخرى. بالرغم من أن الانسان يقرر الانضمام الى السلك الكهنوتي برغبته ولم يُلزمه أحد، الا أنه واقعياً تحقيق تلك الرغبة مشروط بحرمانه من تحقيق رغبة أخرى هي الحاجة الجنسية، أي بمنعه من الزواج. وهذه هي عملية أستغلالية بعينها. وهذا الشرط يختلف عن شروط أخرى تضعها المؤسسات امام الفرد المتقدم أليها، مثل مدة الخدمة ،مكان الاقامة ،الطاعة للتعليمات لاجل الانضباط الاداري وغيرها .هذه ليست رغبات طبيعية كالرغبة الى الجنس. فلا تدخل ضمن سياق الاستغلال.

لكي يحقق الشخص رغباته التي من اجلها انخرط في السلك الكهنوتي تقوم عنده(الهو) الجزء الطبيعي من الشخصية باستشعار الذات (الانا) لاشباع الرغبة الجنسية، ولكن ( الانا العليا) الضمير الذي يمثل المُثل العليا للشخص المتكون عن طريق التنشئة الاجتماعية يمنعه من القيام بنشاط لتفريغ هذه الطاقة فيقوم بتحريف المسار للتعبير عن دوافعه الفطرية وتخفيف الصراع النفسي الداخلي للقيام والانخراط في نشاطات قيمة مقبولة مجتمعياً ومنها الاعمال الفنية والكتابة والاعمال الخيرية ومنها الروحانية بحيث هذا النشاط ليس له علاقة مباشرة بالجنس، بل يحقق اللذة الجنسية للفرد وهذه العملية تسمى ( التسامي) .وهذه هي بعينها (الموهبة)ويُنظر أليها خارجياً في المفهوم الديني انها تكريس الذات للانخراط في الكهنوت ويبذل كل جهوده وطاقاته للاعمال الروحية وارضاء الله وهو بتولا،أو هي بتولة .

ماذا يحدث للكهنة المكرسين أنفسهم أو العزاب؟

غالباً ما يدخل الفرد الى معاهد التربية الدينية للعمل الكهنوتي أو الرهبنة ما بين 12 الى 18 من عمره ويُرسم كاهنا بعد اربعة أو ستة سنوات ،أي في عمر تكون الدوافع الفطرية على فاعليتها القصوى ومنها الجنسية،ولكن تُحول عن طريق التسامي كما أشرت آنفاً. وهل تبقى هذه الحالة مستمرة عند الشخص الكاهن الاعزب طوال عمره؟ الجواب هنا هو المسألة نسبية أي تتباين عملية التسامي في استمراريتها بين الافراد، بحيث تبقى عند البعض مدى الحياة وهؤلاء قلة وعليه نستشف النقاوة عند بعض الكهنة والرهبان وامكانية السيطرة على رغباتهم ،ويرجع ذلك لعدة أسباب أهمها طبيعة النمو في الطفولة بيولوجياً وأجتماعياً،موقع درجة الانفعال الغريزي في المقياس ،هل هي معتدلة أم جامحة أو جامدة، فغالباً ما تكون هنا جامدة.مدى تعرضه للمثيرات الخارجية، مثل الاغراءات الجنسية من الجنس الاخر أو توفر فرص الاختلاط مع الاطفال او الفتيات بأستمرار وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه ،هل هو متحضر ،هل فيه وسائل اعلام متطورة ومفتوحة كما في عصرنا اليوم الذي يُبيح ويثير المشاعر الجنسية للشخص ،هل له مواهب أخرى كالكتابة والرياضة والسفر المستمر .

عليه مثلا تزداد نسبة الانحرافات الجنسية عند كهنة واساقفة اليوم لان طبيعة المجتمع المعاصر اعلامياُ وأقتصادياً وأجتماعياً تختلف عن المجتمع قديماً .لذا فرص الاغراءات والاختلاطات تكون اوفر مما في السابق .وهذا لايعني الكهنة والاساقفة في المجتعمات التقليدية براءة جميعهم من الانحرافات، كانت موجودة وقد تكون بنفس النسبة أو أقل ،لكن عوامل كشفها لم تكن فعالة ،فالاعتداء على الاطفال من الجنسين من قبلهم يبقى مستوراً بفعل القيم الاجتماعية للاسرة لكي لا تُصيبها الفضيحة أو خوفاً من الفاعل لرهبته ومكانته الدينية واعتباره شخصاً مقدساً ،اضافة الى طبيعة التنشئة الاجتماعية ،فاليوم الاسرة تدرب اطفالها على الصراحة وعدم الاخفاء ،فيلقفها الاعلام المفتوح وتصبح موضوعاً دسماً له. بينما في السابق تُدربه على الصمت والتستر والسكوت.

  اذن هل خيار زواج الكاهن هو الافضل؟

      في ضوء ما طرحته أعلاه مستنداً على التحليل النفسي الاجتماعي لشخصية الانسان يكون الجواب بسيطا ،نعم رسامة اشخاص متزوجين لاداء الخدمات الروحية أفضل أستجابة لمتطلبات العصر وظروفه مع بقاء خيار العزوبية للشخص الذي يرغب من كلا الجنسين طالما هو قرار شخصي ويرى أنه بأمكانه السيطرة على رغباته الفطرية، واذا انحرف لاسباب ذكرتها اعلاه ،ان لا تتهاون الكنيسة معه بل يُفصل ويُجرد من سر الكهنوت مثلما يُجرد العلماني من سر الزواج أي بطلان زواجه .

ماهي الوظائف المتوقعة من زواج الكهنة؟

انها طريقة واقعية وعملية للحد من انحرافات الكهنة ، وهنا أقول الحد وليس القضاء ،لعدم وجود قضاء تام على أية مشكلة نفسية أو أجتماعية طالما هناك النسبية والفروق الفردية.وتعويض النقص في عددهم في ظل متغيرات مجتمعنا المعاصر.

يعد الزواج عامل اساسي للاستقرار النفسي والاجتماعي للانسان طالما يحقق له أشباع غرائز طبيعية علاوة على المشاعر الجنسية ،عاطفة الابوة ، والحنان،اثبات الذات، التكامل مع الجنس الاخر. فبدلا من أن يبحث على وسائل بديلة لاشباعها وقد تكون انحرافية بعد ضمور التسامي، فالاسرة هي بيئة مثالية ومستقرة لاشباعها.

الاسرة التي يكون الكاهن فيها عضواً تكون بمثابة مدرسة أجتماعية له ،فهو يكتسب خبرة في المجال الاسري الذي لايمكن العازب حصولها ميدانياً وممارسة.وثم يُسخر هذه الخبرة في تقديم المشورة ومساعدة الاسر المضطربة والمفككة .كما يكون أكثر استعدادا لتهيئة المخطوبين في دوراتهم الكنسية من غيره.فما يتعلمه الكاهن العازب عن شؤون الاسرة نظرياً ليس كما يتدرب عليها المتزوج.

هل ستعيق الاسرة عمل الكاهن الروحي ؟

غالباً ما يكون أعتراض الكنيسة بدرجة الاساس ،او بعض العلمانيين وهم قلة ،اذ تُشير نتائج استطلاع راي العلمانيين حول زواج الكهنة الى 85% في بعض البلدان الاوربية بالتأييد الكامل.يدور الاعتراض حول قصور الكاهن المتزوج من اداء واجباته الروحية تجاه الرعية ،لان الاسرة تأخذ حيزاً كبيراً من مجهوده، ولان واجبات الكهنة والاساقفة جسيمة جدا وهامة ومسؤلياتهم كبيرة ومتعددة وعليه ان لا يشتت جهده لرعاية اسرته.

أعتقد لو أجرينا المقارنات بين الحالات المتشابهة لنصل الى نتيجة ايجابية لصالح الكاهن او الاسقف المتزوج. وفقاً لمبرر المسؤوليات الجسيمة ،يعني على كل شخص له مسؤليات في المجتمع ان لايتزوج والا اسرته تُشتت جهوده!! هل مسؤليات الاسقف او الكاهن هي اكبر من رئيس الدولة او الوزير او الطبيب او المهندس او الاستاذ الجامعي ؟في رايي ومنطقياً واجبات الاسقف والكهنة لاتساوي الا جزء بسيط مما ذكرت اعلاه. كم من الاساقفة يقضون اوقاتهم للساعة الحادية عشر في مكتبة الجامعة والمختبر للبحث والدراسة لاجل خدمة البشرية ،كما يفعل الاستاذ الجامعي ؟بلد ومهما تكون طبيعته برمته تحت مسؤلية رئيسها وقد يصل نفوسها الى مليارات.او الطبيب الجراح الذي يُطلب منه احيانا اجراء عملية اضطرارية بعد منتص الليل او يقوم باجراء ثمان عمليات لانقاذ البشر؟بمعنى هؤلا على سياق العادة التبريرية للكنيسة يُمنع زواجهم.فاذن هذا مبرر لا قيمة وسند علمي له.

وهلم نقارن الحالة مع كهنة في الماضي وكهنة المتزوجين في الكنائس الشرقية .الكثير منا هم احفاد كهنة ادوا رسالتهم الروحية في قراهم اذ اغلب الكنائس خدم فيها المتزوجون. كان جد والدي كاهناً وابن لكاهن ايضاً والان عشيرتنا التي سميت باسمه”رابي” يتكون تعدادها بالمئات ، وهكذا في كل القرى المسيحية ،ولا تزال الكنائس الشرقية على هذا المنوال. فاين هو الضرر؟يتحملون مسؤليات الرعية الروحية واسرهم واذا حدث اي قصور حينها يتعرضون للعقوبة وفقاً للقوانين الكنسية.

وهكذا لو قارنا الاعمال والنشاطات الجدية والكبيرة التي يُكلف بها العلمانيين من الجنسين في خدمة الكنسة وهم متطوعون ورغبة منهم لنرى تُضاهي اعمال بعض الكهنة العزاب، وهذا ما نلاحظه ميدانياً في كنائسنا.

فالانتقاص من الكاهن المتزوج من قبل العزاب منهم هي عملية اصغاء اللامعقول على المعقول ،هي الية نفسية للدفاع عن النفس امام ابناء الرعية لتقديم نفسه انه بتول وليس كالكاهن المتزوج وكرس نفسه من اجل العمل الروحي فقط ،لكن في الحقيقة لا فرق بينهما،لان كلاهما لايقصران بعملهما الروحي ،لا بل المتزوج أكثرحرصاً واستقراراً من غيره .وهذه ممثالة لحالة الاكليروس المتقدم بالسن وله سلطة كنسية ويقف بشدة امام مشروع السماح للكهنة الزواج قبل رسامتهم لمن يرغب،بل يتصلب في رايه عن الزامية وفرض العزوبية للكاهن تحت مبررات لاتعود للعقيدة صلة انما هي لاغراض ادارية ضبطية .وتصلبه هذا لا مبرر له وانما هي الية نفسية اسقاطية ،اي ليكون الاخرين مثله!!

شكرا لقراءة الموضوع

كندا في 23/01/2020     

 رابط مقال الاب نوئيل السناطي

http://saint-adday.com/?p=36018

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!