مقالات عامة

الإحصاء الإيجابي في البحث الأكاديمي: نحو إطار تحليلي يبني على الإمكانات لا الأزمات

يشهد البحث الأكاديمي اليوم تحولات معرفية متسارعة، إلا أن إحدى التحديات الجوهرية التي ما زالت ماثلة تتمثل في هيمنة المقاربات الإحصائية التقليدية التي تتعامل مع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية بوصفها حالات اختلال تتطلب التشخيص والتقويم. هذه النظرة، على أهميتها، غالبًا ما تغفل ما تختزنه الأرقام من إمكانات إيجابية قد تسهم، لو أُحسن تحليلها، في إعادة توجيه السياسات والخطط نحو البناء لا التصحيح فقط.

انطلاقًا من هذا الوعي، ظهرت منهجية الإحصاء الإيجابي لتشكل إطارًا تحليليًا جديدًا يتجاوز الطابع التشخيصي إلى قراءة شاملة للواقع، تُعنى برصد مؤشرات النمو والتحسن، وتوظيفها في بلورة رؤى تنموية أكثر واقعية وإنصافًا. ويُعرّف الإحصاء الإيجابي هنا بوصفه منهجًا كميًا تحليليًا يركّز على تحليل المؤشرات التي تدل على التقدم والتحول الإيجابي، في مقابل اقتصار الأدبيات السائدة على تسليط الضوء على مظاهر التراجع والضعف فقط.

لا يُعد هذا المنهج بديلًا عن المقاربات الكلاسيكية، بقدر ما هو مكمل لها ومصحح لاتجاهها الأحادي. فهو يفسح المجال أمام أسئلة بحثية من نوع جديد، تسأل عمّا نجح، ولماذا نجح، وما الذي يمكن تعزيزه، بدلاً من التركيز على مكامن الفشل وحدها. ومن خلال هذا المنظور، يمكن إعادة تعريف النجاح البحثي ليشمل التحسن النسبي والإنجاز التراكمي ضمن السياق، وليس فقط النتائج الدالة إحصائيًا وفق النموذج التقليدي.

كما يمنح الإحصاء الإيجابي الباحث القدرة على استشراف المستقبل، عبر تتبع المسارات الإيجابية في البيانات، وبناء سيناريوهات واقعية تستند إلى ما هو قائم بالفعل، لا إلى تصورات نظرية معزولة عن الواقع. وهذه القدرة الاستشرافية تجعل نتائج الأبحاث أكثر ارتباطًا بصنّاع القرار، وأكثر قابلية للتطبيق في البيئات المؤسسية والتنموية.

وتكمن قوة هذا المنهج أيضًا في مرونته، إذ يمكن توظيفه في مراحل البحث المختلفة. ففي تصميم الدراسة، يمكن للباحث تضمين أهداف تحليلية تسعى إلى رصد مؤشرات التمكين والإنجاز والتقدم، كما يمكن تطوير أدوات جمع بيانات تُعنى بقياس الرضا والمبادرات والمشاركة المجتمعية. أما في مرحلة التحليل، فيُصبح من الممكن استخدام مؤشرات التحسن ومعدلات النمو كمحاور رئيسة، والقيام بمقارنات مكانية بين المحافظات أو الفئات وفقًا لفرص التطور، وليس فقط تبعًا لحجم التراجع.

وقد أُتيحت فرصة لتطبيق هذا المنهج بصورة عملية في دراسة موسعة تناولت المؤشرات السكانية في العراق، استنادًا إلى بيانات التعداد العام للسكان والمساكن للعام 2025. وقد كشفت نتائج الدراسة عن فرص ديموغرافية نوعية، من أبرزها وجود أكثر من 60% من السكان في سنّ العمل، ما يشكل طاقة بشرية قادرة على إحداث نمو اقتصادي ملموس إذا ما أُحسن استثمارها. كما أظهرت الدراسة توازنًا نوعيًا بين الذكور والإناث، يمكن أن يُوظف في تعزيز سياسات التمكين والمشاركة، إلى جانب الارتفاع الملحوظ في نسب التحضر، ما يتيح فرصًا لتخطيط عمراني أكثر عدالة وكفاءة.

لقد قدمت الدراسة مقترحات عملية متصلة بالتعليم وسوق العمل والتخطيط المكاني، ما يعكس قابلية الإحصاء الإيجابي للتطبيق الأكاديمي من جهة، وقدرته على دعم صناعة القرار من جهة أخرى.

انطلاقًا من ذلك، فإن تبني هذا التوجه المنهجي في المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث يُعد خطوة ضرورية لإعادة التوازن في التفكير الكمي، وتمكين الباحثين من إنتاج معرفة ذات بعد تحويلي. إذ لم يعد كافيًا أن نعرف أين الخلل، بل يجب أن نرصد أيضًا أين ومتى يتحقق التحسن، وكيف يمكن دعمه واستدامته.

من هنا، فإن الدعوة اليوم موجّهة للجامعات إلى دمج الإحصاء الإيجابي ضمن مناهج الإحصاء التطبيقي والعلوم الاجتماعية، وتشجيع الطلبة والباحثين على اعتماده في رسائلهم وأطروحاتهم. كما يُستحسن إطلاق مشاريع بحثية جماعية تستند إلى البيانات الرسمية لتقديم قراءات تحليلية جديدة تُبنى على مؤشرات القوة، لا على سرديات الأزمة وحدها.

في خاتمة المطاف، لا يُطرح الإحصاء الإيجابي كموضة معرفية، بل كموقف علمي وأخلاقي معًا؛ يسعى إلى إبراز ما هو فعّال، والبناء عليه، ويمنح الباحث فرصة للاقتراب من الواقع بمنظار أكثر إنصافًا ودقة، في سبيل إنتاج معرفة تخدم المستقبل، لا تكتفي برصد الماضي.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!