مقالات دينية

هل فقد عالم اليوم

الكاتب: مشرف المنتدى الديني

هل فقد عالم اليوم” الحكمة” في الحياة؟

نافع شابو البرواري

 

يقول الله على لسان اشعيا النبي:“فها أنا أصنعُ مرَّة أُخرى عجباً عُجاباً بهذا الشعب, فتبيدُ حكمة ُ حُكُمائهِ وينكسِفُ عقلُ عُقلائه “اشعيا 29:14″.

في هذا العصر,عصر المعلومات, أصبحت المعرفة كثيرة ولكن على حساب الحكمة, حيث اصبحت الحكمة نادرة. يقول العالم “ألكسيس كاربل” في كتابه”ألأنسان ذلك المجهول”:

“انَّ الدول التي تبنّت بغير تبصُّر روح الحضارة الصناعية وفنونها, مثل روسيا وأنكلترا وفرنسا والمانيا مُعَّرضة للأخطار ذاتها التي تتعرض لها الولايات المتحدة, ومن الواجب أن يتحوّل اهتمام ألأنسانية من دنيا الآلات وعالم الجماد الى جسم ألأنسان وروحه,

الكاتب يقول انّ هذه الدول تسعى من أجل الثراء بأية وسيلة “على قول ميكافيلي الغاية تبرر الوسيلة”.

هكذا ليس فقط العالم الغربي بل غالبية دول العالم أصبحت لها فكر مادي على حساب القيم الروحية والحكمة السماوية. حكمة العالم في هذه الأيام هي الحصول على العلوم والمعارف والأختراعات ,ونشهد ثورة تقنية في جميع فروع العلوم والمعارف ولكن يفتقر عالمنا اليوم الى الحكمة التي على رأسها ألألتزام بمباديء أخلاقية والتأمُّل والتفكير في الحياة للأعتراف بقدرة الخالق والأنصياع لتعاليمه والتناغم بين العقل والخلق.يقول سفر الأمثال“فرأس المعرِفةِ مخافة الربَِ,والحمقى يحتقرون الحِكمة والفهمَ”أمثال 1:7″   فعندما لا يضع الأنسان مخافة الله على راس أولوياته  عندها تصبح الثروة والقوّة والسلطة والصحة عديمة الجدوى لأنّ الأنسان لن يعرف كيف يستخدمها بصورة جيّدة . يقول كاتب سفر الحكمة عن هؤلاء الذين يفتخرون بجبروتهم وانجازاتهم البشرية الفانية:”فأسمعوا أيُّها الملوك وتعقَّلوا. وأتعظوا ياحكّام الأرض. اصغوا أيّها المتسلطون على الجماهير, أيُّها المفتخرون بكثرة الخاضعين لكم من الأمم. جبروتكم من الربِّ, ومن العليَّ سلطانكم”الحكمة 6:1,2,3″. انَّ ألأنسان يصبح خاويا وجاهلا عندما يسعى فقط للأمور الشخصية ومصالحه الذاتية الأنانية.امّا اذا كان الهدف هو الله والآخرين فسيستمتع ألأنسان بحياته كاملة ,حياة لايشعر فيها ألأنسان بالمرارة  بل بفرح الحياة وحلاوتها.فالحياة بدون وضع الله على رأس أولوياتنا  لاتعطينا حلولا لمشاكلنا .

 ماهي الحكمة؟

نظرت الحضارة ألأغريقية  للفلسفة على أنّها محبّة الحكمة, وقد عرّف سقراط الحكمة على أنّها مزيج من الفضيلة والمعرفة ويقول:”نحن مجانين اذا لم نستطع أن نفكِّر ومتعصّبون اذا لم نرد أن نفكر, وعبيد اذا لم نجرؤ أن نُفكّر, وهو القائل أيضا “أيُّها ألأنسان أعرف نفسك بنفسك”. وسُئلَ هذا الفيلسوف: لماذا أُختير أحكم حكماء اليونان؟ فاجاب:”رُبَّما لأنني الرجل الوحيد الذي يعرف أنَّه لايعرف” وهذا ما يوافق ما كتبه كاتب سفر الحكمة عندما يقول”ولكن من يَعلم أفكارك ايُّها الربُّ الأله أو يدرك ُ مشيئتكَ؟ فالعقل البشري قاصر, ووسائله عاجزة كُلِّ العجز”الحكمة9:13″.

أمّا الحكمة عند  افلاطون فتأخذ ثلاثة أشكال. أولا الحكمة الفلسفية, ثانيا الحكمة العملية, وثالثا الحكمة العلمية.

 أمّا أرسطو فيعتقد أنَّ الحكمة رئيسة العلوم, لأنّها تقوم على التامّل في حقيقة العلوم, ويشير الى أنَّ الحكيم هو من يعرف عن كلِّ ألأشياء قدر معقول, ويكون قادرا على تعلُّم كلِّ ألأشياء الصعبة, وأن يُعلّم تلك المعارف للآخرين.

أمّا المفاهيم المعاصرة للحكمة فهي كثيرة ومتشعبة ولكن يمكن تلخيصها كما جاءت في قواميس مشهورة فحين نستقرئ التعريف القاموسي للحكمة في  قاموس”أوكسفورد”سنجده يُعرّفها بأنها ” القدرة على الحكم الصحيح في الأمور المتعلقة بالحياة، واختيار أنسب الوسائل لبلوغ الغايات المعتبرة لدى الإنسان.

أما قاموس “ويستر” فيتفق على أن جوهر الحكمة إصدار حكم صائب فيما يتصل بشؤون الحياة العملية فضلاً عن السعي إلى إسباغ معنى هام على الحياة والوجود الإنساني فيها. وهي ايضا تعني القدرة على الإنصات، والتقويم، وإسداء النصح، والقدرة المرتفعة على الحكم، والوعي بحدود المعرفة، ومعنى الحياة، وفهم العلاقة بين الجسم والعقل، والكون والله، وتوظيف تلك المعرفة لحسن حال الفرد.

 

يشير “كانت” الى أنَّ الحكمة تتمثّل في ألأنتباه الى غايات الطبيعة والأهداف الكامنة خلف ما بها من ظواهر. فثمة قناعة أنَّ العلوم الجزئية لن توصلنا لفهم الحقيقة النهائية, بل الحكمة هي القادرة على الربط بين تلك الفروع للوصول للحقيقة, أي أنَّ الحكمة علم الكُل.

أمّأ  الروائي “تولستوي في روايته الحرب والسلام, يقول على لسان أحد أبطاله “:

“انَّ الحكمة العليا لا توجد في العقل والمنطق وحدهُ, ولا في علوم الفيزياء والكيمياء فقط, انّها موضوع في علم واحد, علم الكلّ,علم تفسير كُلِّ الوجود والأنسان, أي أنّها تعني الحقيقة العامة.

يشير القديس توما ألأكويني, الى أنَّ جوهر الحكمة يكمن في ألأتساق بين الفكر والعقل. ويميّز بين ثلاثة مستويات للحكمة:

ألأول: هو البصيرة العملية بالحياة المستمدّة من التأمل الفلسفي.

الثاني: والناشيء عن العقيدة والمعرفة الدينية وهو أعلى لأنَّه يُنظِّم كُلِّ ألأشياء في السماء وألأرض في ضوء القوَّة فوق الطبيعية.

والثالث: حيث الحكمة تعد منحة من الروح القدس وتكمن قوَّتها في الرجل الحكيم الذي يحب الرب ويستمد قوَّته من الرب .

انّ الحكمة عند ألأكويني تكمن في معرفة غايات الوجود ألأنساني, والتأمُّل والحكم على كلِّ ما هو أرضي في ضوء ما هو سرمدي(ابدي).

أمّا القديس أوغسطينوس فيقسم الحكمة الى قسمين:

أولا: المعرفة بالعالم المادي, وهي مفيدة في تحقيقه أهداف عملية في العالم المادي.

ثانيا: المعرفة بالله, والتي تبصّر الناس بالحكمة اللانهائية للرب, فالحكمة مُلك الرب الخالق.

عندما نفتخر بعقولنا وانجازاتنا العلمية والتكنولوجية مستبعدين نور الله وحكمة الله في حياتنا فنحن اشقى الناس واجهل الناس واغبى الناس “قال الجاهل في قلبه : لا إله!”مزمور14:1″. انَّ رأس الحكمة هي معرفة الله, كما يقول الكتاب المقدس, لأنَّ الله هو الخالق. يستطيع ألأنسان أن يقوم بجميع انواع المعجزات التكنولوجية, فيستطيع اكتشاف نجوم لاتراها العين وأن يرتداد الفضاء ويكتشف مجرات, كما يستطيع خزن كمّا هائلا من المعلومات على رقاقة ميكروسكوبية, ولكن اعظم العلماء لا يستطيعون من ذواتهم أن يكتشفوا الحكمة لحياتهم اليومية. انَّ تاريخ البشرية وتاريخ الحضارت يؤكِّد على هذه الحقيقة ولكن الكتاب المقدس وحده يخبرنا انّ الله وحدهُ هو الذي يستطيع أن يُري ألأنسان أين يتطلع ليجد الحكمة, لأنَّهُ هو المصدرالوحيد للحكمة”أيوب28:227”.

       علينا أن نتذكر دائما أن الله هو مصدر الحياة وهو مصدر الحكمة ومصدر النور الذي ينوِّر عقولنا لنختار الطريق المؤدي الى الحق والحياة فهو القائل “ليكن نور, فكان نور”تكوين1,3″, وهو صانعنا معطيا لنا العقل, والحرية, وألأرادة, ولكن وضع الله لهذه النعم الثلاثة حدودا ومسؤولية علينا عدم تجاوزها فنكون  حكماء في تصرفاتنا وسلوكنا في هذه الحياة. علينا أن نتذكر دائما أن وجودنا نعمة مجانية وحياتنا هي ليست ملكنا فلا نفتخر بعقولنا أو أنجازاتنا, لأنّنا صنعة يد الله الخالق وعندما نبتعد  عنه فسوف نعيش في ظلمة وتعاسة وقد يقودنا هذا الأنفصال عن الله الى الدمار والفناء وخير دليل على ما نقوله هو عندما نتذكر الحربين العالميتين التي اودت بحياة أكثر من 100 مليون انسان بالأضافة الى الحرب الباردة التي كانت كابوسا مخيفا عانى منه العالم حوالي 70سنة ولازال العالم تحت سلطة الخوف من الأسلحة الذرية التي صنعها الأنسان وما انفجار محطة تشيرنوبل الروسية وما خلفته من موت وتسرب اشعاعات نووية خير دليل على مانقوله  لابل ماحصل ويحصل اليوم في المحطة النووية فوكوشيما في اليابان هذه الأيام والتسرب الذري لهو كابوس يؤرق جميع البشر فنحن نواجه كارثة نووية غير مسبوقة. هذا بالأضافة الى ماحصل في القرن الماضي وبداية القرن الحالي من الحروب وما نشهده هذه الأيام من المآسي حيث العن*ف والأرهاب وغياب الحكمة لدى الحكام والسلاطين الذين يحكمون شعوبهم. ولا ننسى التغيير في المناخ بسبب تكالب الدول في استهلاك الطاقة على حساب الطبيعة والمخلوقات وتلوث البيئة, بينما الله  قد اسند مسؤولية الخليقة للأنسان”راجع سفر التكوين1:28”. ولكن ألأنسان لم يستغل عقله وحريته وارادته  بحسب حكمة الله وارادته بصورة صحيحة الى يومنا هذا ” من كان منكُم يعتقد أنَّه رجل حكيم بمقياس هذه الدنيا, فليكن أحمق ليصير في الحقيقة حكيما “1كورثوس 3:18”.

الحكمة هي معرفة تتسم بالعمق والشمول والنظرة الشبكية أو النظرة التلسكوبية الى أمور الحياة,والحكيم يحب رؤية واستبصار الذات والاخرين والطبيعة وألأحداث وطبيعة العلاقات فيما بينها جميعا  ,فالحكمة تساعد ألأنسان على فهم ذاته واحداث حالة من التوازن داخلها (بين العقل والعاطفة) وهذا ما يمكِّن الأنسان من فهم نفسه والتناغم معها والسيطرة عليها بعدم أصدار ردود أفعال انفعالية أو متهوِّرة أو عنيفة أو مستعجلة  فالنار لا تُطفى بالنار .والحكمة تتضمن أيضا التوازن بين العقل والوجدان والعقل والسلوك .

وفي الجزء الثاني والثالث  سنتكلم عن الحكمة في الكتاب المقدس حيث يعطينا كتاب الله الحلول لمشاكلنا اليومية وكيف نتصرف في هذا العالم بحكمة وفطنة .

 

 

يمكنك مشاهدة المقال على منتدى مانكيش من هنا

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!