مقالات دينية

ما معنى التبشير بالمسيح في عالمنا؟

ما معنى التبشير بالمسيح في عالمنا؟
بقلم / المطران سعد سيروب
كيف نفهم التبشير اليوم؟
أبدأ كلمتي هذه من تعليم الكنيسة الكاثوليكية الذي يحدد معنى التبشير بما يلي: “إن أمانة المعمدين شرط أولي لإعلان الانجيل ولرسالة الكنيسة في العالم. ولا بُد لرسالة الخلاص من أن تثبتها شهادة حياة المسيحيين لتُظهر للناس قوة حقيقتها وإشعاعها. إن شهادة الحياة المسيحية والأعمال التي تعمل بروح فائق الطبيعة، لها القدرة على اجتذاب الناس الى الايمان والى الله” (تعليم كاثوليكي رقم 2044).
مقدمة
يبدو ان عصر الاستهلاك التجاري قلّل من ثقة الناس بالبضائع الموجودة في السوق. وصار تسويق البضاعة يشتمل على نوع من الخداع، وغالبا ما لا تأتي هذه البضاعة المعروضة وفقا للمواصفات المطلوبة والمعلنة. وأعتقد ان الشيء عينه يحدث مع التبشير الذي اصبح يثير مخاوف الناس. والبعض يرى انه من الصعب اليوم التبشير والترويج للايمان، وذلك لصعوبة تطبيق مضمونه وعدم ضمان النتائج المرجوة؛ والبعض الآخر يرى في التبشير على انه يقوّض من قضية الحريّة الشخصية، ويحاول ان يقنع الأخرى بأي ثمن كان وبأي ظرف كان وبأي طريقة كانت.
ومع ذلك، السؤال الذي يطرح نفسه اولاً: ما هو التبشير في الانجيل؟ كلمة الانجيل (أو التبشير في العربية) مأخوذة من كلمة يونانية هي “أونكاليون” والتي تعني “البشرى” “البشرى السارة” “إذاعة الخبر السار”. والمُبشِر هو من يُعلن الخبر والمُبَشر هو من يتلقى ذلك الخبر. وكان هذا الفعل يستخدم قديما في الاعلان عن ولادة طفل؛ أو الاعلان عن الاكتتاب والتجنيد؛ أو الاعلان عن أمر أداري جديد. استخدامه كان في نطاق المدينة وليس الكنيسة.
استخدمت الكنيسة هذا الفعل للتعبير عن مضمون البشرى المسيحي ووديعة الايمان، أي: موت وقيامة يسوع المسيح من بين الاموات. وصار هذا التعبير يشير الى كلّ عمل المسيحي المؤمن ورسالته: فكلّ مؤمن دُعي لكي يعلن ويبشر الناس بالخبر السار الذي جاء به المسيح، “المسيح” نفسه.
ليس التبشر أذن مجرد إعلان عقيدة نظرية يحفظها المؤمن عن ظهر القلب أو الاعتقاد بحكمة قديمة! التبشير في المسيح يتطلب تحوّلا وتغييرا في من يعيشه ويقوم به ويشمل الوجود كله: فوجودنا لم يبقى كما هو عليه بعد قيامة المسيح. قيامة المسيح هي قيامتنا! المسيح الذي أخلى ذاته وتجسد وصار إنسانا من أجلنا لكي يعطي ذاته من أجل كرامة الانسان الحقيقية ويرفعه نحو السماء. اتحد المسيح ببشريتنا وموتنا لكي نتحد نحن أيضا به. يعيش المسيحي بحقيقة الايمان هذا، وهي نوع من العلاقة التي تتطلب تبادلاً وجوديًا: هو أخذ بشريتنا ونحن أخذنا ألوهيته؛ هو صار بشرا مثلنا لنصير نحن آلهة فيه. وهذا ما يريد القول المسيحي القديم أن يقوله: “صار الله إنسانا لكي يصير الانسان إلها”.
التبشير بالمسيح ليس تبشيرا بعقيدة نظرية لاهوتية، بل انها محاولة لجلب انتباه الانسان الى حقيقة الله الذي أحبنا وبذل ذاته من أجلنا. التبشير هو إشعار للآخر بقيمة العمل الذي قام به المسيح وأعلنه في حياته: “لما كنت عزيزا علي ومجيدا أنا أحببتك” (اشعيا 43: 3).
التبشير ضرورة كما يقول بولس: “الويل ليّ إن لم أبشر” (1 كور 9: 16). التبشير ينبع من الاتحاد الشخصي بالمسيح؛ المسيح المائت والقائم من بين الاموات يوحدّنا بالله الآب وحدة صميمية. الجميع مدعو الى الدخول في هذه الشركة والوحدة مع الله. بالمسيح لم تعد البشرية في حالة عداء مع الله، فنحن ننتمي إليه وننتمي الى بعضنا البعض ايضا. الله هو أبونا ونحن أخوة.
والسؤال الثاني هو: كيف نوصل هذه البشرى الى الآخرين؟ التبشير في الانجيل يبدأ من الذات. يجب أن نلبس المسيح: “لقد لبستم المسيح” (غلاطية 3: 27). يبدأ التبشير من أنفسنا، من حياتنا ووجودنا، وليس أقوالنا: “أعرف المسيح وأعرف القوة التي تجلت في قيامته وأشاركه في آلامه وأتشبه به في موته، على رجاء قيامتي من بين الاموات” (فيليبي 3: 10-11). يبدأ التبشير من اليقين الذي يملأ قلبي بالحقيقة ان المسيح أحبنا منذ الأزل وأختارنا لنكون معه.
توجد حالات تصبح فيها الكلمة ضرورية. يقول الرسول بطرس: “قدسوا المسيح في قلوبكم وكرّموه ربا، وكونوا في كلّ حين مستعدين للردّ على كل من يطلب منكم دليلا على الرجاء الذي فيكم” (1 بطرس 3: 15). الحديث عن هكذا حبّ عظيم وعميق يتطلب الكثير من الرقة واللطافة والحنان.
أحيانا الكلمات لا تفي بالغرض وخاصة عندما يتعرض الايمان الى العن*ف. هذا ما عرفه واختبره المسيح واعلنه لتلاميذه قائلا: “عندما تساقون الى المجامع والحكام أصحاب السلطة، لا يهمكم كيف تدافعون عن أنفسكم أو ماذا تقولون، لأن الروح القدس يلهمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوا” (لوقا 12: 11-12).
ولأن المسيح لبسنا ونحن لبسنا المسيح فلا نخاف بماذا سنتكلم. فلا يجب أن نبحث عن ما نريد، فانه سيعطى لنا، بمجانية استثنائية يلمسنا الله ويملئنا من حياة المسيح ابنه. وبقوة الخدمة نتقاسم حياتنا مع أولئك الذين نخدمهم على مثال معلمنا وخادمنا يسوع المسيح: “خلع ثوبه” (يوحنا 13: 4).
مجانية أفعالنا هي تتكلم بدلا عنّا، وروح الخدمة هو الذي يعطي قيمة لكلماتنا.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!