مقالات دينية

مار أفرام السرياني ( ܡܪܝ ܐܦܪܝܡ ܣܘܪܝܝܐ )

مار أفرام السرياني ( ܡܪܝ ܐܦܪܝܡ ܣܘܪܝܝܐ )

بقلم / وردا إسحاق قلّو

مار افرام السرياني

   أعلن البابا بندكتس الخامس عشر 1914-1922 مار أفرام شماس الرها معلماً من معلمي الكنيسة الكاثوليكية شرقاٌ وغرباً . وتعيد له الكنيسة الكاثوليكية في 18 كانون الثاني ، كما يعد قديساً على مذابح الكنائس الأرثوذكسية . وهو القديس الوحيد من بلاد الرافدين في قائمة ألاف القديسين والطوباويين المعترف بهم من قبل الكرسي الرسولي . فمن هو القديس مار أفرام السرياني ؟

    ولد مار أفرام في مطلع القرن الرابع في مدينة نصيبين التي كانت تابعة إلى بطريركية ( ساليق وقسطيسفون – المدائن ) . كانت نصيبين مدينة حدودية فاصلة بين الأمبراطوريتين الرومانية والفارسية . وبسبب موقعها الحدودي كانت تتعرض لحروب كثيرة .

   لقن أفرام بالإيمان ومخافة الله من قبل والديه المؤمنين منذ طفولته . وفي أيام شبابه حدث له مشكلة طبيعية ، لكنها كانت بالنسبة له نقطة تحول مهمة في حياته الروحية ، فذات يوم طارد بقرة رجل فقير دخلت حقل أبيه فأختفت في الغابة ، وقد أهان صاحبها على ترك بقرته ترعى في حقل غيره ، فتقبل الفقير الإهانة ومضى . وبعد أيام سُرِق بعض الأغنام من قطيع أحد الرعاة فأتهم أفرام بها وزج في السجن وهو برىء ، فحزن جداً ، فرفع قلبه إلى الله طالباً مساعدته لإظهار الحق . وفي تلك الليلة حلم حلماً وكأن ملاكاً ظهر له قائلاً ( حقاً إنك برىء من هذه التهمة ، ولكنك لست بريئاً من كل ذنب ) . ولما استيقظ فَكَرَ في قول الملاك وتذكر حادثة مطاردته بقر الفقير وندم وخاصةً لسوء معاملته للفقير فتفجرت عيناه بدموع التوبة وطلب من الرب المغفرة . ثم نذر نفسه لخدمة الله بأن يهجر العالم حال خروجه من السجن الذي ظل فيه ثمانون يوماً . أطلق سراحه فتوجه إلى الكنيسة وأدى صلاة الشكر للرب الذي خلصه ، ثم قصد أسقف المدينة ( مار يعقوب النصيبيني ) وأطلعه على ما حدث ، فرحب به الأسقف وشجعه ، فأكب أفرام على دراسة الكتاب المقدس . وأتّقَنَ السريانية وآدابها ، فكانت لغته نقية صافية خالية من الشوائب ، غنية واسعة ، وأداة طيّعة التعبير عن مختلف الأهداف الفكرية . كان الأسقف المذكور ناسكاً فاضلاً ، وعلى يده تدرج أفرام في مبادىء العقيدة المسيحية وتعمق في أصول العلم الديني وفروعه . أحب أفرام مار يعقوب واستفاد منه كثيراً . وفي عام 325 م رافقه إلى مجمع نيقية المسكوني ، حيث كان له لقاء ات مع مفكري الكنيسة ، وعلى أثر عودتهما أسس مار يعقوب مدرسة لاهوتية في النصيبين أزدهرت حتى القرن السابع ، وقد سلّمَ زمام التعليم فيها لتلميذه أفرام الشماس . وفي تلك المدرسة نظّمَ أفرام القصائد والأناشيد التي تعرف بالنصيبينية ، وتعِد رائعة لذلك العصر ، يصف فيها ما عانته المدينة من مشاكل مع الفرس . أزدهرت الرهبانية في عهد أفرام ، فأتم نذره الرهبانية الثلاثة ( الطاعة – الفقر – البتولية ) وتطبيق مبادىء الرهبانية : الصلاة والصوم ومطالعة الكتاب المقدس ، وممارسة بعض الأعمال اليدوية لتحصيل القوت للجسد . وكان أفرام لا يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة . ولا يلبس إلا أطماراً بالية . وقد وصف فلسفته الرهبانية في قصيدة وهو يخاطب فيها نفسه التي روضها على أعمال التقشف . أغنى بمؤلفاته مكتبات الشرق والغرب المسيحية ، كتب أكثر من ثلاثة ملايين بيت شعر ونثر ، أي مائة وعشرون ألفاً من الصفحات  شرح فيها كل أسفار الكتاب المقدس بعهديه إضافة إلى حوارات دينية ، إضافة إلى مقالات ورسائل وميامر وتسابيح ، فقد كان ثورة أدبية كبيرة ، بل كان قيثارة الروح القدس بين البشر . كما أبدع في التفسير والشرح والإيضاح للمعاني الروحية في كلام الله العميق . ولكثرة شروحه وتوضيحاته صرّحَ البعض إنه لو ضاعت ترجمة الكتاب المقدس السريانية الأصلية لينشر جميع نصوصها من تصانيف مار أفرام . كما له فصول مختارة في حياة النسك . ترجمت مؤلفاته إلى اليونانية في حياته ، أو في العقد الأول بعد وفاته نظراً لأهميتها ، وبعد ذلك إلى العربية حيث ترجمها أبراهيم بن يوحنا الأنطاكي سنة 980 مؤلفاته موجودة في مكتبات الشرق الأوسط . كما ترجمت إلى اللغات الأرمنية والقبطية والأثيوبية والألمانية والأيطالية والفرنسية والأنكليزية وغيرها  . ترجمات مؤلفاته زينت أثارها الدينية مكتبات الفاتيكان وبريطانيا وأو كسفورد وبرمنغهام وكامبرج وباريس وشيكاغو وغيرها .  ومن مؤلفاته ( الشعر عند السريان وهو نوعان :

  • الميامر ، أي القصائد والتي تعد بالآلاف. كما كتب صلوات للكنيسة ومنها صرة سقوط الأمطار .
  • المداريش ، أي الأناشيد التي صاغها بأوزان مختلفة ، وألحان شتى ، كما تناول شعر المواضيع الدينية العقائدية والروحية ممجداً بها السيد المسيح له المجد ومدح العذراء مريم وتغنى ببتوليتها وبحقيقة كونها والدة الإله ، كما كتب عن القيسين الأبرار. وقد حازت أسفاره مكانة كبيرة في الكنيسة السريانية فأدخلت في الطقس الكنسي وهو لا يزال على قيد الحياة .

   نشر الأب بطرس مبارك ، ومن بعده المطران يوسف سمعان السمعاني والمطران عواد (6) مجلدات كبيرة الحجم ضمت كل ما حفظته مكتبة الفاتيكان . ظل مار أفرام يعلن الأيمان المسيحي طوال 48 سنة في مدرستي نصيبين والرها ويدافع ضد أصحاب البدع .

   عندما سلمت نصيبين للفرس سنة 363م هجرها برفقة نخبة من أساتذة مدرستها وتلاميذها إلى الرها التي كانت أشهر مدن بلاد ما بين النهرين ، ومركزاً تجارياً بين الغرب وآسيا الوسطى ، وكانت لغتها سريانية .

في الرها سكن مار افرام في أحدى مغاور جبل الرها وعكف على العبادة ودراسة الكتاب المقدس ، وأعمل بعض الأعمال البسيطة ليسد رمقه من الجوع ، كما كان يقضي بقية وقته في الكرازة للوثنيين وكان يشرح لهم ألأسفار المقدسة ، وكان جدياً في تعليمه ومستقيماً في إيمانه وقوياً في كرازته بين الوثنيين في المدينة فثار عليه بعض رؤساء مدينة الرها ومنهم اليهود والوثنيين فوسعوه ضرباً فاضطر إلى الهروب إلى مغارته التي تحولت إلى مدرسة في الجبل لجأ إليها العديد من التلاميذ .

  في الرها حرض الأبليس إمراة بفكرة شريرة فبدأت تتحدث إليه ، لكنه بسبب جفاف كلماته لها بدأت تهدده بأنه ارتكب معها الزنا تنشر الخبرإن لم يمارس معها تلك الخطيئة . تظاهر هذا الحكيم بالموافقة لكنه أشترط بأن يمارسا الخطيئة معاً في السوق وأمام الناس . فردت عليه ( كيف نمارس ذلك والناس محيطين بنا ؟ ) فأجابها قائلاً ( إن كنت تستحين من الناس ، أما تستحين من الله الذي عيناه تخترقان أستار الظلام ؟ ) تأثرت بكلامه وتابت ، وقيل إنها التحقت بأحد الأديرة .

   قيل أن متوحداً اسمه أفرام أيضاً كان واقفاً خارج مغارته فرأى ملاكاً ومعه درج كبير مكتوب عليه من الوجهين ، يحيط بذلك الملاك النازل من السماء ملائكة آخرون وسمعه يقول : ( لمن أعطي هذا الذي بيدي ؟ ) فقيل له ( ليس من يستحقه من بين البشر في هذا الزمان سوى أفرام السرياني الذي بجبل الرها ) . وإذ رأى المتوحد تلك الؤية فأنتابه الشك فزار مار أفرام فوجده يكتب في تفسير سفر التكوين ، وإذ قرأ ما يكتبه ، دُهِشَ بسبب الموهبة التي أعطيت له من السماء ، فأخذ منه التفسير وأسرع به إلى مدرسة الرها وعرضه على علمائها فأعجبوا به ، فأمسكوه ليكرموه ، فقال لهم أن الكاتب هو مار أفرام ، فأسرعوا إليه ليحضروه ، أما هو فإذ شعر بذلك هرب إلى أحد الأودية ومنها إلى المدينة فبات ليلاً في أحد أبراج سور المدينة فظهر له ملاك الرب وألزمه ألا يهرب من العمل . عاد وتفرغ للتدريس ، وإلى تفسير الكتاب المقدس ، فهوأقدم من فسر الكتاب المقدس عند السريان . ناهض هناك في تعليمه اللاهوتي البدع والهرطقات فحارب الجدلية والعقائدية والآريوسية . لهذا وصفه القديس مار يوحنا الذهبي الفم 407 عام ، قائلاً ( كان على الهراطقة كسيف ذي حدين ) وقد قاوم في كتاباته التيارات الفكرية المعاكسة للدين القويم دون أن يلجأ دائماً إلى البرهان المنطقي الفلسفي ، بل كان في عظاتِهِ الأدبية وأناشيده وأشعاره يثبت الإيمان في قلوب المؤمنين ويبعدهم من الضلال . وفي أحد أناشيده قال عن بدعة المرقيون ( أن الشيطان أضل أحد المرقيون وأصابه بالجنون فاحتقر صانعه واستصغر خالقه ) .

   كان مار أفرام يتوق إلى القداسة التي هي ثمرة المحبة على الطريق الضيق ، طريق الصليب الذي اتبعه ، فقيل عنه : أنه طريق الجوع والعطش والعري والخشونةِ وعدم الرفاهية . ورأى في الكتاب المقدس المعين الذي يزف منه مادة فكره ويقدمه للآخرين في شعره ونثره ، بل كان يعيش بكامله في الكتاب المقدس .

  بدأت الطقوس الكنسية منذ فجر المسيحية كأدعية ومزامير كانت ترنم في أجتماعات المؤمنين للصلاة والأحتفال بالقربان المقدس ، وأهتم أفرام بالحياة الطقسية في الكنيسة إذ أدخل إليها أناشيد المنظومة على ألحان خاصة ، وإليه يعود فضل تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية وتنظيم الجوقات الكنسية التي تنششف اليوم آذان المؤمنين في الكنائس وتخلق في نفوسهم الخشوع وتساعدهم على التعبد للرب والأهداء إلى الإيمان الأفضل . ومن نشاطاته في المجالات الإجتماعية : حدث جفاف رهيب ومجاعة في الرها سنة 372-373 عندما انحبست الأمطار فمات الكثيرين جوعاً ، فقام أفرام بزيارة الأغنياء محتكري القمح ، قال لهم ( افتكروا في رحمة الله وجودته واعملوا أن ثروتكم ستمسى وبالاً عليكم ونقمة لكم ودينونة لنفوسكم إلم تسخوا بشيء منها على الجياع والمنكوبين ) فأثر كلامه فيهم وقلوا له إننا نعرفك رجلاً تتقي الله . فزودوه بمال وفير ليوزعه على المحتاجين ، فأسس دوراً يجمع فيها المشردين ، وكان يشرف على الأعتناء بهم واستمر عمله سنة كاملة إلى أن انتشرالطاعون بعد المجاعة فاندفع أيضاً في تطييب المرضى ومآساتهم حتى اصيب هو أيضاً ، وإحتمل آلامه المبرحة إلى أن فاضت روحه الطاهرة في 9 حزيران 373 بعد أن عاش نحو سبعين سنة .  

في الختام نقول  : في ساعاته الأخيرة ، وفي لحظات إحتضاره أملى وصيته الأخيرة لتلاميذه شعراً فأهتموا بتدوينها ، فقد أعترف بإيمانه وتمسكه بالمسيحية ، وحث تلاميذه على التشبه به ، فقال لهم : الويل لي فأن أيام حياتي قد أوشكت على الإنتهاء . لقد نفذ الزيت في السراج وقرب يوم الأجل . أن الأجير قضى ساعة عمله ودنا موعد رحيل الغريب واوبته إلى وطنه . وقال :

( هلم يا تلاميذي وأغمضوا أجفاني فأنا مائت لا محالة . أتخذوا مني مثالاً لكم ، إنني لم أشتم ولم أخاصم أحداً ألبتة ، ولكني كنت على نزاع دائم مستمر مع الكفرة . ذلك أن الحكيم لا يبغض أحداً ، وإن أبغض فإنما يبغض الجاهل . ( لم أملك كيساً ولا فروداً ولا عصا ، إتماماً لوصية الرب ) .

   أقرأوني السلام يا اخوتي وسامحوني لأرحل عنكم مطمئن البال . أذكروني بصلواتكم وطلباتكم . أستحلفكم يا أبناء الرها قسماً لا حل فيه أن لا تحيدوا عن وصاياي ، ولا تبطلوا شرائعي ولا تدفنوا جسدي تحت المذبح ولا في الهيكل ولا مع الشداء ، بل وارو جسدي في التراب بثوبي وقبعتي وذلك في مقبرة الغرباء لأني غريب نظيرهم .

نطلب من القديس مار أفرام أن يذكرنا بصلاته ويعضد كنيسة ما بين النهرين ويحفظها من مؤامرات إعداء الخير .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!