قراءة لتصريح المشهداني “لدي ملف فساد إذا قمت بإظهاره سينهار النظام”
قراءة لتصريح رئيس مجلس النواب “لدي ملف فساد إذا قمت بإظهاره سينهار النظام” فهل تطيح بالحكومة أم تُدفن تحت سجاد المحاصصة؟
صباح البغدادي
هذا التصريح ، الصادر من اعلى قمة في هرم السلطة التشريعية، ليس سوى فقاعة نتنة في مستنقع الفساد العراقي، وسحابة صيفية زائفة جفت قبل أن تروي عطش الشعب للعدالة، تاركة دماءه وضميره تنزف تحت وطأة الخيانة. ليس هو الأول ولن يكون الأخير. سبقه نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، بتبجحه المقيت بأن لديه ملفات فساد، لو كُشفت، لأسقطت العملية السياسية بأكملها. لكن الحقيقة المرة تكمن في أن هذه الملفات ليست ذخيرة للإصلاح، بل أسلحة قذرة للابتزاز الرخيص والتسفيط السياسي المبتذل. الكل متواطئ، من رأس النظام إلى أذنابه، يتاجرون بملفات الفساد كالبضاعة في سوق النخاسة، يلوحون بها لتصفية حساباتهم الشخصية أو لترهيب خصومهم، بينما يظل الشعب العراقي رهينة هذا المسرح الهزلي، يُذبح على مذبح المحاصصة ويُسحق تحت أقدام هؤلاء اللصوص المتأنقين؟
في برنامج “مقابلة خاصة” من على شاشة قناة “يو تي في” ومن خلال مقدم البرنامج السيد “ريناس علي” والذي استضاف رئيس مجلس النواب العراقي السيد “محمود المشهداني” ذكر صراحة بدوره من خلال حديثه بانه :” لدي ملف فساد إذا قمت بإظهاره سينهار النظام” (1)
عندما تخرج علينا شخصية قيادية حزبية و بمنصب حكومي رئاسي مهم بمثل هذا التصريح ليعلن بكل جرأة أن لديه ملف فساد، لو كُشف عنه “سوف ينهار النظام بأكمله” فإننا لسنا أمام تصريح عابر، بل هي صرخة تكاد تكون مكبوتة من داخل أحشاء نظام متهالك، بل قل أمام قنبلة موقوتة تكشف عن جبال الفساد التي تتراكم في أروقة الحكم منذ 2003 ولان هذا ليس كلام مواطن عادي غاضب أو عاجز من سوء ما قدمته له الحكومة من خدمات معيشية بائسة , أو حتى صحفي ثائر أو متمرد، بل صوت واضح وصريح من قلب نظام حكم المحاصصة، من رجل يفترض أنه يترأس أعلى هيئة تشريعية في البلاد. ولكن، هل سيُحاسب؟ هل سيُستجوب؟ أم أن شبكة المحاصصة الطائفية والحزبية التي تحمي الفاسدين ستبتلع هذا التصريح كما ابتلعت كرامة وآمال العراقيين وثرواتهم وما تزال على مدى أكثر من عقدين؟
جبال الفساد التي تراكمت طوال أكثر من عقدين أصبحت الركيزة الأساسية والعمود الفقري للنظام حكم المحاصصة الطائفية والمذهبية، وجميع الشعب العراقي أصبح يعلم جيدآ، وحتى المنظمات المجتمع المدني والاهم “منظمة الشفافية الدولية” تعلم، أن الفساد في العراق ليس مجرد آفة أو وباء أتى من خارج الحدود، بل هو النظام ذاته. ومنذ الغزو الأمريكي عام 2003، تحولت العملية السياسية إلى سوق سوداء ومزادات علنية للمحاصصة، حيث تُباع المناصب وتُشترى والولاءات الحزبية والشخصية لنهب موارد الدولة، وتُهدر ثروات البلاد تحت شعارات الديمقراطية. تقارير الشفافية الدولية تضع العراق دائمًا في ذيل القائمة، في المراتب المتأخرة جدًا بين الدول الأكثر فسادًا. لكن، هل نحتاج إلى تقارير دولية لنرى ما يراه المواطن العراقي يوميًا؟ صفقات النفط المشبوهة، عقود السلاح الفاسدة، مشاريع وهمية تُكلف مليارات الدولارات، ووزارات أصبحت تُدار كإقطاعيات حزبية. هذه ليست ملفات فساد، بل أصبحت جبال شاهقة، كما وصفها السيد المشهداني، تهدد بإسقاط النظام إن هي كُشفت؟
ولان تصريحه ليس مجرد زلة لسان عابرة . إنه إقرار سياسي رسمي صريح وواضح بوجود فساد هائل يهدد أركان الدولة. لكنه يثير تساؤلات حارقة وإذا كان رئيس مجلس النواب يملك ملفًا بهذا الحجم الخطير ، فإن السؤال الأول الذي يطرح نفسه: لماذا الصمت حتى الآن؟ فلماذا لم يكشفه؟ هل يخشى أن يسقط هو مع النظام؟ أم أن هذا التصريح مجرد مناورة سياسية لتصفية حسابات مع خصومه؟ فلماذا لم يطرحه أمام القضاء؟ أم أن القضاء نفسه، كما يعلم الجميع، غارق في مستنقع المحاصصة؟ تصريحه ليس مجرد فضفضة، ولكن في دولة تحترم القانون، كان يجب أن يُستدعى المشهداني فورًا للتحقيق، وأن يطالب المدعي العام بفتح هذا الملف. لكن في العراق،، لن يحدث شيء (هيئة النزاهة)، التي أُنشئت لمكافحة الفساد، ألقت القبض عام 2023 على 1,200 موظف صغير بتهم الفساد، بينما لم يُمس أي مسؤول كبير. لماذا؟ لأن الجميع شركاء في اللعبة. حيث الجميع شركاء في الكعكة الفاسدة، لن يحدث شيء. الكل يعلم، والكل يصمت، والكل يشارك.
ولنتكلم بصراحة أكثر بأن نظام حكم المحاصصة الطائفية أصبح بمرور الزمن مصنع للفساد ودرعه الحصين ولان النظام السياسي في العراق، بتركيبته الطائفية والحزبية، ليس مجرد بيئة خصبة للفساد، بل هو الفساد نفسه. الأحزاب السياسية، التي تقاسمت الكراسي والوزارات منذ 2003، صنعت شبكة عنكبوتية تحمي الفاسدين. كيف يمكن لمسؤول فاسد أن يحاسب نظيره، إذا كان الجميع متواطئين؟ الوزير يحمي الحزب، والحزب يحمي النائب، والنائب يحمي القاضي، والقاضي يغلق الملفات. هكذا تُدار اللعبة. حتى هيئة النزاهة، التي يفترض أنها رأس الحربة ضد الفساد، وحارسة الشفافية النزاهة غالبًا ما تتحول إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية، بدلاً من محاسبة الفاسدين الكبار. ومثال على ذلك، قضية “سرقة القرن” عام 2022، التي كشفت عن اختلاس 2.5 مليار دولار من أموال الضرائب، لكنها انتهت بإدانة موظفين صغار، بينما بقي اللاعبون الكبار طلقاء. كيف يمكن لفاسد أن يحاسب فاسدًا آخر، إذا كان الجميع يتقاسمون الكعكة؟
بينما تتراكم جبال الفساد يوم بعد يوم على ظهور الشعب العراقي لأنه ما يزال الضحية الصامت والتي لا صوت لهم حيث يسارع من يطالب بحقه الى قمعه وإسكات صوته ويعيش معها في جحيم الفقر والمرض والإهمال. مستشفيات بلا أدوية أو أجهزة تنفس، كما رأينا خلال جائحة كور*و*نا، ومدارس تفتقر لأبسط المقومات، وشوارع تغرق بالمياه العادمة في كل شتاء. الثروة النفطية، التي تجاوزت عائداتها 100 مليار دولار سنويًا في السنوات الأخيرة، تُنهب تحت شعارات الديمقراطية. تظاهرات تشرين 2019 كانت صرخة ضد هذا الفساد، لكنها قُمعت بالرصاص، مخلفة مئات الشهداء وآلاف الجرحى. هل تم محاسبة من قام بهذا الجرم المشهود ؟ الجواب : لا ؟ اليوم، يبدو الشعب كضحية صامتة، عاجزة عن مواجهة نظام يحمي نفسه بقوة السلاح والمال. واليوم، يبدو أن الأمل في التغيير يتلاشى، بينما تستمر أحزاب الإسلام السياسي في تقاسم الكعكة.
تصريح السيد المشهداني ليس مجرد فضيحة، بل هي صرخة مدوية موجهة مباشرة إلى الشعب العراقي وفي فضاء الفساد الى السلطة القضائية، ولكل صاحب ضمير أن يتحرك. لكن، في ظل نظام بني على الفساد، هل يمكن أن ننتظر عدالة؟ إذا كان ملف واحد قادر على إسقاط النظام، فكم ملفًا مدفونًا في أدراج المسؤولين؟ العراق لن ينهض إلا إذا هدمت جبال الفساد، وهذا لن يحدث إلا بإرادة شعبية حقيقية، وقضاء مستقل، ونظام يضع مصلحة الوطن فوق المحاصصة. حتى ذلك الحين، سيبقى الفساد هو السيد والأمر والناهي، والشعب سوف يبقى دائما هو الضحية الذي يدفع الثمن دائما. ومعتبرة أن “الفساد هو النظام، والنظام هو الفساد”. وفي المقابل، لم يصدر أي تعليق رسمي من الحكومة أو هيئة النزاهة حتى الآن، مما يعزز الشعور بأن التصريح سيُدفن كغيره. هذا الصمت ليس مفاجئًا، في النظام الذي يعيش على الفساد لن يسمح بكشف أسراره ,ونظام يضع مصلحة الوطن فوق مصالح الأحزاب. حتى ذلك الحين، سيبقى الفساد سيد الموقف، والشعب رهينة نظام يأكل نفسه بنفسه.
الفساد في العراق ليس مجرد ج#ريم*ة بسيطة عابرة، كما يحاول اللصوص المستفيدون منه أن يروّجوا بألسنتهم الملوثة، بل هو نظام حكم أصبح قائم بحد ذاته، نهج شيطاني متأصل، ينمو كالسرطان الخبيث في شرايين الدولة العراقية. هذا السرطان لا يخضع لمراقبة أو محاسبة، لأن الجميع – من رأس النظام إلى أدنى موظفيه – متواطئون في رعايته، يسقونه بدماء الشعب وثرواته. بؤر هذا السرطان النتن تتكاثر وتتفشى في كل وزارة، هيئة، ومؤسسة، لتحيل جسد الدولة إلى جثة متعفنة، تنخرها ديدان الفساد، بينما يرقص المسؤولون على أنقاضها، يتقاسمون الغنائم ويضحكون على آهات شعبٍ مكلوم ومجروح بكرامته.
رغيف خبز المواطن العراقي لم يعد مجرد طعام، بل رمز للذل، مدمّس بعرق الفقراء، ممزوج بدمائهم، ومُعجَن بصرخات أطفالهم الذين يتضورون جوعًا أمام عيون آبائهم العاجزة. بينما يعاني الشعب، نرى أبناء المسؤولين، هؤلاء اللصوص المُترفين، ينثرون أموال العراق المنهوبة في عواصم الغرب، يبددون ثروات الفقراء على راقصات الملاهي الليلية، ويغرقون في مستنقعات الفسق والمجون، وكأن دم الشعب وقود لترفهم وسياراتهم الفارهة التي يتباهون بها على مواقع التواصل الاجتماعي . هكذا أصبح العراق بعد عقدين من النهب المنظم: وطنٌ تحول إلى مزرعة للأحزاب، حيث يُذبح المواطن على مذبح المحاصصة. ومن يجرؤ على رفع صوته ضد هذا الظلم، يُطلق النظام كلابه الضارية – من ميليشيات وقضاء مُسيّس – لتنهش جسده، وتسكت صوته، وتدفن مطالبه بحقوقه في ثروات بلده تحت أنقاض الخوف والقمع.
بعد أشهر قليلة، ستُجرى الانتخابات البرلمانية، لتحمل معها سؤالًا مصيريًا: هل سيستخدم المواطن العراقي بطاقته الانتخابية كسلاح لاق*ت*لاع هذا النظام السرطاني من جذوره، ليؤسس مرحلة جديدة تعيد له كرامته المسروقة على مدى عقدين من النهب والذل؟ أم سيستسلم الشعب لمصيره المرسوم بعناية في أقبية المحاصصة، حيث نسجت شبكة الفساد الخبيثة شبكتها لتخنق آماله، تاركة إياه ينتظر مخلصًا وهميًا بينما يتعفن تحت وطأة الفقر والقمع؟ الشعب، الذي دفع دماء شبابه في تظاهرات تشرين، يقف اليوم أمام مفترق: إما أن ينتفض عبر صناديق الاقتراع ليحطم أغلال الفساد، وإما أن يظل أسيرًا لنظام يتغذى على جثث أحلامه، متمسكًا بوهم التغيير في ظل نخبة لا تعرف سوى لغة النهب والخيانة.