مقالات

ما هو نطاق الدعوى الدستورية في قضاء المحكمة الاتحادية العليا؟

ان العنوان هو عبارة عن سؤال يثار بين الحين والأخر حول اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا التي قررها الدستور بموجب المادة (93) من الدستور، فهل جميع هذه الاختصاصات تدخل في صميم القضاء الدستوري؟ وهل الاختصاصات التي اضافها مجلس النواب بموجب القوانين التي شرعها تعد من القضاء الدستوري؟ واساس هذا السؤال ان للمحكمة الاتحادية العليا اكثر من ثمانية اختصاصات، فهل يعني ذلك انها تمارس القضاء الدستوري في كل هذه الاختصاصات وللوقوف على الإجابة والتوضيح تجاه هذه الأسئلة اعرض الموضوع باقتضاب على مقدار الحاجة وعلى وفق الاتي:
1. ان المحكمة الاتحادية العليا الحالية، أنشئت بموجب الامر رقم 30 لسنة 2005 الصادر استناداً لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الملغى، بعضٌ من احكامه وليس كلها، وما زالت تمارس عملها لغاية الان على الرغم من صدور الدستور النافذ الذي اتى بتشكيل جديد للمحكمة يختلف عن المحكمة الحالية وباختصاصات أخرى لم تكن ممنوحة لها في قانون تشكيلها،
وفي جميع التشريعات التي نظمت اعمالها لم تسمى بالمحكمة الدستورية او محكمة القضاء الدستوري، وانما تم تسميتها بالمحكمة الاتحادية العليا، بمعنى انها ليست محكمة دستورية بعنوان صريح مثلما عليه في بعض البلدان ومنها المحكمة الدستورية العليا في مصر والمحكمة الدستورية في قطر والمجلس الدستوري في لبنان، وغيرها من البلدان.
2. ان المحكمة الاتحادية العليا في العراق منحت حق ممارسة القضاء الدستوري في بعض صلاحياتها والتي وردت في الفقرة (أولا) التي جاء فيها الاتي (الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة ) والفقرة الثانية التي جاء فيها (تفسير نصوص الدستور) .مثلما كان عليه الحال في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية حيث جاء اختصاصها الدستوري فقط في البند (2) الفقرة (ب) من المادة (44) من ذلك القانون والتي جاء فيها (اختصاصات المحكمة الإتحادية العليا هي: 2- الاختصاص الحصري والأصيل، وبناء على دعوى من مدع أو بناء على إحالة من محكمة أخرى في دعاوى بأن قانونا أو نظاما أو تعليمات صادرة عن الحكومة الإتحادية أو الحكومات الإقليمية أو إدارات المحافظات والبلديات والإدارات المحلية لا تتفق مع هذا القانون) لان قانون إدارة الدولة في حينه هو الدستور النافذ، ثم اكد هذا الاختصاص بموجب المادة (4/ثانياً) من الامر التشريعي رقم 30 لسنة 2005 .
3. ان نظرها للدعاوى الداخلة في اختصاصها الدستوري ينحصر في الدعاوى التي تقام استناداً لإحكام الفقرتين (أولا وثانياً) من المادة (93) من الدستور المتعلقة بالرقابة الدستورية على القوانين والأنظمة النافذة وكذلك في تفسير الدستور، اما بقية الدعاوى التي تقام بموجب الفقرات الأخرى فإنها ليست بدعاوى دستورية وانما دعاوى تنظرها المحكمة الاتحادية العليا بوصفها محكمة فصل في نزاع، أي انها محكمة موضوع، تماثل سائر المحاكم الأخرى، سواء في القضاء الاعتيادي او الإداري، الا ان المشرع الدستوري رأى ان تكون هذه الدعاوى من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا لأهمية قررها كاتب الدستور، مثلما سعى مجلس النواب الى منحها اختصاصات أخرى، بموجب تقديره لأهمية هذه المواضيع، وليس لإنها تدخل في القضاء الدستوري، ومنها اختصاصها في النظر بالطعون المتعلق بالترشح لمنصب رئاسة الجمهورية في القانون رقم 8 لسنة 2012 ،
وما يؤكد هذا الرأي انها كانت تختص بالنظر بالطعون التمييزية المتعلقة بالقضاء الإداري بموجب المادة (4/ثالثاً) من الامر التشريعي رقم 30 لسنة 2005 المعدل، الا ان المشرع وجد ان الاختصاص يجب ان ينعقد الى محكمة أخرى وهي المحكمة الإدارية العليا بموجب قانون تعديل قانون مجلس شورى الدولة رقم 17 لسنة 2013،
وهذا يؤكد بان هذا الاختصاص الذي كانت تمارسه المحكمة الاتحادية العليا لم يكن قضاءً دستورياً، وانما قضاء اداري منحه المشرع لها لفترة من الزمن ثم اعيد الى اصله، واذا كان من القضاء الدستوري فكيف ينقل الى محكمة قضاء اداري؟، كما ان المحكمة الاتحادية العليا لم يكن في مسماها العام بانها محكمة قضاء دستوري.
4. ومن خلال العرض نجد ان المحكمة الاتحادية العليا من بعض اختصاصاتها هو القضاء الدستوري وهو ما ورد في الفقرتين (أولا و ثانياً) من المادة ( 93) من الدستور، وبقية الاختصاصات والدعاوى المقامة بشأنها واستناداً اليها، هي محكمة موضوع تنظر في الفصل في نزاع بين شخصين سواء كانوا طبيعيين او معنويين، وحالها حال الدعاوى الاعتيادية سواء التي تنظرها محاكم القضاء الاعتيادي المنضوية تحت لواء مجلس القضاء الأعلى او القضاء الإداري، ولا يمكن ان نطلق عليها دعاوى دستورية.
5. ما هو الأثر المترتب على ما تقدم ذكره: ان من اهم الاثار التي تترتب على ذلك هو إضفاء صفة الدعوى الدستورية، على الدعاوى التي تنظرها، وسأعرضه على وفق الاتي:
‌أ. ماهية الدعوى الدستورية: تعرف الدعوى الدستورية بمعناها العام هي كل دعوى متعلقة بمسألة من مسائل الدستور والتي ترفع أمام المحكمة الدستورية المختصة في الدولة، أما معناها الخاص فيتمحور حول دعوى دستورية القوانين ويراد بها مخاصمة القانون المخالف للدستور بدعوى أصلية يرفعها الطاعن أمام القضاء وبعد فحص القانون المطعون بدستوريته تحكم المحكمة إما الحكم بعدم الدستورية أو رد الدعوى وهذه الدعوى تهاجم القانون نفسه وبصورة مباشرة بسبب مخالفته للدستور، ولمن يرغب بالاطلاع على المزيد مراجعة كتابي الموسوم (حجية احكام المحكمة الاتحادية العليا واثره الملزم ـ منشورات مكتبة صباح ، طبعة بغداد الأولى عام 2017 ـ ص111) ،
اما الدعاوى التي لا تتعلق بمخالفة القوانين للدستور فإنها لا تعد دعاوى دستورية، ومن الأمثلة على ذلك اختصاص المحكمة الاتحادية العليا في الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، الواردة في الفقرة (ثالثاً) من المادة (93) من الدستور، والذي توسعت في تطبيقه المحكمة بشكل كبير، وهذا النص ورد فيه اعلان صريح بانها تنظر في النزاع الناتج عن التطبيق وليس في مدى دستوريتها،
‌ب. بعد ان توضحت لنا الصورة بان الدعاوى التي تتصف بالدستورية هي الدعاوى التي تنظرها المحكمة الاتحادية العليا حصراً في الفقرتين (أولاً وثانياً) من المادة (93) من الدستور، فان هذه الصفة لا تسري اثارها وتبعاتها الى غير تلك الدعاوى، بمعنى لا يجوز ان نطلق على الدعاوى في الاختصاصات الأخرى بانها دعاوى دستورية، ولا يمكن ان تتمتع بالمميزات التي تتصف بها الدعاوى الدستورية، وانما تخضع للنظام القانوني لسائر الدعاوى الاعتيادية، وتخضع لقواعد المرافعات العامة، باعتبارها بين شخصين يتنازعان على حق معين،
‌ج. وحيث ان الدعوى الدستورية من طبيعتها التي يرتب حكمها بعدم الدستورية أما إلى إلغاء النص الدستوري او تعطيله بما يشبه تماما الإلغاء، وأحيانا لا يشترط لتحقق المصلحة ان تكون ذاتية للمدعي، وإنما من الممكن أن تتحقق المصلحة إذا مس القانون المطعون فيه حالة قانونية خاصة به تؤدي إلى توفر المصلحة الذاتية،
بينما سائر الدعاوى في الاختصاصات الأخرى يجب ان يكون للمدعي مصلحة مباشرة تتمثل بالفائدة العملية التي تعود على رافع الدعوى لان لا يمكن تصور وجود دعوى دون أن تكون لرافعها مصلحة في ذلك وتعد المصلحة مناط الدعوى فإذا انتفت أصبحت الدعوى غير ذات جدوى، وعلى وفق ما ورد في المادة (6) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل ولمن يرغب بالمزيد الاطلاع على كتاب (حجية احكام المحكمة الاتحادية العليا واثره الملزم ، مرجع سابق، ص132)
‌د. كما وصف الفقه الدعوى الدستورية بانها دعوى عينية أي ان سبب الطبيعة العينية لهذه الدعوى، لان أصلها يتعلق بخصومة تجاه القانون أو النص القانوني المطعون فيه ولا تمثل حقاً شخصياً مثل طلب التعويض أو غير ذلك فضلا ًعن عدم توقف القاضي عند طلبات المدعي أو الطاعن، وإنما له ان يبحث في أي أمر يتعلق بدستورية النص ويفتش عن الأسباب الأخرى التي تغافل عنها بمعنى ان القاضي الدستوري يقلب القانون على كافة وجوهه حتى لو لم يذكرها المدعي.
6. ما ذا يترتب على اعتبار الدعوى دستورية، ان من اهم الاثار هو تفرد المحكمة في اختيار النظام القانوني لمعالجة الخرق الدستوري المتمثل في النص المطعون فيه، ولا تقف عند طلبات المدعي وانما تتجاوزه، ولها ان تفصل في دستورية أي نص اخر لم يتم الطعن فيه من المدعى اذا ما وجدت له تعلقاً بالنص الطعين، بينما في الدعاوى الداخلة في اختصاصها غير الدستوري، فإنها محكومة بالنصوص القانونية النافذة ومنها قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل، لعدم وجود نصوص قانونية إجرائية خاصة بها، ولان قانون تشكيلها لم يوضح القواعد الإجرائية التي يجب ان تراعى عند نظر الدعوى الدستورية.
قد يقول قائل ان النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا النافذ والملغى قد نظم تلك القواعد، والرد واضح بان النظام الداخلي لا يمكن ان يعدل او يلغي نصاً قانونياً نافذاً، لان التدرج الهرمي للتشريعات جعل القانون اسمى من النظام الداخلي،
الخلاصة: من خلال عنوان هذه المادة وهو سؤال نرى ان العرض أعلاه يجيب عليه، بان ما تتعلل به أحياناً المحكمة الاتحادية العليا بان قضائها قضاءً دستورياً، فان هذا التعلل يقف عند حدود الدعاوى التي تدخل في اختصاصها الدستوري الوارد على وفق احكام الفقرتين (أولا و ثانياً) من المادة (93) من الدستور، اما في الاختصاصات الأخرى فلا يمكن تجاوز احكام قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969، ومنها شرط المصلحة الواردة في المادة (6) مرافعات، كما ليس لها ان تنتقي نصاً اجرائياً ورد في نظام قانوني متكامل مثلما فعلت في عدم النظر في التظلم من قراراتها الولائية في الدعاوى التي أقيمت خارج نطاق الفقرتين (أولا و ثانياً) من المادة (93) من الدستور، لانها تكون بمثابة محكمة موضوع تفصل في النزاع القائم بين شخصين، سواء كان شخصاً طبيعياً او معنوياً، وان القانون الواجب التطبيق تجاه القواعد الإجرائية هو قانون المرافعات لانه صمم في اصله للفصل في المنازعات ذات الطبيعة الشخصية وليس الدعاوى المتعلق بالدعاوى ذات الطبيعة العينية في الدعوى الدستورية، حيث ان النزعة الفردية والشخصية لهذا القانون تجلت في احكام المادة (2) مرافعات التي اعتبرت الدعوى هي حق شخصي، وتم بناء جميع الإجراءات على أساس هذه الفردية والشخصنة في المطالبة القضائية، وتعزز هذا الاتجاه عند توزيع الاختصاص النوعي بين المحاكم ، فانه اعتمد على أساس التعريف الوارد في المادة (2) مرافعات من توفر الفردية والشخصنة في الدعاوى التي تنظرها المحاكم، كذلك حدد أنواع المحاكم على وفق هذه الأسس, وهذا يؤكد ان قواعد المرافعات الواردة فيه لا تصلح للدعاوى ذات الطبيعة الدستورية ، بينما في الدعاوى الأخرى يجب ان يكون النص الحاكم والفاعل هو قانون المرافعات لانها دعاوى ذات طبيعة شخصية صرفة.
قاضٍ متقاعد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!