مقالات دينية

علاقة العقل بالإيمان

علاقة العقل بالإيمان

بقلم / وردا إسحاق قلّو

    الإنسان الذي خلقه الله على صورته يتميَّز عن الحيوانات وذلك لإمتلاكه العقل ، فهل بمقدور العقل معرفة الله وأسراره معرفة كافية ، أم أنه محدود بقدرته في فهم أسرار عالم الأرواح ؟

عندما نعترف بأن الله قد خلق الإنسان العاقل كمثاله ، والإنسان يعترف بهذه الحقيقة بأنه يمتلك عقل محدود ، فهل يستطيع العقل المحدود أن يدرك الله الغير محدود ؟

  بعد إنشقاق الكاهن مارتن لوثر دار بين الكاثوليك والبروتستانت جدالاً حول موضوع ( معرفة الله الطبيعية ) فالكنيسة الكاثوليكية أكدت موضوع معرفة الله الطبيعية ، وأن الإنسان مخلوق على صورة الله كمثاله ، إذ أن غايته القصوى هي الله ، لهذا قرر المجمع التريدانتيني رداً على الرأي البروتستانتي القائل ( أن الله هو منبع كل الأشياء ونهايتها ، يقدر العقل الطبيعي معرفته معرفة يقينية إنطلاقاً من المخلوقات ) لكن البروتستانت نفوا إمكانية معرفة الله بالعقل معرفة بشرية فحصروا المعرفة بالوحي . فالوحي المسيحي يتمحور حول أسرار إلهية ولا سيما سر التجسد ( الكلمة صار جسداً ) ” يو 14:1 ” . فالعقل يحاول فهم هذا السر والتعمق فيه ، فلفظة ( الكلمة ) تتطلب شرحاً وفهماً وتوضيحاً دقيقاً . وهكذا بالنسبة إلى سر الفداء والثالوث ، فالروح القدس لا يخاطب وجدان الإنسان فحسب ، بل العقل أيضاً ، والعقل من جهته يسعى بقوة الروح القدس أن يدرك السر ويتعمق فيه فيدخل في أعماقه . وبما أن السر غير محدود ، فمعرفة العقل غير محدودة أيضاً . لذلك نقول بأن السر لا يعني بأن الإنسان لا يستطيع فهمه بالعقل ، إنما يعني أن الإنسان كلما سعى إلأى فهمه أكتشف أبعاداً وأعماقاً جديدة فيه . فالسر لا متناهي ، والعقل كذلك . فإن كان الإصلاحيين يعتبرون الإيمان إلهام داخلي ، ونور إلهي باطني وذلك بعمل الروح القدس ، إلا أن اللاهوت الكاثوليكي يعتبر ذلك لا يسلب العقل دورهُ في فهم الإيمان فهماً موضوعياً . قال القديس أوغسطينس في هذا الصدد ( أؤمن كي أفهم ) فإن كان الإيمان يسبق الفهم ، إلا أن الفهم بالعقل يتبع الإيمان ويوَضحهُ . وهذه المقاربة مختلفة عن المقاربة الفلسفية التي تنطلق من العقل في البحث عن الله من أجل الإيمان بوجوده .

لجماعة الإصلاح قول مأثور ، وهو ( الإيمان من الإستماع إلى كلمة الله ) إلا أن هذا القول مع صحته ناقص لأن الإستماع ناقص ما لم يحكم عليه العقل . فالإستماع قطب سالب ، وأما إحكام العقل فأمر باطني .

وتتضح نهاية العقل في مجار آخر . إلا وهو البعد الجماعي حيث لا ينحصر الوحي والإيمان في ما يختبره ويفهمه الشخص بمفرده بمعتزل عن الآخرين . فالبعد الجماعي الكنسي يمنع ( وديعة الإيمان ) من أن تكون عرضة للذاتي فتقع في فخ الفردانية ، فتقع وديعة الإيمان على عاتق الجماعة الكنسية ولا سيما السلطة الكنسية التعليمية بموجب أمر المسيح ( أذهبوا وتلمذوا .. وعلموا .. ) ” مت 20:28 ” .

عقل الإنسان المحدود يتميز بقدرة لا نهائية ، فأنه يتفاعل ومضمون الوحي الكامن في الكتاب المقدس ، فيحاول المؤمن أن يتعمق في فهمه بعقله . ومن هنا ظهرت الهرطقات فإضطرت الكنيسة غلى عقد المجامع للرد عليها ، ولتفسير الكتاب المقدس تفسيراً كنسياً صائباً . والمجامع إستخدمت العقل في صياغة العقائد ، وقد أزداد دور العقل في البعض منها . مثل المجمع الفاتيكاني الأول نظراً إلى إشكالية الإصلاح التي كانت حذرة تجاه العقل ولا سيما في قولها المأثور ( الكتاب وحده ) فرد المجمع الفاتيكاني الثاني بعدم التركيز على العقل كما فعل المجمع الفاتيكاني الأول ، مضيفاً أبعاداً أخرى كأهمية البعد التاريخي في الخلاص .

 هناك العديد من الطوائف المسيحية حذرين تجاه العقل ، أو رافضين إياه ، لخوفهم من هدم الإيمان بالعقلانية . فنرى أرسطو مثلاً يقر بإمكانية معرفة الله بالعقل معرفةً شاملة ، مما يهدد دور الإيمان ، بيد أن إيماننا يعلمنا أن مفاهيمنا عن الله جزئية لا شاملة ، وأن العلم كله جزئي . هناك علامات طبيعية وآيات تشير إلأى وجود الله فيستطيع العقل أن يقتنع بها ويؤمن . فالخليقة علامة تشير إلأى وجود الله لكنها لا تبرهن لأنها لا تفرض نفسها ‘لى العقل . كذلك توق الإنسان إلى الله ونزعته نحوهُ وإشتياقه له ، إنما هي من العلامات لا البراهين لوجود الله .   وفي المسيحية علامات وآيات لوجود الله ولحضوره نذكر منها ست علامات وآيات :

  • الخليقة : يقول الكتاب ( الخليقة بأسرها تنشد بعمل الله وعظمته ) فالخليقة هي ظهور لله ، فالله لا يظهر مادياً ، بل في خليقتهِ .
  • يسوع المسيح : أنه العلامة العظمى التي تحث الناس على الإيمان بالله ، ( لأنه صورة الله غير المرئي ) ” قول 15:1 ” . أي أنه علامة مرئية للآب غير المرئي ، حيث من رآه فقد رأى الآب ” يو 9:14 ” ، وذلك لأنه مع الآب ” يو 30:10 ” .
  • الكنيسة : لكونها جسد المسيح وعروسه . إنها جسد المسيح وهو رأسها . فمجرد وجودها في وسط البشر تدل على حضور الله بينهم ( سيعرفون أنكم تلاميذي إذ أحب بعضكم بعضاً ) ” يو 35:13 ” .
  • الأسرار الكنسية : عناصر طبيعية تستخدم في الأسرار تشير إلى الله وتحقق حضوره . فالخبز والخمر يحققان ما يشيران إليه من حضور جسد يسوع ودمه . والماء يشير إلى المعمودية . والزيت إلأى قوة الروح القدس .
  • الفقراء والصغار : يرمزون إلى وجود الله بيننا بناءً على وصية المسيح ، قال ( كل ما فعلتموه لأحد هؤلاء الصغار فبي قد فعلتم ) ” مت 40:25 ” فالفقير والصغير والمظلوم يشير إلى وجود الله بيننا . فالإنسان المتألم يرمز إلى يسوع المتألم . لهذا قال القديس أكليمندس الأسكندري ( رؤية إخوتنا هي رؤية الله ) .
  • الكتاب المقدس : يشير بأجمعه إلى الله ، إلى كيان الآب والإبن والروح القدس ، فهو علامة تشير إلى الله .

إذاً العقل له دور في الإيمان ما دام الإنسان على هذه الأرض ، إلا أن الوضع يختلف في الأبدية لأنه سيزول الإيمان ومعه الرجاء . يقول الرسول بولس ، لتظل المحبة وحدها ( 1 قور 13:13 ) وأخيراً سيزول أيضاً مجهود العقل لتحل الرؤية ، رؤية الله وجهاً لوجه ( طالع 1 قور 13: 10-12 ) . فمرجع الإيمان هو الإيمان نفسه ، لا العقل الذي يخدم الإيمان . وبالإيمان نقول ( يا رب خلصني ) .

التوقيع ( لأني لا أستحي بالبشارة . فهي قدرة الله لخلاص كل مؤمن ) ” رو 16:1 ”  

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!