مقالات دينية

السيرة الطاهرة للقديس مار نرساي أسقف السن

السيرة الطاهرة للقديس مار نرساي أسقف السن

إعداد / وردا إسحاق قلّو

وِلد مار نارساي من أبوين غنيين في بلاد بيث بغاش في قرية شهيرة تدعى ( زاران ) ، واليوم هي قرية زارني الواقعة في جيلو على مسافة 70 كم شمال العمادية . كان له أخ اسمه شلمان وأخت . وكانت أفعال الأخوين على غرار أفعال يعقوب وعيسو ، فكان شلمان متقلداً السيف يسفك الدماء ، ليس دماء الصالحين فقط بل الأشرار . ولأن الأكراد رعوا في ذلك الزمان بأعمال تخريبية ، وبالسلب والنهب شهر شليمان عليهم السلاح وجمع له فرقة وأخذ وأخذ يعمل السيف في رقاب كثيرين منهم ، ويقال أنه لم يكن الطعام ليهنأ له ما لم يتوسد كل يوم جمجمة أحد الأشرار الذين بطش بهم هو نفسه ، علماً بأن قريتهم كان أهلها من جبابرة أشداء ، ولم يلاحقون اللصوص فحسب ، بل كانوا يعصون على حكام المملكة ويمتنعون من دفع الأتاوة القيصرية ، فكانوا يطردون كثيرين من الجباة دون وجل بعد أن يشبعونهم ضرباً . بينما كان أخ مار نرساي مثل عيسو فضل أخوه القديس نرساي أن يحيا عيشة عجيبة في سيرته وأعماله ، إذ صور وطبع في نفسه كاختم في النقود ، ما تجلى في الطوباوي مار يعقوب من الوداعة واللطف والطاعة الحميدة لآبائه ، أما اختهما فقد تزوجت بالكريم شهادوست من ( أوري بيث كوزا ) الوالقعة في برواري بالا ، 25 كم شمال غرب العمادية ، وأنجبت الشريف نعمان العظيم المعروف الغني الذي فاز بمناصب عديدة وبالسلطة على البلدان من زريق وآبائه . حكم في عهد الخليفة الرشيد نحو 800 م – 827 على مقاطعة الجبال بين الموصل وأذربيجان . وقد وزع هدايا كبيرة على الكنيسة وبنيها ومدبريها في عهد حكمه ن أما نرساي العظيم فقد تبحر في الكتب المقدسة في كنيسة قريتهم وذلك بهمة والديه واجتهادهما ، ولما صار شاباً أختتار أن يتبع طريق الطهر ، فترك بيت والديه وكل غناهما ، وأحتقر حب الأخوة والأقارب ، وأتى إلى دير بيث عابي المقدس ، ودخل الأبتداء ، كما تفرض قوانين الآباء . وحدث له حادث كان لفائدته ولطهرة جسده ، فبينما كان مع المبتدئين رفاقه يسقط الزيتون في بستان الدير الكبير ، وقع من الشجرة التي كان متسلقاً عليها بين أغصان الأشجار ورضت خصيتاه وانتابه مرض شديد أوجب بترهما وصار خصياً ( طالع مت 12:19 ) وقد ورد في هذا الصدد في كتابات الآباء عن الذين يقطعون أعضائهم ، غنه إذا قطعت من جراء مرض أو من قبل أناس برابرة ، لا يرذلهم القانون ، بل يسمح لهم باقتبال درجة الكهنوت وبممارستها ، وقد عاد هذا الحادث بالنفع على بتوليته ، فالحكيم يقول ( الويل للرجل الذي يدنس في مضجعه ) ” سير 25:23 ” . إذاً العناية الإلهية سبقت ونظرت إلى مقاصدها لهذا الطوباوي ، وحتى إذا ما عين راعياً لمدينة رعيته ، يكون هادئاً إزاء منظر جمال العالم والخسرلن الذي بسببه الإنسان .

بعد أن أنهى مرحلة الإبتداء بنى له صومعة صغيرة بعيدة عن الدير ، وهي  قائمة ومعروفة غلى اليوم . وفيها شجرة الزيتون التي غرسها القديس نفسه ، وتقع شرقي الدير تحت القمة . ولما سكن فيها جعلها مبكى لنفسه ، وأقام نختفياً فيها عاكفاً على التواضع والحزن ، متخذاً أياها بمثابة القبر ، وكان يتجنب حتى عِشرَة الذين كانوا يريدون الأستفادة منه لتلقي الدروس والألحان . وكان جار القديس مار قرياقوس الذي كان معه في الأبتداء وقرنين من العمر ، فكانا أبني محبة واحدة ومزمعين أن يرثا ملكوتاً واحداً . وقد أصبحا من الرؤساء في الأديار السماوية . وكانا تحت نير واحد لأنهما اشتغلا في حقل روحي واحد ، فكانا ذراعين قويين لجسد واحد ، وعينين نَيّرين لجسم واحد ، وكلاهما أقيما راعين للمدن الوقعة على نهر واحد كبير هو نهر دجلة ، ذلك لبلد .

كان الطوباوي نرساي قد عكف على الخلوة حتى غنه لم يكن يظهر خارج كوخه البتة ، وكان أغلب الأيام لا يخرج حتى إلى الفناء ، أما الفائدة التي يجنيها الإنسان من الخلوة والعذوبة التي يتذوقها فلا يختبرها أو يحظى بها إلا الذين ذاقوها فأغرموا بجمال المنظر الناتج عنها .

قال الأنبا أشعيا الطوباوي ( أن سكون الجسد يقود إلى سكون العقل ، وبسكون العقل وحفظ الجسد الذي يبلغه المرء بالصلاة والقراءة وبقية أعمال الرهبان تكتسب النفس إتحاداً مع المسيح ، فتكون معه روحاً واحدة ) فطوبى لمن فيه ينهي حياته ، إذ انه يدخل السماء مكللاً بأكاليل النور كما قيل . فأن السكون لم يعظم ويمجد قديسي العهد الجديد وصديقي العهد القديم فحسب ، حتى صاروا آلهة بين البشر ، بل أكتسب به الفلاسفة الوثنيون أيضاً قبل مجىء الرب وظهور عمله الخلاصي غنى المعارف السامية وأغنوا الآخرين .    فيثاغورس كبير الفلاسفة ، عندما اختبر أن لا فلسفة بدون هدوء الجسد بالإخلاء إلى العزلة وسكوت اللسان عن الكلام ، أمر كل الذين يتبعون مدرسته أن يحفظوا السكوت خمس سنين فكان يتيسر لهم الولوج إلى الحكمة في تلك المدرسة من السمع والنظر فقط . وعاش هوميروس الحكيم في القفر مدة سنين طويلة وهو يطلق العنان لعقله ليجمع المعارف ، فأدرك بالمهارة التي اقتبسها من الهدوء والسكوت أن يحول بواسطة العقاقير والنار والكور الرصاص إلى الفضة ، والنحاس إلى الذهب . ويعمل على تحضير الأحجار الكريمة بايعنال العقاقير من أشياء بسيطة وتحضير أشياء أخرى من مواد مختلفة . كذلك افلاطون شاد له كوخاً في البرية الداخلية بعيداً عن الناس وعشرتهم ، وأخذ وصية الطوباوي موسى وتأمل في قوله هذا ( إسمع يا إس*رائي*ل أن الرب إلهك رب واحد ) ” تث 40:6 ” . وهكذا أعطى الله الحِكَم لهؤلاء العلمانيين أيضاً . فإذا كان الله يعطي للوثنين البعيدين عن المعرفة الروحية الحِكمة التي سعوا من أجلها ، فكم بالحري يعطي القديسين الذين يحفظون وصاياه ويكلمون إرادته بالجوع والعطش والألم والدموع والصلاة ليل نهار ، ليس حكمة العالم التي لم يطلبوها ، بل الملكوت الذي من أجله يتألمون ، وهو ينعمهم به منذ الآن عربوناً لذلك .

وقد جنى مار نرساي القديس موهبة من ثمار السكون ، موهبة يحبها كل الآباء ألا وهي سكب الدموع الدائم الغير منقطع أبداً . وكان شيخ من هذا الدير اسمه تومانا ، يقول ( حينما كان الطوباوي نرساي يأتي إلى الدير ، كان يستتر بكساء قبعته لئلا يظهر سيل دموعه ) وكان مؤمنو السن أيضاً يتكلمون عنه بهذا الصدد ، ولما سأل أحد الأخوة شيخاً وقال له ( يا أبت ،كيف تشتاق نفسي إلى الدموع ولا تعطى لي ؟ ) أجابه ( يا بني أن الدموع أرض الميعاد ، فطالما ليس للمرء هذه الدموع ، فهو يسير مع بني إس*رائي*ل في البرية ، وحينما يبلغ موهبة الدموع ، حينئذ يكون قد دخل أرض الميعاد . ولأن هذه الموهبة العظيمة بحاجة كبيرة إلى التواضع كدرع لها ، لأن كل أحد ليس كفء لها ، فقد درب نفسه على إحتقار ذاته ورذل كل شىء لئلا يسرق منه هذا الثراء ، وأرعى سمعه إلى المشورة التي يلقيها عليه الطوباوي أوراغيس قائلاً ( وإن كان لك ينبوع دموع في صلاتك ، فلا ترتفع في نفسك أبداً ظاناً أنك أكبر من كثيرين ، فإنك قد نلت عوناً من الصلاة به قدرت بأهتمام أن تقر بذنوبك وأن تسترضي يدك بدموعك فلا تمزجه بهوى الكبرياء التي تفسد الأهواء ، فلعلك تغضب أكثر ذلك الذي منحك النِعمة . ، فإن كثرين قد بكوا على خطاياهم ، ولأنهم نسوا غاية الدموع ، حادوا عن جادة الصواب ) .

وهكذا زين مار نرساي نفسه بالتواضع والدموع واليقظة الفطنة على كل ما حواليه إذ لعله حينما ينتصر في محاربة الزنى وقد انتصر عليها من جراء الحادث الذي طرأ عليه – يسببه الشرير بشدة الغضب ، أو حينما يتغلب على هذا أيضاً يسقط في هوة الحسد والبغضاء . وإن حفظ الفضائل أصعب من ممارستها , ولأجل سمو سيرته وطهارة قلبه وتوغله في محبة سيده ، قدس المسيح هذا الرجل ليصبح له منزلاً طاهراً وهكذا يعمل الرب الجواد الذي لا يؤجل أجر الذين يعملون في كرم بشارته . فلما كان نرساي المتواضع ينعم بمثل هذه الأمور وينتصر مدة سنين عديدة ، بلغ الآوان لكي ينال ثمرة الخمس وزنات ، ويوزع كالعبد الحكيم كنوز سيده لبني بيته . فأراد الرب أن يكرمه بكرسي أسقفية قرديلاباد ( السن ) الوقعة شرق دجلة بعد مصب الزاب الصغير .

إلى اللقاء مع مقال آخر لهذا القديس ، عنوانه ( إنتخاب القديس نرساي لأسقفية السن ومواهبه )

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!