مقالات

التجريد من الإنسانية أحد أشكال التحريض على الإبادة

يقال إن مرتكبي العن*ف يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم، لكن الحقيقة أسوأ. فلماذا نحط من قدر الآخرين ونستعبدهم ونبيدهم؟ إن البشرية قد تتوقف عند حدود القبيلة أو القرية، أو عند حدود العرق، أو الدين، أو اللغة، أو اللون. واليوم تبدو ظواهر مثل العن*ف، والقسوة، والتجريد من الإنسانية أمرًا منتشرًا.

ولإيضاح ذلك، ثمة تحليل موضوعي للكاتب والباحث الفلسطيني د.حسن العاصي عنوانه «التجريد من الإنسانية: أقل من إنسان.. سيكولوجية القسوة»، يقول فيه: لو بحثنا في محركات البحث عن المجموعة البشرية المفضلة والمحتقرة لدينا «اليهود، والسود، والعرب، والمسلمين، والمثليين» وما إلى ذلك، جنبًا إلى جنب مع كلمات مثل «الحشرات»، أو «الصراصير»، أو «الحيوانات»، سوف يتدفق أمامنا سيل لا يتوقف منها. سوف نسمع كلمة «حيوانات» يستخدمها حتى أشخاص محترمون، في إشارة إلى الار*ها*بيين، أو الإ*سر*ائي*ليين، أو الفلسطينيين، أو المهاجرين غير الشرعيين، أو مُرحّلي المهاجرين غير الشرعيين. تظهر مثل القسوة والتجريد في خطاب المتعصبين البيض، والتيارات اليمينية غالبًا، ولكن نجده عندما يتحدث بعضنا عن المتعصبين البيض أيضًا.

إنها ليست مجرد مسألة كلمات. على مر التاريخ، اعتقد بعض الناس أنه من المقبول امتلاك البشر، وكانت مناقشات صريحة من قبل بعض الباحثين والساسة فيما إذا كانت مجموعة معينة (مثل السود والأمريكيين الأصليين) «عبيدًا طبيعيين». وحتى في القرن الماضي، كانت هناك حدائق حيوانات بشرية، حيث تم وضع الأفارقة في حظائر لينظر إليها الأوروبيون.

نظرًا لندرة الأدلة المتاحة، فإن دراسات علماء الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية منقسمة بشدة حول سؤال: ما هو عمر العن*ف البشري؟ استنتج بعض العلماء أن البشر عنيفون بطبيعتهم، شأن عالم النفس النمساوي «سيغموند فرويد» الذي يعتبر أن الإنسان هو كائن يختزن قدرًا كبيرًا من العن*ف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية. وآخرون أنهم في الأساس غير عنيفين، إنما يتعلمون العن*ف بنفس الطريقة التي يتعلمون بها أنماط السلوك الآخرى. مثل عالم النفس الاجتماعي الكندي الأمريكي «ألبرت باندورا»، ولكن في كلا المدرستين التفسيريتين هناك ميل واضح للاعتماد على نظرية المعرفة الطبيعية لتحليل أنواع البنى النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى تجريد الآخرين من إنسانيتهم وإساءة معاملتهم.

لا تحتاج إلى أن تكون عدائيًا عنصريًا، لكنك تحتاج إلى تصنيف المجموعات. فإذا كنت تعتقد أن أعضاء مجموعة معينة أقل شأنًا، وأن لديهم قيمة جوهرية أقل من أعضاء مجموعة أخرى، فإنك تظهر العنصرية. إن التجريد من الإنسانية هو ظاهرة اجتماعية معقدة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأذى والإهمال بين المجموعات.

إن تصنيف الناس أو تصنيف الأجناس حسب العرق، أو اللون، أو الدين، أوالقومية، أو اللغة، يؤدي إلى تجريدهم من إنسانيتهم. يعرّف علماء النفس والأنثروبولوجيا التجريد من الإنسانية بأنه تصور شخص آخر على أنه دون البشر. يقول عالم النفس التطوري في جامعة نيو إنجلاند «ديفيد ليفينغستون سميث»: «في ظل الظروف المناسبة، فإننا جميعًا تقريبًا قادرون على الانزلاق إلى العقلية اللاإنسانية، وارتكاب أعمال وحشية كان من الصعب أو حتى المستحيل بالنسبة لنا القيام بها».

هناك العديد من الأحداث التاريخية التي توضح التحول إلى العقلية اللاإنسانية. والأكثر شهرة بالطبع هو أيديولوجية ألمانيا النارية، التي نَشرت أفكارًا حول تفوق الآريين على جميع الأمم الأخرى. وكانوا ينظرون إلى الفساد متأصل في الأشخاص اليهود. وعندما وصف النازيون اليهود بأنهم «Untermenschen»، أي دون البشر، أو أقل من البشر، واعتبروهم جرذانًا، لم يقصدوا ذلك مجازيًا، كما يقول سميث: «لم يقصدوا أنهم كانوا مثل البشر دون البشر. بل كانوا يقصدون أنهم كانوا حرفيًا دون البشر». وحين أطلق اليهود الص*ها*ينة على الفلسطينيين أنهم حيوانات بشرية، كانوا يقصدون ما قالوه تمامًا.

وفي مثال مماثل، يمكن تسمية سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا القائمة على التمييز العنصري، الذي استمر حوالي نصف قرن وسقط رسميًا في العام 1991، أيضًا تجريدًا للإنسانية من قبل أتباع «الحركة البيضاء» لغالبية السكان الأصليين الأفريكانيين.

وعندما شاركت قبائل «الهوتو» في الإبادة الجماعية في رواندا، أطلقوا على قبائل «التوتسي» صراصير. هذا التجريد من الإنسانية فتح الباب أمام القسوة والوحشية، والإبادة الجماعية.

التجريد من الإنسانية هو وسيلة لحرب المعلومات، والجوهر هو تشكيل صورة الشخص الذي يصبح غير مهم، طفيلي ولا يستحق الوجود. وهو أحد أكثر طرق الحرب الإعلامية وحشية. على سبيل المثال صورة الجندية الأمريكية «ليندي إنجلاند» وهي تسحب مقودًا مربوطًا برقبة سجينة في سجن أبوغريب، تضطر للزحف على الأرض، بينما زميلتها الجندية «ميغان أمبوهل» تُراقب.

خلال الحرب العالمية الأولى ظهر ملصق دعائي نمساوي يصور أحد الصرب على أنه ار*ها*بي يشبه القرد. كما ظهر ملصق أمريكي من الحرب العالمية الثانية يظهر فيه جندي ياباني على شكل فأر.

وكما أوضح الباحث د. العاصي أن التجريد من الإنسانية هو أحد أشكال التحريض على الإبادة الجماعية. كما تم استخدامه لتبرير الحروب، والق*ت*ل القضائي وخارج نطاق القضاء، ومصادرة الممتلكات، والحرمان من حق الاقتراع وغيرها من الحقوق، ولمهاجمة الأعداء أو المعارضين السياسيين. وهذا ما تفعله إس*رائي*ل بحق الشعب الفلسطيني.

تؤكد أفعال الصهيونية في فلسطين أنه عندما نكون في قبضة عقلية تجرد الإنسان من إنسانيته، فإننا غالبًا ما نرى الآخر المجرد من إنسانيته «مرعبًا وخطرًا»، ما يؤدي إلى ما نراه الجناة على أنه صراع حياة أو موت ضد عدو قاتل. ومن المهم أن نتذكر أن المجردين من الإنسانية يعتقدون في الواقع أن الأشخاص الذين يضطهدوهم أقل من البشر، ما يجعل عملية التجريد من الإنسانية خطيرة للغاية. مثل دعوة «نسيم فاتوري» نائب رئيس الكنيست الإ*سر*ائي*لي إلى حرق غزّة بالكامل. وكذلك دعوات وزير التراث الإ*سر*ائي*لي «عميحاي إلياهو» إلى ضرب قطاع غزّة بقنبلة نووية وإبادتها كأحد الخيارات المطروحة. وبعض أعضاء الحكومة الإ*سر*ائي*لية الحالية دعا إلى استخدام الصورايخ الباليستية لمحو غزًة من الخارطة.

وكانت مواقف مماثلة واضحة تجاه السكان الأصليين في الأمريكيتين («يعود الهندي دائمًا إلى بطانيته»، ما يعني أنه لا يمكن أن يكونوا «متحضرين») وتجاه العبيد السود الذين كان يفترض أن لديهم دوافع وحشية. يُظهر الإعدام خارج نطاق القانون أسوأ سلوكيات التجريد من الإنسانية – السادية والتعذيب والق*ت*ل. كان يُعتقد أن العبيد السود الذين أرادوا الهروب من العبودية، وهي حالتهم الطبيعية المفترض، يعانون من اضطراب نفسي وكان يتم جلدهم كعلاج.

تم تجريد الأمريكيين الأصليين من إنسانيتهم باعتبارهم «متوحشين هنود لا يرحمون» في إعلان استقلال الولايات المتحدة. وفي عام 1890 قام الجيش الأمريكي بق*ت*ل ثلاثمائة من السكان الأصليين في مذبحة سميت «مجزرة الركبة الجريحة». وفي الولايات المتحدة، تم تجريد الأمريكيين من أصل أفريقي من إنسانيتهم من خلال تصنيفهم على أنهم رئيسات غير بشرية.

في أستراليا تم استبعاد السكان الأصليين من تعداد السكان حين وافقت المستعمرات الأسترالية الست على الاتحاد، وأنشئت الدولة القومية الحديثة عام 1901، وتم حرمانهم بشكل قاطع من حق التصويت. لم يُسمح للسكان الأصليين الأستراليين بمزايا الضمان الاجتماعي (مثل معاشات الشيخوخة وبدلات الأمومة) التي كانت تُقدم للآخرين.

من ذلك التعامل مع الجماعات والأفراد على أنهم أقل من إنسان كامل بحكم عرقهم. غالبًا ما يحدث التجريد من الإنسانية نتيجة الصراع بين المجموعات. حيث يتم تمثيل الآخرين العرقيين والعنصريين كحيوانات في الثقافة الشعبية.

هناك أدلة على أن هذا التمثيل قائم في السياق الأمريكي مع الأمريكيين من أصل أفريقي المرتبطين ضمنيًا بالقردة. وبقدر ما يكون لدى الفرد هذا الارتباط الضمني المهيمن للإنسانية، فمن المرجح أن يدعم العن*ف ضد الأمريكيين من أصل أفريقي.

كثيرًا ما يرتبط التجريد من الإنسانية بنزعات الإبادة الجماعية تاريخيًا، حيث تصور الأيديولوجيات قبل وفي أثناء الصراع على أنهم دون البشر «مثل القوارض»، ويمكن أيضًا تجريد المهاجرين واللاجئين من إنسانيتهم بهذه الطريقة. كما حصل في عدد من الدول الأوروبية عام 2015 خلال أزمة تدفق اللاجئين.

يتم تخصيص كلمات مثل المهاجر والمغترب للأجانب بناءً على وضعهم الاجتماعي وثرواتهم، بدلاً من القدرة أو الإنجازات أو التوافق السياسي. المغترب هي كلمة تصف الأشخاص المتميزين، ذوي البشرة الفاتحة في كثير من الأحيان، ولها دلالات تشير إلى القدرة والثروة والثقة. وفي الوقت نفسه، تُستخدم كلمة مهاجر لوصف الأشخاص القادمين إلى مكان جديد للإقامة فيه، وتوحي بمعنى أقل استحسانًا بكثير.

ويؤكد سميث أنه «طالما استمر التمييز والعنصرية، فإن التجريد من الإنسانية هو قاب قوسين أو أدنى». تُظهر العنصرية البعض على أنهم كائنات بشرية أقل شأنًا، في حين يُظهر التجريد من الإنسانية طبيعة أقل من الإنسانية. فالتجريد من الإنسانية هو عنصرية منشطة.

ما سبق ذكره يقود إلى الاستنتاج الآتي: يمكننا إقناع أنفسنا بالاعتقاد بأن الآخرين هم دون البشر أو ليسوا أشخاصًا، من خلال الروايات الثقافية أو من خلال البيولوجيا العصبية الحساسة للتهديدات، أو من مزج من ذلك. إن الاعتقاد بأن الآخر ليس شخصًا حقيقيًا يمكّننا من ارتكاب أعمال القسوة والدمار.

إن الأحداث التي تدور حولنا تؤكد ما وصل إليه الفيلسوف الفرنسي «بليز باسكال» في عام 1658 حين قال: «البشر هم مجد الكون وحثالته. نحن نحب ونكره. نساعد ونضر. نمد يدنا ونلصق السكين».

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!