مقالات

هل يجوز للمحكمة ان تحل محل إرادة الخصوم تجاه التمسك بشرط التحكيم؟ قراءة في قرار محكمة التمييز الاتحادية العدد 4549/هيئة استئنافية عقار/2023

هل يجوز للمحكمة ان تحل محل إرادة الخصوم تجاه التمسك بشرط التحكيم؟
قراءة في قرار محكمة التمييز الاتحادية العدد 4549/هيئة استئنافية عقار/2023
أولاً: ملخص الدعوى:
اصدرت محكمة استئناف كركوك بصفتها الاصلية قرارها العدد 500/س/2023 في 5/11/2023 الذي قضت فيه بتأييد قرار محكمة بداءة كركوك العدد 467/ب1/2023 في 28/8/2023 من حيث النتيجة، والذي قضت فيه برد دعوى المدعي، وكان موضوع الدعوى هو طلب المدعي الحكم بالزام المدعى عليه إضافة لوظيفته بدفع مبالغ مالية عن قيمة منشأت تم بنائها لصالح المدعى عليه بموجب عقد مقاولة مبرم بينهما،
وكان وكيل المدعى عليه قد دفع بدفوع موضوعية تتعلق بدفع المسؤولية عن موكله، حيث يعتقد بان المدعي غير محق بدعواه، لان العقد بينهما لم يتضمن أي بند يلزم دائرة موكله بتسديد قيمة تلك المنشأت وعلى وفق الشرح الوارد في حيثيات قرار محكمة البداءة، ثم وجدت محكمة البداءة ان دعوى المدعي واجبة الرد موضوعاً لإنها لا تستند الى سند من القانون،
وبعد ذلك طعن المدعي بقرار الحكم استئنافاً امام محكمة استئناف كركوك بصفتها الاصلية، وطلب فسخ قرار محكمة البداءة ومن ثم الحكم بإلزام المستأنف عليه بقيمة تلك المنشات، الا ان محكمة الاستئناف قررت تأييد قرار محكمة البداءة من حيث النتيجة،
لكن محكمة الاستئناف وجدت ان سبب الرد هو سبب شكلي وليس موضوعي مثلما سار عليه قرار محكمة البداءة، حيث اعتبرت ان سبب الرد وجود نص في العقد المبرم بين طرفي الدعوى، يقضي بضرورة حل الخلاف وديا قبل اللجوء الى القضاء، واعتبرت ان ذلك شرط أساسي يوجب رد الدعوى لإنها أقيمت قبل ان يتم اللجوء الى حل النزاع ودياً وبذلك تكون قد أقيمت قبل اوانها وعلى وفق ما ورد في قرار محكمة الاستئناف، ثم تم الطعن بقرار محكمة الاستئناف تمييزا، وأصدرت محكمة التمييز الاتحادية قرارها العدد 4549/هيئة استئنافية عقار/2023 في 21/12/2023 الذي قضت فيه نقض قرار محكمة الاستئناف، واعادت الدعوى اليها لتفصل في الموضوع، وتصدر قرارها الفاصل، لان السبب الذي اعتنقته في عقيدتها تجاه التأييد، لا سند له من القانون، حيث ان الشرط الذي تمسكت به محكمة الاستئناف، لا يرقى الى اعتباره شرطاً للتحكيم يمكن التمسك به في الجلسة الاولى، وانما فقط منح الخصوم ان يتبعوه او يذهبوا الى القضاء لفض النزاع الذي شجر بينهم.
ثانياً: الأسباب التي اعتنقتها محكمة الموضوع ومحاكم الطعون:
1. ان محكمة البداءة ذهبت الى رد الدعوى لإنها وجدت ان المدعي لا يستحق التعويض عن البناء الذي شيده، ولم تتطرق الى موضوع حسم النزاع الودي الذي ورد في العقد، مثلما اشارت اليه محكمة الاستئناف، وسوف لن اعرض لمناقشة هذا السبب الموضوعي الذي اعتنقته محكمة البداءة، لعدم التوفر على معلومات كافية عن وقائع الدعوى.
2. اما محكمة الاستئناف فأنها اعتنقت سبباً اخر واعتبرته مذهباً للحكم بتأييد قرار محكمة الموضوع من حيث النتيجة، حيث وجدت ان سبب الرد يجب ان يكون شكلياً وليس موضوعياً، وبعد تدقيها للعقد المبرم بين الطرفين اعتمدت على النص الوارد فيه الذي تضمن العبارة الاتية (يتم حل الخلافات المحتملة بين الطرفين ودياً، وبعكسه يتم اللجوء الى القضاء)، واعتبرت ان المقتضى القانوني يلزم المدعي (المستأنف) اللجوء الى حل الخلاف ودياً قبل اللجوء الى القضاء، وان اقامة الدعوى قبل فض النزاع ودياً، بمثابة إقامة الدعوى قبل اوانها، مما يوجب ردها، وهو ما قضت به.
3. اما محكمة التمييز الاتحادية فإنها اعتنقت سبباً يختلف عن الذي اعتنقته محكمة الاستئناف، فإنها لم تعتبر هذه العبارة (يتم حل الخلافات المحتملة بين الطرفين ودياً، وبعكسه يتم اللجوء الى القضاء) بمثابة شرط التحكيم الذي يلزم اللجوء اليه بموجب دفع من المدعى عليه في الجلسة الأولى وعلى وفق احكام المادة (253) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل التي جاء فيها الاتي (1- اذا اتفق الخصوم على التحكيم في نزاع ما فلا يجوز رفع الدعوى به امام القضاء الا بعد استنفاد طريق التحكيم. 2- ومع ذلك اذا لجا احد الطرفين الى رفع الدعوى دون اعتداد يشرط التحكيم ولم يعترض الطرف الاخر في الجلسة الاولى جاز نظر الدعوى واعتبر شرط التحكيم لاغياً. 3- اما اذا اعترض الخصم فتقرر المحكمة اعتبار الدعوى مستأخرة حتى يصدر قرار التحكيم)، ومن ثم لا يجوز لمحكمة الاستئناف ان ترد الدعوى لهذا السبب.
ثالثاً: مناقشة الأسباب التي اعتنقتها محاكم الطعن:
1. محكمة الاستئناف: ان اتجاه محكمة الاستئناف الى رد الدعوى من الناحية الشكلية لا يتفق وحكم القانون، لإنها اعتبرت الشرط الوارد في العقد (يتم حل الخلافات المحتملة بين الطرفين ودياً، وبعكسه يتم اللجوء الى القضاء)، هو مانع من إقامة الدعوى، ولم يرد في قرار الحكم الاستئنافي أي إشارة صريحة الى انها اعتبرته بمثابة شرط التحكيم، لكن هل يجوز لمحكمة الاستئناف ان ترد الدعوى لهذا السبب، لذلك سأعرض للموضوع على وفق الاتي:
‌أ. ان اعتبار هذا الشرط مانع من إقامة الدعوى قبل اللجوء اليه، لا يستند الى سند في القانون، لان المحاكم لها الولاية العامة للنظر في أي نزاع يعرض عليها وعلى وفق احكام المادة (29) من قانون المرافعات المدنية التي جاء فيها الاتي (تسري ولاية المحاكم المدنية على جميع الاشخاص الطبيعية والمعنوية بما في ذلك الحكومة وتختص بالفصل في كافة المنازعات الا ما استثنى بنص خاص)، وحيث لم يرد أي نص قانوني خاص يمنع المحكمة من النظر في النزاع ، سوى حالة وجود شرط التحكيم، وعلى وفق احكام المادة (253) من قانون المرافعات، وهذا الشرط لم يرد بشكل صريح، لكن قد يرى البعض ان محكمة الاستئناف اعتبرت هذا الشرط بمثابة شرط التحكيم حتى ولو لم تصرح به، الا انها عملت به ضمناً عندما قضت بعدم جواز إقامة الدعوى قبل حل الخلاف وفض النزاع ودياً، الا ان هذا القول ايضاً لا يسوغ للمحكمة ان تقضي بفسخ قرار محكمة البداءة ومن ثم رد الدعوى لإقامتها قبل اوانها،
‌ب. وعلى فرض توفر النزاع على شرط التحكيم، وتوفر شروط التمسك به، كان على المحكمة ان تقرر استئخار النظر في الدعوى وتحيل النزاع الى التحكيم، وعلى وفق احكام الفقرة (3) من المادة (253) من قانون المرافعات المدنية (اما اذا اعترض الخصم فتقرر المحكمة اعتبار الدعوى مستأخرة حتى يصدر قرار التحكيم)، وليس لها ان تقضي برد الدعوى، وهذا ما كان سبباً في اعتلال الحكم ومن ثم تعرضه الى النقض من محكمة التمييز الاتحادية.
‌ج. كذلك كان على المحكمة ان تنظر في توفر شروط اللجوء الى التحكيم، بان يتمسك به المدعى عليه حصراً في الجلسة الأولى، ورتب على ذلك اثر مفاده اعتبار شرط التحكيم او مشارطة التحكيم ملغى عند عدم طلب الإحالة الى التحكيم في الجلسة الأولى، ومن ثم تمضي المحكمة في نظر الدعوى، لأنه يعتبر بمثابة اسقاط لحقه في اللجوء الى التحكيم، وهذا يعد من الدفوع الشكلية التي يترتب على عدم مراعاتها سقوط الحق فيه، لكن نص المادة (253) مرافعات لم يرد فيه نص على ان الدفع يكون قبل أي دفع اخر، وانما في الجلسة الأولى، وهذا يمكن تفسيره على ان الدفع قد يكون في الجلسة الأولى ولكنه لم يكن قبل أي دفع اخر وانما يجوز الدفع به حتى لو قدمت قبله دفوع أخرى، وهذا منطوق النص الصريح، لان قانون المرافعات ذاته قد ورد فيه نص صريح بضرورة تقديم الدفع قبل أي دفع اخر عندما أشار الى الدفع ببطلان التبلغ بعريضة الدعوى وعلى وفق المادة (73/1) من قانون المرافعات،
‌د. لذلك كان على المحكمة ان تبحث في تمسك المدعى عليه بشرط التحكيم، وليس لها ان تحل محل في افتراض اللجوء الى التحكيم، فضلا عن ذلك فان حيثيات الحكم لم يرد فيها أي إشارة الى ان المدعى عليه قد تمسك باللجوء الى التحكيم.
2. محكمة التمييز الاتحادية: اما محكمة التمييز الاتحادية فأنها قد صححت مسار الدعوى عندما نقضت قرار محكمة الاستئناف واعادت الدعوى للنظر فيها موضوعاً والبحث بمدى استحقاق المدعي للمبالغ المطالب بها في عريضة الدعوى، لكن يلاحظ اتجاه في قراراها يتمثل في حصر وجود شرط التحكيم بصريح القول وليس باستعمال العبارات الرديفة، لإنها لم تعتبر العبارة الواردة في العقد (يتم حل الخلافات المحتملة بين الطرفين ودياً، وبعكسه يتم اللجوء الى القضاء)،
في فقه القانون فان التحكيم هو من وسائل فض النزاع ودياً، ويمكن سحب عبارة حل النزاع ودياً الى اعتباره بمثابة التحكيم، لان مهمة المحكم (هيئة التحكيم) تتجلى بفض النزاع بين الخصوم بشكل ودي وحيادي، وبأسرع وقت وبكلفة اقل، وهذه هي مهمة المحكم الأساسية، واللجوء إلى التحكيم يراد منه الوصول إلى حل النزاع مع الرغبة في المصالحة، والخصوم هم من يحدد مهمة المحكم بموجب الاتفاق الحاصل بينهم ابتدأ والمسمى (اتفاق التحكيم)،
ويرى احد الكتاب ان التحكيم إجراء خاص لحل الخلافات، وهو نظام لعدالة خاصة يسمح بسحب الاختصاص في حل نزاع معين من محاكم الدولة لإعطائه إلى أشخاص خواص، يختارهم من حيث المبدأ الأطراف أنفسهم أو يتم اختيارهم بمساعدتهم وهذا ما أشار اليه الدكتور احمد السيد الصاوي بكتابه الموسوم (التحكيم ـ طبعة القاهرة الثانية عام 2004 ـ دون ذكر دار النشر ـ ص129)،
لكن اتجاهات القضاء العراقي وفي اكثر من قرار يتجه نحو التضييق باللجوء الى التحكيم، ويفسر أي اتفاق لم يرد فيه صراحة القول بانه ليس بتحكيم.
رابعاً: الاثار المترتبة على قرار الاستئناف:
ان اهم اثر رتبه قرار محكمة الاستئناف في حال لم ينقض، يتمثل بامكانية إعادة النظر في النزاع بدعوى جديدة، لأنه رد الدعوى شكلا لإقامتها قبل اوانها، وعلى وفق ما ورد في قرار الحكم، بينما محكمة البداءة قد ذهبت الى رد الدعوى موضوعاً، وهذا يمنع من اقامتها مجدداً، لسبق الفصل فيها، والقرار يكسب حجية الامر المقضي فيه بموجب احكام المادة (105) من قانون الاثبات رقم 79 لسنة 1979.
الخلاصة: ومن خلال العرض والقراءة للأحكام محل البحث نجد ان محكمة الاستئناف قد اعتبرت وجود بند في العقد يشير الى حل النزاع بمثابة شرط التحكيم، وانها قد حلت محل المدعى عليه وعبرت عن ارادتها هي بدلا عن إرادة الخصم في اللجوء اليه، لان في كل حيثيات الاحكام التي صدرت بمناسبة هذا النزاع لم اجد أي إشارة الى طلب المدعى عليه باللجوء الى حل النزاع ودياً او اللجوء الى التحكيم، وهذا لا يجوز لان المحكمة ليس بطرف في الخصوم وانها ملزم باتخاذ الحياد وليس لها ان تنتصر لاي طرف من الأطراف، الا في الحالات التي منحها القانون سلطة وصلاحية في ذلك ومنها الخصومة فإنها بحكم القانون ان تقضي فيها برد الدعوى من جهة الخصومة دون طلب الخصوم على وفق احكام المادة (80/1) من قانون المرافعات المدنية.
قاضٍ متقاعد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!