مقالات

بين التوجيه والمراقبة.. كيف تقود الأم العراقية بناتها نحو

في أحد أحياء النجف القديمة، حيث تتشابك الأزقة الضيقة مع أصوات الباعة المتجولين، كانت (أم علي) تجلس مع ابنتها (زهراء) في زاوية من غرفتهم الصغيرة، تمسك بيدها كتابًا وتهمس لها بكلمات تملأها حكمة وحنوًا. لم تكن مجرد أم عادية، بل كانت حارسة لابنتها، تراقب خطواتها وتوجهها بخبرة سنوات من الحياة.
لم تكن (أم علي) تعتمد على الأوامر الجافة في توعية ابنتها، بل كانت تعلمها من خلال أفعالها. حين كانت ترفض النميمة، كانت تقول لزهراء : (أبنتي، لسانكِ كنزكِ، فاحفظيه من الكلام الفارغ.) وحين كانت تساعد جارتهم العجوز، كانت تشرح لابنتها أن (المرأة القوية هي التي تمد يد العون دون انتظار مقابل.)
ذات يوم، سمعت زهراء بعض زميلاتها في المدرسة يتحدثن عن عادات لم تعتاد عليها، فعادت إلى بيتها حائرة. بدل أن توبخها أمها أو تمنعها من الخروج، جلست معها وسألتها: (ما الذي يقلقكِ يا زهراء ؟) فتحت الفتاة قلبها، وبدأت الأم تحكي لها عن تجارب نساء عراقيات كنّ يواجهن تحديات مشابهة، وكيف أن الوعي والثقة بالنفس هما ما أنقذهن من الضياع.
لم تكن (أم علي) تفرض رقابة صارمة على ابنتها كالسجانة، بل كانت تراقبها من بعيد، كالطائر الذي يحوم حول فراخه ليحميها دون أن يشعرها بالخوف. حين لاحظت أن زهراء بدأت تقضي وقتًا طويلًا على الهاتف، لم تصادر الجهاز، بل دخلت معها في حوار: (أبنتي، هذه التقنية سلاح ذو حدين، فأحسني استخدامه). وعلمتها كيف تفرق بين الصالح والطالح في عالم الإنترنت.
وفي مرة أخرى، عندما طلبت زهرة الذهاب إلى حفل زفاف إحدى قريباتها، وافق والدها بشرط أن ترافقها أمها. هناك، لاحظت (أم علي) نظرات بعض الشباب إلى الفتيات، فلم تمنع ابنتها من البقاء، بل همست في أذنها: (احفظي جمالكِ لنفسكِ، ولا تجعليه سلعة للناظرين.) كانت كلماتها كالسور الذي يحمي زهراء دون أن يشعرها بأنها سجينة.
كبرت زهراء، وأصبحت شابة واعية، تعرف كيف تحمي نفسها دون أن تفقد ثقتها بالعالم من حولها. لم تكن أمها قد ملأت رأسها بالممنوعات، بل تهديها كيف تفكر وتختار. في يوم من الأيام، سألتها إحدى الصديقات: (كيف تكونين بهذه الثقة ولا تخافين من الخطأ؟ ) فأجابت زهراء: (لأن أمي علمتني أن الخوف ليس الحل، بل الوعي هو الذي يصنع الفرق ).
اليوم، (أم علي) ليست مجرد قصة عابرة، بل نموذج للأم العراقية التي تجمع بين الحكمة والحنان في تربية بناتها. فهي لا تكتفي بمراقبتهن، بل تزرع فيهن الوعي الذي يجعل المراقبة الذاتية أقوى من أي رقابة خارجية.
وختامًا، ليست التربية مجرد توجيهات وأوامر، بل هي بناء جسر من الثقة بين الأم وابنتها. والأم العراقية، بكل ما تحمله من تراث وتحديات، تظل حارسة لقيم لا تندثر، تربي بناتها على أن يكنَّ أقوياء، واعيات، وقادرات على مواجهة العالم بثبات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!