العلاقة بين المسيحية والأديان الأخرى
الكاتب: وردا اسحاق
العلاقة بين المسيحية والأديان الأخرى
بقلم / وردا أسحاق قلّو
أكثر المسيحيون يؤمنون بأن الخلاص هو بالمسيح وحده ، وهو النافدة الوحيدة إلى الله ، وليس بغيره الخلاص ، فهل هذا يعني بأن الله بعيد عن مؤمني الأديان والمعتقدات الأخرى ؟ منذ العهد القديم عندما كان اليهود يظنون بأن الخلاص هو لهم وحدهم ، وهم شعب الله المختار ، كان الله يمد يد الرحمة للشعوب الوثنية كشعب نينوى ، كما يوحي العهد القديم إلى أنفتاح مذهل على الشعوب الأخرى في ما بين النهرين وغيرها . وكذلك شملت محبة ورحمة المسيح في حياته على الأرض أناس أممين كالكنعانين والسامرين وغيرهم ، فعلينا أن نتعلم من أن الكتاب المقدس يحتوي على أجوبة العديد من الأسئلة الدقيقة التي تطرح دائماً في إطار الحوار بين المسيحية ومؤمني المعتقدات الأخرى . وهذا ما يدفعنا إلى التقارب والحوار مع شعوب الأديان الأخرى بمد جسور المحبة بيننا والأنخراط بحوار مشترك نصل فيه إلى دراسة الأفكار العميقة حول الأمور اللاهوتية والمواقف الروحية التي لا بد منها للقيام بمثل هذا الحوار .
منذ بدء المسيحية أراد بعض المؤمنين التقوقع على أفكارهم القديمة الموروثة من اليهودية ، فحاولوا إرغام الوثنيين المنتمين إلى المسيحية أن يحفظوا الشريعة ويختنوا كاليهود ، رافضين الأنفتاح مع الأمم ، فتم عقد مجمع أورشليم ( أع 15 ) من أجل حل هذه المشكلة ، هكذا اليوم يرفض البعض العمل مع أبناء الديانات الأخرى بمحبة وتآلف وأحترام والعيش المشترك ، وكذلك من أجل أيصال نور الأنجيل إليهم .علماً بأن التعددية الدينية لا تتطلب من المسيحي أن يتخلى عن شهادته للمسيح في سبيل أحترام الآخر والتعامل معه . فكل من لديه الأفضل ، هو الذي يسهم في أغناء الجماعات الأخرى وبروح التواضع والأحترام مع الأستعداد للأصغاء إلى الرأي الآخر . لماذا الخوف إذا كان نور عقيدنا أقوى علماً بأن المسيحانية هي الموضوع الأساسي في علاقة المسيحي مع أبناء الأديان والمعتقدات الأخرى .
المطلوب من كل مسيحي هو أن الألنزام بالمسيح والأقتداء به ، وفي الوقت نفسه ينفتح على شهادة الآخرين بفرح وثقة ، ومن واجبه أن يعمل مع الآخر لكي ينوره بأفكاره وإيمانه وأخلاقه وصدقه ، لأننا نحن المسيحيون نور العالم . فعلينا أن لا نخفي النور بل أن نعرضه للعالم . وهكذا بالنسبة إلى الكنيسة بشكل عام مدعوة إلى التعامل مع التعددية الدينية بطرق لاهوتية تؤول إلى فهم أعمق لعقائد الأديان بالتحاور المستمر والعمل على تعزيز العلاقة معاً بمحبة . لا يوجد في اللاهوت المسيحي العداء ، أو اللامبالاة تجاه الأديان الأخرى ، وخاصةً في هذا العصر ، لأن الأساليب التي أنتهجتها الكنيسة قديماً عندما كانت تنتقل مع حكومات بلدانها المستعمرة من أجل التبشير ، كان يفسر الدين من قبل تلك الشعوب ديناً ظالماً لأنه قادم مع المستعمر ، أي فرض عليهم بقوة السيف . أما اليوم فالطريقة تغيرت ، والخبرة الجديدة لا يجوز نقلها إلى الآخرين بتلك الزقاق القديمة ، بل بزقاق جديدة .
الله واحد لجميع الأمم وصفات الله الحقيقي ومبادئه ووصاياه للبشرية واحد ، أنه يحب الجميع ، لهذا نرى في الفصول الأولى من الكتاب المقدس بأن الله لا يتحدث عن أية جماعة مفضلة أو مختارة ، بل يتحدث عن عائلة بشرية واحدة منحدرة من آدم وحواء ، وكل أنسان خلقه الله على صورته ومثاله ويريد الخلاص للجميع . وحب الله للأنسان هو بدون شروط ويريد الخلاص للجميع ، ولأجل حبه لنا يدعونا إلى الأقلاع عن حياة تتمحور حول الذات والدخول في نمط عيش محوره حب الله بأشتراكنا مع الآخر بمحبة والعيش المشترك .
الكثير من المسيحين لا يرضون الأهتمام بالمسلم والبوذي واليهودي والهندوسي وغيرهم ، فيفضلون العيش المنعزل ، ولا يريدون الحوار معهم أو الأقتراب منهم لقناعتهم بأن عقائدهم باطلة ، وتعليم الأنجيل واضحة للخلاص ، تختصر بقول الرب ( لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي ) و( لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ ) وغيرها من الأقوال التي تخص بالخلاص بالمسيح وحده ، أما الله كثالوث فألقوه جانباً ، وأخفقت المسيحية أقله في وجهها التبشيري البروتستنتي في إيجاد قاعدة للتع-اط*ي مع الشعوب التي تحيا في إيمان آخر وكل ما يمكن القيام به لأجل خلاصهم هو دعوتهم إلى قبول المسيح رباً وسيداً . ، فتقتصر العلاقة آنذاك على المجال التبشري دون سواه . لكن هذا الموقف الصلب والصعب على الشعوب الأخرى يتعارض مع مجمل تعاليم الكتاب المقدس ، لأن الله هو محور رسالته ، وفي الله يجد كل إنسان كيانه ، والله سيدين غير المسيحي على أساس شريعته ( طالع روم 2 ) . فمن يطبق شريعة الناموس كما يريد الله فلماذا لا يدخله الله في ملكوته ، قال الرب ( وستأتي أناس من الشرق والغرب ، ومن الشمال والجنوب ، ويتكئون في ملكوت الله ) ” لو 29:13″ .
أجل الكثير من البروتستانت لا يعير لله أو لعقيدة الثالوث إلا أهتماماً صورياً ، فمحبتهم تتركز بشخص المسيح فقط ، نعم المسيح هو الطريق الأقصر للخلاص ، لكنه علمنا أيضاً بأن نتكل على الله الآب أيضاً ، فعلمنا صلاة الأبانا التي تحثنا إلى محبة الله الآب ، كما أرسل لنا الروح القدس لكي يقودنا إلى الله . فلنتعامل مع الآخر بأسم الله بدلاً من المسيح ، علماً بأن اللاهوت بشكل عام يتمحور حول الله كثالوث وليس كأقنوم ، هكذا يتيح للمسيحيين المجال للوقوف إلى جانب مؤمني الأديان الأخرى كأبناء الله الواحد من دون أن ينكر المسيحي شهادته بالمسيح وأنجيله .
فالتعددية الدينية لا تجبر المرء أن يتخلى من مبادئه المسيحية ، فرسالة الكنيسة هي ( الكتاب المقدس ) والذي يتركز على رسالة واحدة شاملة ، وهي رسالة الله لكل أنسان ، وتتوخى خلاص الجميع . وكل الرسائل الأخرى في المسيحية تجد نفسها ضمن تلك الرسالة ، كالشهادة للمسيح ، وعمل الرحمة التي يقوم بها المسيحي من أجل خدمة الآخر ، والتعاطف مع المنكوبين ، والمظلومين ، والمشردين من الأديان الأخرى وغير ذلك هي قسم من رسالة الله التي لا تعرف لها حدوداً ، والكنيسة تكتشف من جديد دورها كجماعة خادمة للجميع ، لا كجماعة تدين الآخرين . كل معتقد يفهم الله بطريقته . المسلم يفهمه بطريقته ، والهندوسي يتوجه نحو الله بطريقة أخرى مغايرة ، أما في البوذي فنجد نكران الذات من أجل الخلاص ، والأيزدي يعبد الله بطريقة أخرى وقد تكون تعاليم إلهه أكثر رحمة وسلام ومحبة من إله الكثيرين ، وللهندوسي مفهوم خاص للواقع البشري يختلف كلياً ، إذ إنهم يستعملون مفاهيم خاصة بهم ( كالولادة الجديدة ) وتطورات دورة الحياة ، فكيف يمكن أن يتجسد ( الخبر السار ) داخل تقاليدهم ؟ كيف يمكنهم فهم رسالة الأنجيل ؟ إنهم يقبلون المسيح كمعلم كبير ، وكقدوة وقديس … الخ . يجب أن لا نفرض عليهم شروطنا . لندع المسيح يكون لهم ما يكون . لأن طريقة فرض الأنجيل كجزء لا يتجزأ من تبشيرنا يدخل في مجال فرض الديانة على الآخر ، وهذا كان السبب الذي حال دون إعتناق المهاتماغاندي للمسيحية كديانة ، رغم أنه قد تعلم منها الصدق والفضائل الأخرى . كما أعترف وقال عن المسيح ( إنه قدم نفسه ضحية من أجل مصلحة الآخرين بما في ذلك أعدائه ، وأصبح فدية عن العالم لقد كان مثالياً ) . الهندوسيون يشعرون بالتتلمذ للمسيح إذ في ود الكثيرين أن يقبلوه علانية ، كما أنهم يرون بأنهم غير ملزمين بالتتلمذ للمسيح علناً ، أي يكفي أيمان القلب .
أما شيخ الأزهر أحمد الطيب ، فقال على قناة النيل المصرية ( أنه تأثر بعظة المسيح على الجبل ، إنها موعظة جميلة ورقيقة ، وأنا أحياناً أتغنى بها وتدمع عيناي ) . المسلمون يؤمنون بأن المسيح هو من كبار الأنبياء وهو من روح الله ، ويصفون المسيحية هي الأقرب إلى دينه ، لكنهم يحتاجون إلى حرية إبداء الرأي لأعلان إيمانهم دون أن يمسوا بأذى من أتباعهم .
فالحوار والعلاقة بين المسيحية والأديان الأخرى هو الهدف المطلوب في الكتاب المقدس وعلى المسيحي أن يحب الجميع ويعمل لخدمتهم لكي تتجلى في أعماله المحبة والرحمة للغريب ( طالع مثل السامري الصالح ) . وحتى عندما نبشر الأمم بالمسيح في الفضائيات وغيرها من الوسائل الحديثة يجب أن نحاورهم بكل محبة وأحترام دون أن نطعن بما لديهم بل أن نعرض ما لدينا بوضوح ومحاورتهم بالأدلة والبراهين وبأسلوب حضاري والأحترام للآخر.
في النهاية نقول : كل الأديان تبحث عن الحق . فبوذا قال في نهاية حياته : لا زلت أبحث عن الحق . أما محمد نبي الأسلام فقال عن المسيح ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) . و(حتى الوثنيون الذين بلا شريعة فيبدون بآرائهم عن الحق حسب الشريعة المكتوبة في قلوبهم ، وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم في داخلهم ..) ” روم 2: 14-15″
أما يسوع فقال عن الحق ( أنا هو الطريق والحق والحياة ) ” يو 6:14″
وهكذا بالحوار تتقارب الآراء وتزيد العلاقة والمحبة ، ومن خلال الحوار يحصل التبشير بكل محبة . علاقة الله بالأنسان هي علاقة حب من دون شروط ، وليس بالأمكان أن تكون بالفرض والقوة والتهديد ، لأن الحب هو عمق كيان الله ، والله كله محبة ، وهكذا يجب أن تكون العلاقة بين أنسان وأخيه الأنسان مهما كان معتقده ، ونور الكتاب المقدس يضىء الطريق أمام المسيحين للعيش مع أبناء كل الأديان والمعتقدات . في الكتاب المقدس تعليمات ووصايا تدعو إلى الأنفتاح وقبول وتحمل الآخر ، كما يعلمنا سبل التعامل مع الجميع ، فتعليمه يحررنا من ذواتنا لنتمكن من العيش معاً كجماعة بشرية متوحدة تبحث عن الحق والحق سيحرر كل من يبحث عنه . ولله المحب للجميع كل المجد دائماً .