آراء متنوعة

من يقرأ المسرح، من يفتح الستار؟!!

من يقرأ المسرح، من يفتح الستار؟!!

اشارة تحريضية / شوقي كريم حسن

في وقتٍ صارت فيه القراءة نفسها فعلاً نادراً، يبدو أن قراءة المسرح باتت من الطقوس المنقرضة. لم يعد نص المسرحية يُتداول بين أيدي القرّاء، ولم تعد المكتبات تهتم كثيراً بعرض كتب المسرح على واجهاتها. لماذا؟!
هل لأن المسرح أصبح فنّاً مغلقاً، يعكس ذاته أكثر مما يعكس هموم الناس؟ هل لأن اللغة المسرحية تسربلت بالتنظير والتجريب حتى فقدت حرارتها الإنسانية؟
أم أن العروض المسرحية نفسها، صارت حبيسة النخبة، موجّهة إلى لجان التحكيم أكثر من توجّهها إلى المتلقي الحقيقي؟ نقف اليوم أمام مشهد مزدوج الغربة: القارئ غائب، والمسرحي يكتب لما لا يُقرأ. وبين الاثنين، ستارٌ مسدَلٌ لا أحد يجرؤ على رفعه. فكيف وصلنا إلى هذه العتمة؟
وكيف تحوّل المسرح، الذي وُلد في الساحات، إلى فنٍ خجولٍ يتوسل الجوائز، ويبتعد عن صخَب الناس وهمومهم؟
وهل يمكن أن يُعاد فتح الستار مرة أخرى… لا لنُبهر النقّاد، بل لنُحرّك شيئاً في وجدان المتفرّج؟!!
في جوهر المسألة، لم تعد العلاقة بين المسرح وجمهوره علاقة عضوية. المسرح الذي كان في يومٍ ما “ديوان العرب” الجديد، أو فضاءً للصراع الرمزي والاجتماعي، بات اليوم أقرب إلى منشور تجريبي محصور في جدران المهرجانات. النصوص تُكتب لا لتُقرأ، ولا حتى لتُعرض بمعناها الحي، بل لتُقيَّم من قبل لجان نخبوية، لا تسأل سوى: كم من التكسير اللغوي أنجز الكاتب؟ وكم مرة انقلب المخرج على قوانين السرد؟ وكم بدا العرض “حداثياً” حتى لو خلا من الحياة؟
هنا تتشكّل الأزمة. المسرح الحقيقي يُبنى على التواطؤ العاطفي والفكري مع الجمهور، لا على استعراض العضلات التقنية أو ركوب موجة “ما بعد كل شيء”. عندما ينفصل المسرح عن المتلقي، يفقد بوصلة وجوده، ويتحوّل من منصة للحوار إلى منصة للخطابة، لا يسمعها أحد. أما المتلقي، فقصته أكثر ألماً. حين يبحث عن كتاب مسرحي، يجد نفسه أمام نصوصٍ جافة، مكتوبة بلغة نُخبوية، تُعاني من انتفاخ مفاهيمي، أو من اختزال درامي شديد يجعل القراءة كمن يتعقب شبحاً لا يظهر كاملاً أبداً. لا شخصيات تُلامس، لا صراع يُحرّك الخيال، لا بناء درامي يُشبع الحاجة الإنسانية إلى القصّ. المفارقة أن المسرح العربي الحديث بدأ برغبةٍ عارمة في “مخاطبة الناس”، لكنه ما لبث أن تراجع، شيئاً فشيئاً، تحت وطأة المهرجانات، ومعايير الجوائز، وتطاول الزمن دون تحديث حقيقي للصلة بالجمهور. أصبح المسرحي يكتب، لا ليُغيّر أو يُلامس أو يُضيء، بل ليُدرَج على قائمة المشاركات الرسمية، ويُعلّق في ردهة التكريمات. من يقرأ المسرح إذن؟
المتلقي لم يعد يجد نفسه فيه.
لا يجد من يتحدث إليه. والمسرحي، في كثير من الحالات، فقد شغفه الحقيقي بالمسرح، واستبدله بشغف الاعتراف الرمزي أو الجائزة الشكلية لكن، رغم هذا المشهد القاتم، يبقى هناك ما يُمكن فعله!!
الستار لم يُغلق إلى الأبد. ما زالت هناك أصوات تحاول، بشغفٍ صادق، أن تُعيد للمسرح مكانته كفنّ حي، نابض، متصل بالشارع والإنسان واللحظة. لكن هذه المحاولات غالباً ما تُحاصر، إمّا بالتهميش أو الإقصاء أو خنقها ببيروقراطيات الدعم والتمويل، التي تحوّل المسرح إلى مشروع تقني لا مشروع روحي وفكري. إن استعادة المسرح تبدأ من استعادة جرأته الأولى: أن يُخاطب الناس بلغتهم، لا بلغة المهرجانات. أن يعيد الاعتبار للنص الحي، القابل للقراءة كما هو قابل للعرض. أن يتخلّى عن عُقد التجريب المحض، ويعود إلى الاشتباك مع الواقع، لا بوصفه “موضوعاً” يُستغل، بل بوصفه أرضية تُشعل الشرارة الدرامية. والأهم من كل هذا: أن يُعيد المسرحي اكتشاف المتلقي، لا كمجرد “متفرّج”، بل كشريك، كصوتٍ مكمّل، كجزءٍ من اللعبة المسرحية نفسها. حين يعود النص المسرحي ليُكتب ليُقرأ، لا ليُعرض فقط، وحين تعود العروض لتُعرض لتُشاهَد، لا لتُقيَّم فقط، يمكن عندها أن يُفتح الستار من جديد، لا ليكشف عن مشهد مُغلق، بل عن حياة.
ولربما، آنذاك، يعود أحدهم لقراءة نصٍ مسرحي، لا لأنه “واجب ثقافي”، بل لأنه وجد فيه ما يخصّه، ما يعكس هشاشته، غضبه، فرحه، قلقه، ضحكته، وسؤاله الحائر. في النهاية، المسرح ليس هو النص، ولا هو العرض، ولا هو الخشبة. المسرح هو هذا اللقاء الحميمي بين كاتبٍ يصدق، وممثلٍ يتنفس، وجمهورٍ يرى نفسه فجأة، بلا مرآة…فمن يقرأ المسرح؟
من يفتح الستار؟
كل من لا يزال يؤمن بأن الفن ليس زينة، بل ضرورة.!!.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!