كتاب وقهوة.. و"لفة فلافل"
شكلت سنوات السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم مفصلا مهما من مفاصل الثقافة ليس في العراق وحده، وإنما على مستوى الوطن العربي كله، إذ كان العراق يزخر بأفضل الأدباء من شعراء وروائيين ومفكرين، والذين كان أغلبهم يتخذون المقاهي مقرات لهم، يقضون فيها ساعات طوال، ما بين نقاشات لأهم مستجدات المدارس الأدبية الحديثة بين مؤيد ورافض، فضلا عن السياسة التي كانت تشكل قوتهم اليومي، كانت النقاشات تحتدم مع أصوات لعبة الدومينو والطاولة.
كان الكثير من هؤلاء الكتاب والمثقفين من الطبقات المعدمة، والذين اتخذوا السياسة عقيدة على أمل أن تنتشل وطنهم الذي عشقوه من واقعهِ المرير، وتحقق حلمهم بالعدالة الاجتماعية للجميع. وأغلب هؤلاء ينتمون الى الحزب الشيوعي، الذي بات كالمارد المرعب للطغمة الحاكمة، يتوجس منهم خيفةً، ويحسب لهم ألف حساب.
وعلى الرغم من تنكيل الاجهزة الأمنية بهم، وكثرة الاعتقالات في صفوفهم، والأعدام أو التغييب الذي يتربص بهم، ظلت هذه الطبقة متمسكة بعقيدتها، مؤمنة بأنه الطريق إلى الخلاص، متحدية ذلك الترهيب بشجاعة وإصرار عجيب. كان موقفهم وإيمانهم بمبادئهم يعجبني كثيرا ،على الرغم من أن السياسة لم تكن تعني لي شيئا .
من جملة هؤلاء المثقفين ،الذي ظل عالقا بذاكرتي شخص معين، أثر في شخصيتي كثيرا ، إسمه الشاعر ناظم ، كان يسكن أحد أحياء بغداد القديمة، ومن الشخصيات المثقفة جدا ، على الرغم من هندامه البسيط وشكله المتعب وشعره المنكوش وأسنانه التي غطتها التكلسات بسبب السجائر الرخيصة التي كان يدخنها دون توقف .
كان مكانه المفضل مثله مثل الكثير من أقرانه الأدباء والمفكرين في عقد الثمانينات ، في “مقهى ام كلثوم” الكائن بساحة الميدان في نهاية شارع الرشيد ، يجلس منزويا بأحد أركانه، ينثر أوراقه على الطاولة، ويبدأ بالكتابة، أحيانا يبقى يقرأ الكتب لساعات طويلة، كان الكتاب لا يكاد يفارقه، وكأنه جزء من يده .
كان” ناظم”مدمناً على ثلاثة أشياء هي، الكتاب والقهوة “ولفة الفلافل”، حيث يبعث صانع المقهى “عبود” حينما يشعر بالجوع ليشتري له سندويش من مطعم صغير قرب المقهى يدعى “فلافل وانت ماشي” يحتوي على ثلاث حبات فلافل وقليل من الخيار والطماطم وعمبة كانت احياناً تتساقط على ملابسه .
كانت معرفتي بناظم الذي يكبرني بضعة أعوام ، منذ عدة سنوات، وذلك بحكم ارتيادي للمقهى ، اجلس معه ساعات طويلة، يطلق خلالها قفشات مضحكة للخروج من الاجواء الجادة ، فيما استمع إليه واستمتع بحديثه وتحليله للأحداث، ونظرته إلى الحياة التي لم تكن منصفة معه ومع زملائه من المثقفين الحقيقيين.
حديثه ينم عن ثقافة واسعة، وعلى الرغم من ضآلة هيئته التي توحي لمن لا يعرفه بأنه متسكع لا هدف له بالحياة ، إلا أنه يمثل لي قامة ادبية كبيرة .. عندما كان يرى أو يسمع ثنائي وإعجابي به يرد بتواضعه المعهود: لا ياصديقي هنالك كُتاب بمستواي وافضل مني ، وهنالك آلاف من الادباء والشعراء الذين دُفِنت عقولهم بسبب حياة الفقر وضيق ذات اليد، هكذا حال كل من يعيش في بلد يرزح تحت نير الاستبداد والطغيان، هو لا يقدر مواهبنا، لا بل على العكس من ذلك فأنه يحاربها بشتى الطرق.
إن الذي ينجح بهذا الوطن ويعلو شأنه هم الأغنياء وماسحي الاكتاف والمتملقين، ويستدرك قائلا : تصور انني أكتب نصوصا واسجلها باسم احدى الكاتبات المعروفات التي تجهل الكثير من الأدبيات ، مقابل مبلغ ضئيل استطيع من خلاله تمشية اموري والعيش والجلوس في المقهى، لكي اقرأ واشرب القهوة وأتناول لفة الفلافل؟! تصور يا صديقي إبداعي كله مقابل هذه الأشياء التي يظنها البعض تافهة لكنها تعني لي الشيء الكثير.
كنت احرص على حضور تلك اللقاءات وشرب الشاي معاً في المقهى حتى في اعلى درجات الحرارة التي تصل بالصيف الى 50 درجة مئوية، ولكن كنا نستمتع باحتسائه ومواصلة الأحاديث التي تثير شجوننا الأدبية .
يحدثني عن مفاهيم الحزب الشيوعي ومعتقداته، يسترسل بالحديث عن افكار ومبادىء ومواقف مؤسس الحزب الشيوعي في العراق يوسف سلمان يوسف ،ويبدي إعجابه الشديد بالأب الروحي للنظرية الشيوعية كارل ماركس.
اما انا فلم اكن اهتم بالأحزاب ولا بهذه الأسماء بقدر ما كنت مهتما بمحاولاتي الكتابية والاستفادة من النقاشات الأدبية، ومن كتابات صديقي وأفكاره العميقة المعبرة التي أنهل منها، كنت اقرا ما يكتب في أوراقه المبعثرة التي يخرجها من حقيبته المتهرئة، لا تفوتني اي قصاصة منها، اتلقفها وكأنها كنز ثمين ألقيَّ بين يديّ.
في احد الايام ذهبت صباحاً الى مكاني المعتاد في المقهى لكنني تفاجأت بغياب صديقي ناظم ، سالت عنه صاحب المقهى “ابو رزاق” فكان رده بان لا علم له عن سبب غيابه .
مر اسبوع ولم ياتِ ناظم… ساورني القلق وقررت ان اذهب الى بيته في منطقة الكفاح، اذ سبق وان دعاني إلى غداء بسيط بمناسبة طهور ابن أخيه ، وحينما وصلت طرقت الباب، وإذا بأمه تفتح لي ،نظرتْ إليّ بعينين حزينتين ووجه شاحب ، وحينما سألتها عن “ناظم” قالت يمة ” ناظم اخذوا الأمن”… وعندما سالتها عن السبب قالت : “گالوا ابنچ شيوعي” واني كل يوم انطر على الباب بلكي يرجع” .. أيقنتُ حينها إنه لن يعود يوما ، وسوف تبقى هذه الأم الثكلى تنتظرُ من لا يأتي… تنتظر عودة ولدها، لكن دون جدوى .
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.