مقالات

العقل الباطن

في أقصى شمال السويد، حيث لا شيء يُسمَع سوى صرير الثلج تحت الأقدام وأنفاس الريح التي تجوب الغابات الصامتة، كان هاشم يعيش وحده في بيت خشبي صغير. بلغ الخامسة والخمسين، لكنه بدا أكبر من عمره بسنوات، ليس من تعب الجسد، بل من أثقال الذاكرة.

هاشم الذي جاب طريق المنفى منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، لم يأتِ من مدينة كبيرة أو عاصمة صاخبة، بل من قلب الأهوار، من قضاء الجبايش في الجنوب العراقي، حيث الماء والقصب، والصمت العميق، وحكايات الجدات التي كانت تُروى على ضوء فانوس خافت في ليالٍ بلا كهرباء.

كان يردد دومًا: “أحِنّ حتى للطين الذي كان يلتصق بنعالي هناك.”
لكن المدينة التي استقبلته في شمال أوروبا لم تكن تعرف الطين، ولا الرطوبة، ولا اللهجة التي اعتاد أن ينادي بها أصدقاء طفولته.

في ذلك الصباح الشتوي، انقطعت الكهرباء عن المنزل فجأة. لم يكن الأمر شائعًا، فالسويد بلد لا ينسى الكهرباء. لكن ما حدث تلك اللحظة كان كافيًا ليوقظ داخله شيئًا غائرًا، غائبًا، كأن الباب فُتح فجأة على زمن آخر.

هبَّ من مكانه، صرخ من دون أن يشعر:
“هاي شلون وياك عبيد؟!”

كانت الجملة باللهجة الجنوبية العراقية، و”عبيد” لم يكن أحد جيرانه في السويد، بل عاملًا بسيطًا كان في الجبايش مسؤولًا عن تشغيل المولدة التي كانت تنير بيوت الناس ست ساعاتٍ فقط في الليل. كان هو من يقرر متى تُضاء البيوت ومتى تعود إلى الظلام.

ضحك هاشم بصوت عالٍ، كأن عبيد ما زال واقفًا أمامه يرتدي دشداشة قديمة، ثم فجأة… انهار بالبكاء.

دقائق مرت قبل أن يدخل ابنه، الطبيب الذي يعمل في مشفى بجنوب البلاد، جاء في زيارة قصيرة للاطمئنان. وجد والده جالسًا في عتمة خفيفة، يضحك ويبكي معًا، فسأله بقلق:
“بابا، شنو صاير؟!”

مسح هاشم دموعه، ابتسم بمرارة، ثم قال:
“مع الأسف صرت أنس… يمكن هذا الزهايمر مثل ما يقولون…”

ضحك الابن وربت على كتف والده بلطف:
“لا يا أبي، هذا مو زهايمر… هذا هو العقل الباطن.”

سكنت الغرفة للحظة. نظر هاشم في عيني ابنه، وكأنه يسمع الكلمة للمرة الأولى.

تابع الابن حديثه:
“العقل الباطن هو ذاك الجزء من وعينا اللي ما نشعر بيه، بس يظل يخزن كل شيء نمر بيه… الذكريات، الأصوات، الروائح، حتى لهجتنا وأصدقائنا. يوم تصير صدمة صغيرة – مثل انقطاع الكهرباء – ينفتح باب من هالأبواب، ونرجع نعيش اللحظة وكأنها صارت هسه.”

كان هاشم يصغي، يبتسم بهدوء، كأنه يتذوق الكلمة أكثر من سماعها.

أردف الابن:
“هاي مو حالة مرضية… هذا حنين. الحنين مو بس شعور، هو ذاكرة متغلغلة داخل دماغنا، والإنسان مهما عاش برا يبقى داخله طفل مربوط بأول مكان شاف فيه الضوء.”

تنهد هاشم، وقال بصوت متهدج:
“أنا عبالي نسيت، بس يمكن ما نسيت… يمكن الوطن ما يطلع من الروح، حتى لو طلعنا منه.”

في تلك اللحظة، لم يكن في البيت نور، لكن القلوب كانت مضيئة بوهج الكلام.
جلس الاثنان صامتين. خارج النافذة، كان الثلج يهطل بهدوء، يغطي العالم بلونه الأبيض. أما في الداخل، فقد عاد الضوء من جديد، لكن ليس من الكهرباء، بل من ذاك الدفء الذي لا يُولد إلا حين يلتقي الإنسان مع نفسه التي خبأها طويلاً في أعماق عقله الباطن.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!