مقالات دينية

صلاة من وحي الزلزال

صلاة من وحي الزلزال

إعداد / جورج حنا شكرو

صلاة من وحي الزلزال

 يا إلهنا القادر على كلّ شيء. يا خالق السموات والأرض بكلمته. يا من يأمر البحر فيطيعه، والرياح فتهدأ بكلمة منه. يا غالب الموت وواهب الحياة. إنّنا نرنو إليك اليوم بقلوب مكسورة وأذهان قاتمة من جرّاء ما حصل في الأيّام الأخيرة، راجين منك رحمةً وافرة وعزاء حقيقيّاً. فأنت وحدك منبع العزاء في هذه الدنيا المتعِبة والمتعَبَة، فهلّا منحتنا بعضاً منها. يا إلهنا العارف بضعف جبلتك البشريّة هلّا سمحت لنا بمخاطبتك بما يعترينا من أسئلة وحيرة وقلق.
يتساءل الكثيرون اليوم، من جرّاء تعبهم، لماذا لا توقف الشرور المتنوّعة المحدقة بنا، بما أنّك وحدك القادر على ذلك. إنّهم ينتظرون إشارة منك. أعلم يا ربّ أنّ الكثيرين نسوا أنّهم يعيشون في عالم ساقط ولم يبلغوا ملكوتك السماوي بعد. لكن ثمّة من ينبري ليلعب دور المحامي عنك، ويجيبهم بأنّ الذي حصل إنّما غضب منك ورغبة في تأديب البشر ومعاقبتهم على خطاياهم. فيحيّرهم ويزيد من تعبهم، ويتساءلون في دواخلهم كيف تتساوى صورة الإله الذي، من أجلنا، صار إنساناً ومات على الصليب متألماً، مع صورة الإله المنتقم والمؤدِّب بقساوة.
لا أعلم يا ربّي لماذا يفوت أتباعك التمييز بين الخطايا الشخصيّة وعالم الخطيئة الذي يعيشون فيه. نحن نؤمن كما علّمتنا أنّنا بعد سقوط جدّينا من فردوسك، وصيرورتهم تحت سلطة العالم الخاطئ بكلّ تبعاته الشرّيرة، صاروا ونسلهم بحاجة إلى مخلّص. ولأنّك خلقت الإنسان لتكون له حياة، ولتكون لهم أوفر، ما بخلت بذاتك، فصرت إنساناً مثلنا ما خلا الخطيئة، و”نصبت خيمتك في حيّنا”، وشاركتنا الآلام حتّى الموت، ومن ثمّ قمت ومنحتنا طاقة القيامة بك.
نحن إذن نحيا في عالم خاطئ، ورسالتنا أن نحارب الخطيئة في ذواتنا أولاً، لأنّنا بمقدار ما نسمو عليها نحدّ من خطيئة العالم، والعكس صحيح. عالم الخطيئة فيه كلّ أنواع الشرور: تلك الآتية من الطبيعة التي لم تستقرّ بعد، وتلك التي من صنع البشر أيضاً، وما أكثرها.
وإذا ما أحسسنا بأنّ الكارثة توقظنا من تهاون أو كسل أو تراخٍ لنحارب الشرور التي بداخلنا أولاً، ونتحرّر منها بشكل أفعل وأشدّ، فهذا لا يعني أنّنا نعزو ما حدث إلى عقابٍ منك وقصاص. نحن تلاميذك يجب أن نقرأ كلّ شيء يحدث معنا على ضوء محبّتك لنا، وعلى ضوء سعينا إلى خلاصنا الشخصي وخلاص العالم الذي قذفتنا خطيئتنا إليه فلحقتَ بنا كي تخلّصه وتخلّصنا.
أن تحدث الكارثة شيء، وأن نستخدمها بما يؤول إلى خلاصنا فشيء آخر بالكليّة. لكنّنا إذا فكّرنا بـ “لماذا” [حدثت] أكثر ممّا فكرنا بـ “كيف” [نواجهها]، سنبقى أسرى ما حدث ولن تتفعّل محبّتنا ولا توبتنا، وتالياً لن نلقى جواباً.
هلّا قوّيتنا يا الله كي نفكّر بحسب قلبك لا بحسب مخاوفنا. حتّى متى سنبقى أسرى أفكارنا وأذهاننا المشوبة بظلام البعد عنك؟ هل سندرك يوماً فكرك ومحبّتك وطول أناتك، ولا نعود نلصق بك كلّ ما لا ندركه لأنّنا عاجزون عن إدراكه.
في الماضي كانوا يعزون الكوارث الطبيعيّة إليك فقط. أمّا اليوم فباتت أسباب الكثير منها معروفة، ومع ذلك نرجعها إليك لأسباب وأسباب، وبذا نرسم لك صورة هي على العكس من التي أظهرتها لنا عندما جئت أرضنا وباركتها.
سامحنا يا رب، إذا كنا نتساءل، بسبب ضعفنا ومحدوديتنا، لماذا لا توقف الكوارث دائما.
ثمّة من يتساءل كيف لطفلٍ ينجو من الأنقاض بعد أسبوع ولآخرين يقضون تحت الأنقاض ذاتها؟ وينبري آخرون ليقولوا إنّ رحمتك لم تمنع الزلزال لكنّها جزّأته كي لا يكون دماراً شاملاً. إلى ما هنالك من تفاسير وتساؤلات، منها ما يصحّ ومنها ما لا يصحّ.
لماذا لا نقبل يا ربّ، أنّنا مخلوقات لا يمكنها أن تستوعب خالقها. سامحنا لأنّنا لا نسلّم بأسرارك، ولا نقبل دوماً بالجواب القائل بأنّ سرّك لا يُدرك، وتالياً لا نسلّم بما يحصل، ونُخرِج طاقات محبّتنا لنواجهه. لقد خلقتنا على صورتك، ومنحتنا تالياً التوثّب إلى المعرفة، تلك التي لا نطلبها منك دوماً بالتواضع اللازم لبلوغها.
أن نعتبر، عندما نعجز عن الجواب، أنّ الأمر يخصّ سرّك يا الله أليس أفضل من أن نلقي أجوبة من عنديّاتنا، ونقرأ ما ورد في تراثنا وما يرد في حاضرنا من أحداث، بما يناقض صورتك فادٍ ومخلّصٍ ومائتٍ وقائمٍ من أجلنا، ومشاركٍ لنا في آلامنا وأوجاعنا، ومنتظرٍ رجوعنا إليك، لتهدأ ذواتنا ونلقى ملء الحياة التي خلقتنا من أجلها.
منّا من يقرأ الكارثة غضباً وسخطاً إلهيّين، ومنّا من يذهب إلى اعتبارك مشاركاً لنا في الألم لأنّك ضنين بحرّيتنا. وكأنّ المعرفة تلغي الحاجة إلى المحبّة التي وحدها تخفّف من وقع الكارثة وهولها. من يحبّ على مثالك ويندفع إلى الخدمة يلقى في المحبّة أجوبة ما كانت تخطر على عقله.
حتّى متى يا ربّ سنبقى أسرى تعابير وآداب ومفاهيم أنتجها البشر عبر قرون من نموهم في معرفتك وألصقوها بك، لأنّهم وجدوا فيها نفعاً لهم حسبما ما ظنّوا. متى سنكتشف وجهك الحقيقي المحجوب وراء صور ورسوم وقصص أنتجتها تفاسيرنا البشريّة وجموح عقولنا التي تريد المنطق والفهم الذي يفوق قدرتها، بالإضافة إلى جموح أهوائنا التي أعمت أذهاننا عن حنانك المنثور في صفحات الإنجيل كافّة.
هل سنصل إلى التواضع الذي يجعلنا طلّاب معرفة وحبّ في آن؟ وهل سنبلغ إلى طلبهما بتواضع حتى نُعطاهما بملئهما؟ هل سنتحرّر يوماً ممّا لصق بنا من غثّ في التراث ونغتني من سمينه، ونميّز بين وجهك الحقّ والصور التي رسمناها لك عبر التاريخ، وكم كان منه تاريخاً مشوَّهاً عابقاً بأهوائنا.
نتوجّه إليك اليوم يا ربّنا ومخلّصنا، ونحن واثقون بأنّ لا حياة لنا إلا بك ومعك. نتوجّه إليك بوجع آملين تخفيف أوجاعنا أيّها المعزّي الصالح. نتوجّه إليك راجين أن يتفجّر حنانك فينا حناناً على شعبك المتألم. نتوجّه إليك تائقين إلى السلام الذي لا يعطيه عالمنا، بل أنت.
في حياة كلّ منا ثمّة خبرات كنت فيها معنا، لا بل كنت تحملنا على يديك ، اجعلنا نتذكّرها يا ربّ لئلا تعمي الكارثة بصائرنا فلا نعود نجد تعزية من حولنا. علّمنا أن نرى، على الأقلّ ، نصف الكأس الملآن ، إلى جانب النصف الفارغ ، إن لم نكن قادرين على نسيانه.
أعطنا أن نتقوّى بعد كلّ ضيق فلا نبقى منحنين تحت ثقله . امنحنا أن نترجّى القيامة والحياة الأبديّة في كلّ ما يواجهنا من أفراح وأتراح. نقّ أذهاننا لتوجّه كلّ ما يحدث لنا إلى ما يؤول إلى خيرنا وخلاصنا.
كم نتوق يا يسوعنا إلى نعمتك التي تجعلنا قادرين على أن نحوّل الجمرة إلى حبّة بخور.

أنت الطريق والحقّ والحياة. إلى من نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك! فامكث معنا يا سيّد. لقد مال النهار. امكث معنا يا قدّوس، فالعتمة معك تستحيل نهاراً.
بقلم_المطران_سابا 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!