مقالات

رواية المسافرون الإنجليز -كشف إنساني عميق لأزمة أخلاقية م*روع*ة للفكر الاستعماري عبر العصور

قرأت الجزء الثاني من “المسافرون الإنجليز” للكاتب والروائي البريطاني ماتيو نيل ” في كندا. هذا البلد الرائع الذي يسقط الظلام فيه مبكرا على مساحاته الشاسعة الأرجاء ابتداء من الرابعة والنصف بعد الزوال. وكانت الشمس تغيب فيه حوالي الثالثة والنصف، لولا إرجاع ساعة الكنديين إلى الخلف ساعة واحدة حتى يتمكنوا من رؤية ضوء النهار أطول مدة ممكنة. ومضيت أنتقل من صفحة أخرى بح*ما*س ومزيد من الدهشة والاستغراق. فوجدت الرواية مدهشة حقا. ليس لكونها تشكك ،وإنما ترغمك على تذوق سم الماضي الاستعماري، ليس في كندا فحسب ،وإنما في أمريكا اللاتينية برمتها بعد إبادة ملايين الهنود الحمر من السكان الأصليين وبناء حضارة البيض على أنقاضهم . والتساكن معه كما لو كان قدرا مرسوما . وأعترف أن الحبكة الفنية والأدبية للكاتب كانت متعتي اللذيذة ومؤنسي لفترة أطول. وكنت أمعن في تدوير الجمل والأفكار مرارا حول أي تشابه ممكن بين الشخوص والأزمنة هنا وهناك .في مستوطنات غ*ز*ة كما في مستوطنات أقاليم ثقافية أخرى متعددة زاخرة ومتناحرة في سياق سفر بحري طويل. فأظل مشدوها إلى الأحداث متشوقا إلى تفاصيلها ومآلات أبطالها ما بين الدراما والجاذبية، والاستقصاء المعرفي العالم بتناقضات التاريخ الحديث وافتراءات جغرافيته المريعة. وكما يرتفع ضغط الدم كان منسوب الدهشة يتنامى مضمخا بمتعة هاربة أثناء الانتقال من فصل إلى آخر.
للوهلة الأولى، حينما قرأت عنوان رواية “المسافرون الإنجليز 1-2 ” أخذني الخيال بعيدا صوب دهليز معتم من التاريخ البشري الحديث. تتدفق عبره تداعيات الذاكرة المرة إلى ما تشهده غ*ز*ة بفلسطين المحتلة منذ 45 يوما من هول التدمير وجرائم الإبادة على يد الهمجية الإ*سر*ائي*لية على الرغم من التباعد السردي في الزمان والمكان. فما إن أصل الى كلمة المستوطنة حتى يسيح بي الذهن في ترسيخ الاحتلال الصهيوني عبر إقامة المستوطنات وجلب لقطاء وأولاد زنا المحارم من كل البقاع أوروبا والعالم لتوطينهم في الأراضي المنزوعة قسرا من السكان الأصليين من أبناء فلسطين.
لنتجرع طعم الألم ونعود الأديب البريطاني ماثيو نيل يكشف في روايته المهيبة “المسافرون الإنجليز” الصادرة عام (1960)، التاريخ الخفي لسكان أستراليا الأصليين. وقام بترجمتها إلى العربية د علي محمد سليمان، ضمن (سلسلة إبداعات عالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت)، ونشرت الترجمة في جزئيين، يتألف كل منهما من 300 صفحة، ويضمان معاً 15 فصلاً، علماً أن طبعتها الانجليزية صدرت في العام 2000.”
ونقرأ وقائع ” أحد أيام شهر يناير 1858، بعد سبعة أشهر من إبحارها، تصل سفينة “الإخلاص”، وهي سفينة شراعية، إلى شواطئ جزيرة تسمانيا، في أقصى الساحل الغربي لأستراليا، وكان يقودها قبطان يدعى “إيليام كويليان كيولي”. وكان يخبئ في قاعها كميات من الخمور والتبغ المهرَّبة، في انتظار فرصة لبيعها وجني مبلغ معتبر من المال، مستغلاً فرصة استئجارها من جانب بعثة انجليزية على رأسها الكاهن جيفري ويلسون، الذي كان يعتقد وفق معلومات جيولوجية وأخرى توراتية، أن في تلك الجزيرة تقع “جنة عدن”، ومعه الدكتور “توماس بوتر”، الذي كان مهتماً بالحصول على عينات من جثامين السكان الأصليين ليضعها في متحف في لندن، بما أنهم كانوا على وشك الانقراض”
وبالمقتضب المفيد “هي رواية تاريخية عن إبادة السكان الأصليين في أستراليا على يد المستعمرين البيض، والتي تمت على نحو ممنهج خلال نحو نصف قرن، من 1820 إلى 1870 فلم يتبق سوى القليل منهم. ولكنهم كانوا هجيناً؛ نتيجة اغ*تصا*ب أشخاص بيض لنساء أصليات، ومعظم المغتصبين من عتاة الإجرام كانت السلطات البريطانية قد تخلَّصت منهم بنفيهم إلى تلك البلاد النائية.”

الصدمة والدهشة وسيل من الأسئلة الملتاعة يداهمنا. أمام ما نشاهد وما نتخيل. فحجم الجرائم التي ارتكبها الاستعمار البريطاني في حق السكان الأصليين لأستراليا يتم سردها بنكهة السخرية السوداء التي لا تغادر حتى في أكثر الأحداث رعبا ومأساوية، أثناء معاينة تفاصيل إبادة ذلك الشعب الأسترالي الأصيل. “ومنذ صيحات البحارة «إنها اليابسة» وإلقاء المرساة في المرفأ الأخير نتعرف على المعنى الحقيقي لكل تلك الأحداث واللغات والثقافات التي رسمت عوالم بشر ضاعت ملامحهم وأودت حروب الإبادة بهوياتهم القومية والفردية. وهنا يبدع الروائي في خلق شخصياته لا كمحض نماذج تاريخية تخلو من نبض الحياة وإشراقاتها، بل كأفراد تحلق بهم الأحلام ويفيض بهم التوق إلى الجمال والحب بقدر ما تمزق حيواتهم وأوطانهم الحروب والنكبات ولعل أهم ما تضيفه الرواية كما يتضح لنا في جزئها الثاني ذلك التصوير العميق للحياة اليومية لإنسان أستراليا الأصلية، بكل ما فيه من تنوع بيني وطبيعي وثقافي.”

في الجزء الأول من الرواية” تتجلى سمة بارزة في كتابات ماثيو نيل في أكثر حالاتها تألقا وجمالاً. إنها السخرية والنبرة التهكمية التي لا تخلو من سوداوية تنبع من موقف نقدي أصيل لدى الكاتب ومن حساسية فائقة في إضاءة التناقضات والمفارقات في حياة البشر وفي علاقتهم مع العالم. تتحلى المفارقات تلك في عدسة الروائي من خلال مصائر تضحكنا بقدر ما تفجعنا بتراجيديتها، وكأن الكوميديا لست سوى موقف نقدي من التاريخ ذاته “

أما في الجزء الثاني من الرواية ذاتها، حيث تنطلق محاولات المستعمر الإنجليزي الفاشلة في محو هوية السكان الأصليين بدعوى انتشالهم من حياة الهمجية التي عاشوا بها. بل وتؤدي إلى حالة انقراض تدريجي للسكان الأصليين نتيجة لعدم اعتيادهم على نمط حياة الرجل الأبيض التي فرضت عليهم عنوة. “لكن عليكم الآن أن تتكلموا الإنجليزية الإنجليزية فقط. كان هذا أول ما رأيناه من إرادته وعزيمته على الارتقاء بتلك المخلوقات التعيسة” ص68. نحن فخورون حقا بما حققته المدرسة من نتائج جيدة خصوصا في التعاليم المسيحية للسكان الأصليين ص98.

على أن الإشادة بهذا المنجز الأدبي سواء من حيث جمال الفكرة وصقلها وصياغتها أدبيا لا يكفي. لأن ثمة مهمة أرقى من ذلك. إنه الاقتحام الجريء لقلاع الماضي السيئ الذكر الطافح بالمآسي والأهوال وتفكيك بنى الرأسمال الأوروبي المبني على القوة والوحشية والافتراس لتوسيع آفاق ح*ما*سه الجارف في امتلاك الأرض والسيطرة على قيم الإنسان المختلف وتقنين قنوات مجاريها. إنها رؤيا متفردة في الاستكشاف ومتبصرة في تفكيك قيم بناء العالم المتحضر على أنقاض حضارات بشرية سادت ثم بادت بل أبيدت بفعل فاعل وعن سابق إصرار وترصد. إنها بالقوة والفعل معا إبصار بعيون متعددة للحاضر والماضي للتاريخ وللجغرافيا يكتنفه الذهول وتتدثر حقبه بالفزع المريب.

في مقدمة للمترجم نقرأ “تصل سفينة المسافرين الإنجليز في الجزء الثاني من هذه الرواية إلى شواطئ جزيرة تاسمانيا، أحد المستعمرات البريطانية في أستراليا، إلى الفردوس المفقود وجنة عدن التي ابتكرتها مخيلة الكاهن المأزومة بخرافات الفتوحات الأخلاقية لحضارة تحمل إرثا ثقيلا من دماء الضحايا وعذابات المضطهدين. وبوصولها يترجل ركابها إلى اليابسة ليبدؤوا رحلة أخرى في مجاهل الجزيرة المنكوبة تحت راية بعثة مقدسة لاكتشاف جنة عدن. ومعهم تأخذنا الرواية في أفاق فضاءات شاسعة من الحكايات والتواريخ الدامية بسيرة شعب أستراليا الأصلي الذي أباده الاستعمار البريطاني في حملات بحثه الدامية عن جنان الذهب في تلك الأرض البعيدة. “
تقطع السفينة مسافات شاسعة وتجتاز نصف العالم محملة بأحلام ومشاريع ركابها، مهربات القبطان السرية، وأسفار الكاهن، ونظريات الطبيب عالم الأعراق رموز حضارة كاملة، وربما أساطيرها التي ستحولها أرض تاسمانيا الوعرة إلى مجرد أضغاث أحلام، بعد أن تعريها وتطوح بها مع جثث بغال الرحالة التائهين من أعالي جبالها الشاهقة”
ومنذ صيحات البحارة «إنها اليابسة» يبدع الروائي في خلق شخصياته لا كمحض نماذج تاريخية تخلو من نبض الحياة وإشراقاتها، بل كأفراد تحلق بهم الأحلام ويفيض بهم التوق إلى الجمال والحب بقدر ما تمزق حيواتهم وأوطانهم الحروب والنكبات ولعل أهم ما تضيفه الرواية كما يتضح لنا في جزئها الثاني ذلك التصوير العميق للحياة اليومية لإنسان أستراليا الأصلية بكل ما فيه من تنوع بيني وطبيعي وثقافي.”

ونتابع مع المترجم ” لوحة تضج بألوان وأنماط الحياة واللغات والعادات والثقافات والمعتقدات والأساطير التي تشكل عمق الهوية الإنسانية للقبائل الأصلية في أستراليا؛ كل ذلك من خلال معرفة تاريخية وعلمية بخصائص البيئة المحلية والثقافات واللغات القومية. وكأننا يضيف المترجم “نقرأ ملحمة تعيد إلى أولئك البشر الحق في كتابة سيرهم ونصوصهم التاريخية الخاصة حتى بعد أن تحولوا إلى هياكل عظمية يجمعها الدكتور بوتر كعينات يستخدمها في مختبره العلمي لإثبات نظريته حول التفوق العرقي.” ” فمن جهة تغزو ثقافة مدججة بالأسلحة والسفن وأسفار الكهنة ونظريات العلوم الحديثة ونصوص التاريخ وأصل الأعراق أرضا لا تفقه لغتها، ومن جهة أخرى تقاوم الثقافة المستباحة كل ذلك عزلاء إلا من أغنيات شعبها وحكاياتهم وسهام صيدهم. جبروت حضارة تواجهه مجموعات اعتادت أن تصطاد قوتها من الطبيعة وترقص ابتهالا لما تجود به الأرض من أرزاق لتنام بعدها تحت سماء تشتعل بالنجوم. لكن هذا تخلف وهمجية يجب القضاء عليهما كما تنص عليه كتب العلماء وأسفار الكهنة القادمين من وراء المحيطات. وهكذا تسلب القوة تحت شعارات التنوير والإصلاح من ذلك الشعب الأرض والسماء والأغنيات والحياة نفسها.”

ولما كان الأدب يتيح لكفاح البشر المنسيين آفاقا جديدة، فإن الدكتور علي محمد سليمان في مقدمته للجزء الثاني من هذه الرواية اعتبر ذلك انتصارا لقيم الحق والعدالة عبر منحهم حكاياتهم وأصواتهم الخاصة، والأدب بهذا المعنى يضع تلك الحضارة المدججة بعتاد الحروب واستغلال التطور العلمي وتراكم الثروات أمام أزمتها الأخلاقية التي ستودي بها في النهاية إلى التداعي.” هنا حبكة الراوي ومهارته في نسيجه السردي المدهش في متعته.
في موازاة تتبع تلك الرحلة، تنشغل الرواية بأحوال تلك المنطقة التي استوطنها البيض وعاملوا أهلها “السود” باستعلاء واستولوا على بيئتهم الطبيعية وتركوهم نهبا لأمراض لم يعرفوها من قبل، ففتكت بهم، فضلاً عن ق*ت*لهم الكثيرين منهم بالرصاص. يقرر “بيفاي” وهو هجين، جاء إلى الدنيا نتيجة اغ*تصا*ب أمه على يد مستوطن أبيض، أن يحارب هؤلاء المستعمرين، مستعيناً بسهامٍ صنعها بنفسه، وبمرور الوقت ينضم إليه آخرون، جاءوا إلى الدنيا أيضاً، نتيجة عمليات اغ*تصا*ب ارتكبها المستوطنون ضد نساء أصليات.”
وتكشف بعمق إنساني عن الأزمة الأخلاقية الم*روع*ة للفكر الاستعماري. وإذ ترفع السفينة أشرعتها في طريق العودة تأخذنا مرة أخرى في مغامرة فريدة تكمل رحلة المعرفة إلى نهاياتها المفتوحة على سخرية مريرة تمعن في تعرية التاريخ وتدعو القارئ لفرجة من نوع خاص. فرجة تسقط فيها كل الأقنعة فلا يبقى أمام القارئ سوى أن يكون ذلك الطفل الذي يفضح الجميع ويصرخ: إنه عار، الملك عار. تتحطم السفينة وتغرق على صخور شواطئ إنجلترا، لكن الحكايات تنجو ويستمر السرد في رسم المصائر الدامية والمضحكة في الوقت ذاته.”

ماثيو نيل كاتب وروائي بريطاني من مواليد لندن 1960. درس التاريخ الحديث في جامعة أكسفورد وتخرج عام 1982. له العديد من الكتب والروايات والمجموعات القصصية. حصل على العديد من الجوائز الأدبية. استحوذت أعماله على اهتمام نقدي واسع حول العالم. يعتبر واحدا من أهم كتاب الرواية التاريخية المعاصرين في بريطانيا حيث تعبر رواياته عن رؤية نقدية جريئة للتاريخ ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية. انتقل عام 2000 ليقيم مع عائلته في روما حيث يعمل ويتابع أسفاره حول العالم.” المترجم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!