الحوار الهاديء

التغيير وسحرُه، شعار خادع ومدسوس

لويس إقليمس        

 

التغيير وسحرُه، شعار خادع ومدسوس

30 نيسان 2018

أضحى شعار التغيير هوسًا ملازمًا لكلّ مَن يسعى للصعود إلى هاوية البرلمان العراقي، بسبب ما يدرّه هذا الأخير من امتيازات وحقوق ومنافع كانت غائبة عن إدراك طبقات كثيرة من الشعب العراقي البائس في فكره والغائص في تخبطه واللاّهث وراء جلاّديه بلا كرامة ولا تفكير ولا وعي. وما أن تنبهت لها مؤخرًا شرائح عديدة منه بسبب الفضائح المقزّزة وعمليات الفساد المزكّمة للأنوف وشراكات الصفقات المنفّرة التي كشفها أرباب السلطة أنفسُهم بأنفسهم ومنهم مَن تسلقوا عضوية السلطة التشريعية، أيًا كانت الدوافع أو الأسباب والأغراض، حتى تهافتت على قوائم الترشيح أسماء مغمورة ومشدوهة جديدة دخلت غمار السباق الانتخابي إلى جانب المخضرمين ممّن أفسد العديدُ منهم هذه المؤسسة الديمقراطية الفتية واتخذوها حصانًا لبلوغ مآربهم، شخصية كانت أم دينية أم طائفية أم عرقية أو عشائرية. فهذه الأخيرة كلّها يفترض أنها حرامٌ ومن المحرّمات التي تتقاطع مع المبادئ الوطنية والخلقية العامة التي رُسمت للديمقراطية الفتية كي تنتعش في هذه البلاد المرتبكة والجريحة بسبب غياب الحسّ الوطني المفقود منذ غزو العراق في 2003. وما يُؤسف له أنّ الشعار الأكثر رواجًا واستخدامًا يجري رفعه تحت يافطة “التغيير”، الذي أصبح هوسًا استهلاكيًا بلا معنى ولا لون ولا طعم ولا رائحة لكلّ مَن آثرَ بلوغ السلطة وسعى لتسلّقها وصولاً إلى غايات تمناها “عيسو” في غير وعيه أو تراءت له في ضباب أحلامه.

في دول الغرب المتقدم، لا تُرفع شعارات لا يمكن تنفيذها في الأرجح، بسبب الخوف من وعي الشعب المتربّص المتابع عادة لشعارات المرشحين والساعين إلى السلطة ووعودهم المقطوعة في حملاتهم الانتخابية المتحضرة وليس الفوضوية والمنفلتة التي تتراءى أمامنا اليوم. ناهيك عن إرادة الناخب بمحاسبة الفائز الذي ينتهك الوعود وينكث العهود التي صرّح بها خلال الفترة الانتخابية. فالفضيحة تبقى تلاحق هذا الفاسد السيّء الذي يتنصل من تنفيذ شعاراته الواضحة التي تتطرق إلى مشاريع اقتصادية أو برامج سياسية تخصّ التنمية البشرية وتطوير الخدمات وتحقيق الإنجازات وزيادة الرفاهية، حتى يتمّ إسقاطُه ويضطرّ تحت مثل هذه الضغوط الشعبية للانسحاب وترك السلطة باحترامٍ تاركًا المجال لغيره ولمَن هو أفضل منه وأكثر كفاءة وجدارة وصدقًا وتلاصقًا مع الناخب. وما زلنا نفتقد لمثل هذه الثقافة السياسية ليس في العراق وحسب بل في مجمل الحكومات الإسلامية والعربية في منطقة الشرق الأوسط عامة.

عندما يُرفع شعار التغيير في دول متقدمة ومتمدنة في الغرب، ومنها أميركا وكندا وأستراليا وأوروبا وما سواها من دول عرفت مسؤولية الحرية والديمقراطية والتنمية، فإنها تعي ما ترفعه وما تطرحه وما تريده. الرئيس الأميركي باراك أوباما، كان الأوفر حظًا برفعه شعار “التغيير” في حملته الانتخابية في 2008، مستغلاً عناصر الهاوية التي اتسمت بها فترة رئاسة سلفه. وقد أجاد اللعبة عندما أعاد ذات الشعار في حملة ولايته الثانية في 2012 مع الأمل ببلوغ نوعية التغييرات التي وعد بها في الولاية السابقة، فنجح بذلك بالبقاء في البيت الأبيض خمس سنوات أخريات، ما منحه الفرصة لإحداث تغييرات في سياسة بلاده تجاه تساهل إدارته وتعاملها مع التنظيمات الار*ها*بية. ومثله عمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على وتر التغيير، وقد أجاد هو الآخر في إدارة الحملة الانتخابية بالرغم من قصر الفترة التي تأسس فيها حزبه الجديد. فالشعب الفرنسي كان قد أبدى كلّ الاستعداد لرؤية تغييرات في السياسة العامة في إدارة الدولة ومؤسساتها وتفعيل اقتصادها نحو الأفضل. وهذا ما يبدو في الأفق من تلمّس شعبي حقيقي في سياسة هذا البلد الذي يبقى مع حليفته الدائمة ألمانيا مفتاحًا لمعالجة مشاكل أوربا الاقتصادية والبشرية. ولنا في العراق مثال بسيط تمثل بحركة التغيير الكردية السياسية “كوران” التي تأسست في 2007. فقد تمكنت هذه الحركة من كسر ثنائيةَ حكم الحزبين الكرديين التقليديين في شمال العراق-كردستان، ونجحت تدريجيًا في تشجيع الشعب الكردي للانتفاض ضد أسلوب احتكار السلطة الذي مارسه الحزبان التقليديان وأحكما سطوتهما على كلّ منافذ الحياة في منطقة كردستان لسنوات طوال.

السؤال المطروح، ما المغزى من رفع ذات الشعار الساحر “نعم للتغيير” من أطراف سياسية وحزبية، ساهمت وهي في السلطة وما زالت، وكانت في الأساس طرفًا في إفساد العملية السياسية وإخفاق الديمقراطية الفتية؟ أليس ذلك لأغراض استهلاكية خادعة وللضحك على ذقون البسطاء والعامّة من الشعب البائس الذي اعتاد عبادة جلاّديه حتى النخاع؟ أليسَ غريبًا أن يرفع مرشحٌ عن كتلة أو ائتلاف، مازالت أذرعُهما تطالُ كلَّ مفاصل السلطات، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحتى التفصيلية في هذه الأخيرة سواءً الإدارية أو في مجال التعليم أو التربية أو الثقافة المجتمعية أو الاقتصاد أو المال؟ حتى هذا الشعار الذي جلجلَ صداه وارتفع صدّاحًا وبحّت به أصواتُ المتظاهرين أيام الجمع منذ تشكيل الحكومة الأخيرة ولغاية الساعة، قد سعى الفاسدون في كتل كبيرة وأتباعهم من الفارغين من أيّ حسّ وطنيّ، لسرقته من أفواه الثكالى والأرامل والفقراء وأصحاب البسطات والأكشاك وجيوش العاطلين عن العمل والمظلومين وما أكثرهم ومن أصحاب الشهادات الذين اضطرّهم الزمن الغادر لتع-اط*ي أعمال العتالة والتنظيف التي لا تليق بهم، بالرغم من عدم انتقاصي من طبيعة الشرائح التي تتولى هذه الأعمال التي تُعدّ من الأعمال الدنيا في المجتمع والتي تدرّ رزقًا حلالاً على متع-اط*يها.

         جميلٌ جدًا، أن يدعو مرشحونا إلى التغيير ويرفعوا أصواتهم المتناغمة في حملاتهم الانتخابية مع أصوات الشعب المسكين الذي سُرقت ابتسامتُه واغتيلت أحلامُه الوردية واستُهلكت ثرواتُ بلاده وهو يرى ويسمع بمئات المليارات من الدولارات التي ضاعت هدرًا ولا يعرف عن مصيرها أي شيء؟ فهل هذا قدَرُ شعبٍ عريق الحضارة استطاع سياسيّو الغفلة وسارقو الليل ولصوص النهار ترويضَه ليبقى إلى الأبد ضمن خانة الخنوع والطاعة والصمت؟ أم حان الوقت لعملية “الشلع قلع” التي نادى بها المتظاهرون منذ حين ولم تتحقق لغاية الساعة؟ لقد ملّ العراقيون الوعودَ العرقوبية بالإصلاح وتحسين الخدمات والرفاه، وآن الأوان بالرغم من تأخره، للتغيير الحقيقي عبر وجوهٍ جديدة مدنية منفتحة مثقفة ومدجَّجة بحب الوطن والشعب في كفة، وحاملة لبصمة التغيير الصادق في الكفّة الأخرى غير خاشية سطوةَ الأحزاب الكبيرة التي اغتالت حلمَ الوطن والعباد ونشرت الفوضى والفساد وسرقت أموال الشعب والبلاد، وماتزال تتعاطى هذه السرقة المكشوفة في مزاد العملة المشبوه بسبب ضغوط الساسة على إدارة أموال البلاد.  

إنّ الشعب العراقي يقف اليوم برمّته مع مطلب التغيير الملحّ، بعد أن ساءت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتربوية والخدمية وسط الكمّ الهائل من فضائح الفساد الإداري والمالي وحتى الأخلاقي. ولكن السؤال الذي يتردّد اليوم: أيّ تغيير يسعى المرشحون للوصول إليه؟ أهو تغيير في الوجوه والأشكال والأزياء باستبدال وجوه الفاسدين بأخرى تسعى لبلوغ ذات المآرب والتمتع بذات الامتيازات وفق القوانين المدسوسة التي سنّها السابقون لهذه المؤسسة التشريعية التي لم تعرف أن تحترم نفسها وتصون كرامتَها وتؤدي واجبها الوطني كما عهدها الشعب؟ أم تغييرٌ حقيقي في سياسة البلاد يتضمن برنامجًا سياسيًا واضحًا قابل التنفيذ وخططًا آنية وأخرى متوسطة وغيرُها بعيدة المدى تنتشل البلاد والشعب من هوّة التخلّف والتأخر عن الركب الحضاري الذي آلت إليه بعد أن كانت ضمن خانة الدول المتقدمة إقليميًا وعالميًا؟ فما تعرضه القنوات الفضائية وتنقله وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من ضيق وامتعاض صريحين في الشارع العراقي بسبب فضائح وأشكال فساد وعمليات تزوير وفساد إداري ومالي ومساومات انتخابية وبيع تسلسلات مرشحين في بازار مخجل وتع-اط*ي مخدّرات والاتّجار بها على نطاق واسع وبمشاركة وتغطية من قيادات أحزابٍ في السلطة، كلّها من دواعي التغيير. وما خفي كان أعظم!

الخوف، كلّ الخوف أن تبقى الكلمات الرنانة واللطيفة التي تنادي بالتغيير، والتي تحملها تصريحات المرشحين في الندوات والملصقات أسيرة التأثير الزائف في سحرها. فالناخب المتبصّر لا يرضى أن ينتهي كلّ شيء مع انقضاء الحملة وصدور النتائج، ومعها بدء مرحلة الخمط والصفقات والمساومات بين الأطراف الفائزة التي تتحكم بها زعامات الكتل والأحزاب الماسكة بناصية الحكم بأرجلها وأسنانها وأيديها منذ التغيير في 2003 ولا نية لها للتخلّي عن المكاسب التي وفّرتها السلطة بدعم من الغازي الأمريكي وحلفائه. تلكم هي خشية أخرى من القادمين الجدد ألاّ يكونوا مثل أسلافهم الذين جاؤوا حينها ليبقوا ويؤسسوا لدولة الفساد وهم مازالوا يرفضون تسليم الراية لغيرهم بعد تجربتهم وفشلهم وذلك بحجج واهية، منها دينية وأخرى عرقية وغيرها طائفية. والمؤسف أنَّ بعضًا من هذه الحجج يُشعلهُا كبار أشباه الساسة بمعيّة مراجع دينية مستفيدة من العملية السياسية العقيمة القائمة. فبعضٌ من هذه الشخوص، وبسبب انغلاقها على ذاتها، تتخذ من آفة التحريض على الطائفية وسيلةً للبقاء في السلطة، لما لهذه الأخيرة من مغانم ومنافع ومكاسب وجاه ومال، غير عابئة بمسألة تنمية الإنسان ونوعية الوطن الذي يحتضن هذا الإنسان مهما كان دينه وعرقه ومذهبه ولونه. فهل “يُجرّبُ المجرَّب ثانية”؟

إنّ “التغيير، كما أشار أحد الكتاب، هو الفعل الوحيد الذي لا ينتهي أبداً”. ولكنّه قادم لا محالَ، مهما تمّت إعاقتُه من قبل رؤوس سياسية فاسدة تسعى لإطالة أمد المنافع المجتناة من مبدأ المحاصصة، أو تلك الدينية الطائفية المتخلفة التي تخشى صعود التيار المدنيّ الجارف إذا تمكنَ هذا الأخير من شق طريقه الصحيح، وذلك لتقاطعه مع مصالح هذه الفئة الضيقة في الأفق والرؤية والتفكير. ففي مجال السياسة، كلّ شيء جائز، ولا مكان لليأس المتوطن في أفكار الطبقة المثقفة والواعية. كما ليس من الحكمة الحكمُ بالعقم السياسي العام. ففي الأفق، نرتقب بروز نخبة واعية ينتظرها الشعب من الوجوه الجديدة المغمورة التي قد تغيّر صفحة المشهد السياسي، بعد اصطفاف الشارع ووسائل الإعلام والمرجعيات الرشيدة الوطنية المعتدلة والتنظيمات المثقفة والأحزاب الوطنية الصادقة معها. لكنّ مماّ هو مؤسف وغير مقبول، سمة اليأس الفردي والجماعيّ السائدين معًا لدى البعض، إلى جانب العجز السياسي المستفحل لدى فئة الذين لا يعتقدون بإمكانية حصول تغيير قادم، متناسين أنّ مسألة تركَ الساحة للوجوه التقليدية والأحزاب الدينية التي أثبتت الأيام فشلَها الذريع سيُحسبُ اصطفافًا لهذه الأخيرة ولسياسة الإبقاء على نهج المحاصصة وأركان الفساد من دون محاسبة. ولا يغرّنّ الشعب، توجهُ بعض الأحزاب الدينية والطائفية مؤخرًا لتحسين صورتها عبر تغيير شعاراتها ومسمّياتها وغطائها الديني والطائفي والمذهبي، عبر تبنيها لشعارات التمدن والدولة المدنية والأحزاب المدنية في حيلة يظنون أنها ستنطلي على وعي شرائح كثيرة فطنت لما يجري.  

لعلَّ ممَا يعزّز مثل هذه التطلعات لحصول تغيير مرتقب في البرامج والسياسات، هو انقلاب مرتقب لبعض المرشحين ضمن القوائم الكبيرة التي احتضنت وجوهًا مشبوهة ومتهمة بالفساد على قيادات هذه الكتل نفسها بعد فوزها المرتقب، خوفًا من نقمة الشعب ومن الملاحقات والاتهامات التي قد لا ترضى الوجوه الجديدة الصاعدة أن تتلوثَ بها سمعتُها وتاريخها وأسماؤُها. والأكثر من هذا وذاك، أنّ شريحة المرشحين من الشباب والطبقة المثقفة ومن العنصر النسائي من ذوي الشهادات تبدو في انسجام مع تطلعات الشعب المغلوب على أمره بعد اتساع أصوات الاعتراض والرفض للطبقة السياسية الحاكمة التي أكثرت من الأقوال وقلّلت من الأفعال، ممّا يبشّر بنقلة نوعية، أياً كانت درجتُها وقدرتُها، نحو الأفضل والأحسن عبر تغيير مرتقب في بعض الوجوه والأهداف والسياسات. وهذا مؤشر إيجابيّ بحدّ ذاته، لكونه إشارة خضراء بحدوث رجّة متوقعة وهزّة مخطَّط لها خلف الكواليس في صفوف العامة والخاصة بعد سلسلة فضائح الفساد والسرقات التي طالت مؤسسات الدولة المرهونة تحت سطوة الكتل السياسية الثلاث التي تتحكم بكلّ مفاصل الدولة منذ أكثر من أربعة عشر عامًا بسبب مبدأ المحاصصة المقيتة التي انتهجتها هذه في إدارة دفة البلاد والطريق التي أوصلتها إليه. فالشارع والأسواق والمنتديات والمؤسسات التربوية المستقلة وحجم التأثير الخارجي، كلّها من أدوات الدعم والتأييد للتغيير، ليس في الوجوه فحسب، بل في السياسات العامة للبلاد وفي الانفتاح المرتقب للخارج والاستقلالية في القرار وعدم تكبيل البلاد والعباد بتأثير ولاية الفقيه والتبعية للجارة إيران وحصر اهتمام الدولة ومؤسساتها بمظاهر اللطم والمواكب الطائفية في المناسبات الدينية المذهبية التي فاقت التصوّرات ولأجلها تُعطّل الدولة ومؤسساتُها وتُسبى شوارعُها وطرُقُها وتُغتالُ حريات الناس من دون وجه حق.

في الختام، لا يمكنني القول، سوى أنّ الشعب الذي لا يتعلم من الضربة الأولى، يستحق الثانية والثالثة والعاشرة، بسبب خشيته وتردّده من تجاوز مرحلة الخنوع والخضوع والبؤس والتبعية والمهانة التي اعتاد العيش بين أكنافها مع جلاّديه ومع مَن يعدّهم خطأً زللاً أسيادًا وولاةً له دون غيرهم. وهذا عكس أصحاب المبادئ. فهؤلاء اليوم نادرون!

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!