ذكريات من الماضي العراقي القريب (6)
الكاتب: عبدالله النوفلي
ذكريات من الماضي العراقي القريب (6)
لقد أصبح الخطف والابتزاز أمرا مألوفا ولا تتعجب من أن تستمع لقصة من الخطف او الابتزاز في أية لحظة وأينما تذهب، الأمر الذي جعل من الناس حبيسي بيوتهم ويشكّون بكل ظاهرة أو حركة تحدث في الزقاق أو عابر سبيل ربما يمر لحاجة له فمروره يكون مثار شك لكل أهل الزقاق، وكم من زقاق شكل مجموعات من أبناء الحارات يكونون متيقضين وساهرين كي ينام أهلهم ويمضون اوقاتهم بامان وسلام.
فكل ما كان يحدث وفي كل مكان لم يكن سوى جهنم فاتحة فاها كي تبتلع المزيد من الضحايا وكان هناك نيران تزداد استعارا والأخبار تشتد باتجاه الق*ت*ل والدمار، فلم نتفاجأ عندما وصلنا خبر اختطاف ابن جاري الطفل الذي لم يكمل الخامسة من عمره وكان ذلك في بدايات اعمال الخطف حيث لم نكن نعرف بعد الكثير من أدبيات التفاوض والأساليب التي يمكن اتباعها، حيث بدأ الجيران يتهافتون إلى بيت جارهم ووجدت من يقول لهم اكتبوا رقم تلفونكم على الحائط حتى يتصل بكم الخاطفين لأن المخطوف طفل ولا يستطيع أعطاء الرقم للخاطفين، وكنت شاهدا لإحدى اتصالاتهم بجاري حيث يبدو أن الخاطف أو من يلقنه يشرف على بيت جاري ويتحكم به كونه كان يقول له أن السيارة الفلانية يجب ان تتحرك من أمام بيتكم وغيرها من الأقوال التي أيقنا حينها أن أحد أفراد المجموعة التي خطفت الطفل هو أحد جيراننا ويعلم بكل حركة يقوم بها جاري.
أليست هذه أحدى غرائب ما حدثت في مجتمعنا العراقي الذي كان مشهورا بالطيبة والنخوة والكرم!!! ومن ذلك اليوم أصبحت كلمة (علاس) معروفة لكلنا والمقصود بها الشخص الذي يعرف الضحية ويكون دليل للار*ها*بيين وينقل لهم المعلومات التي تقودهم للامساك بضحيتهم مقابل مبلغ بسيط من المال!!! ولم تمضي فترة على تحرير هذا الطفل التي تمت تفاصيل دفع فديتها واعادة الطفل في أحدى الطرقات الفرعية لشارع فلسطين كي يبعد الأشرار الشبهات عن منطقة وجودهم كون أصل العملية قد تمت في الدورة – ميكانيك، وحتى عندما تعرف الطفل على أحد شبان شارعهم خاف أهله تبليغ الشرطة لأن القادم عندها سيكون أسوأ لأن ذلك الشاب كان أحد أفراد العصابة ومن غرائب القدر أن هذه العائلة عندما أضطرت للهجرة إلى بلد مجاور كي تنجو بنفسها بجميع أفرادها قابلت أيضا ذلك الشاب وهو يبحث أيضا عن دولة يهاجر إليها وربما يعيد أفعاله تلك في دولة أخرى آمنة لأن من تطبع على حال لايمكنه ترك طباعه!!!
وليست هذه الحالة الوحيد التي أطلعت على تفاصيل حدوثها، وفي كل الأحوال لم يكن خيار أخبار الشرطة هو الحل بل أنه كان يزيد الطين بِلة كون من لجأ للشرطة تعرض للابتزاز من أطراف عدة وربما يخسر المخطوف كونه لن يعود إليه سالما إذا عرف الخاطفين بأخبار أهل الضحية للشرطة.
وبالاضافة لذلك فقد طور الأشرار أعمالهم وبدأت عصابة تبيع الضحية لأخرى وعلى أهل الضحية أن يوفروا الفلوس دائما ضنا منهم أن قريبهم سيعود سالما بعد تسليم الفدية، وهذا كان حال أحد رجال الدين الذي تم دفع الفدية لتحريره لكن الأشرار استمروا بالمساومة لفترة امتدت لشهر من الزمان وكان ستر من الله الذي جعل رجل الدين هذا يعود سالما لدار عبادته بعد أن تم ربطه ليالٍ عديدة وفي ظل ظروف البرد القارس إلى إحدى الأشجار. وغيرها من الأمور التي لا أريد أن أوجع قلب قارئي العزيز بذكرها.
وعن الضحايا أيضا فقد خسرت منطقة الميكانيك بالدورة شابين وحيدين لأهلهما وكانا قد أفتتحا لهما متجرا يقيتهما وأهلهما وكان قريب ثالث لهم ذات مساء عائدا وأياهم عندما اعترضت طريقهم عصابة التقطت الثلاثة ويبدو أن تلك العصابة لم تكن قد حسبت أن يكون ضحاياهم ثلاثة فأمر مسؤولهم أن يتم أنزال قريب الشابين الذي كان أكبر من الاثنين سنا بحجة أنه كبير في السن ولا يفيدهم بشيء، ويبدو أن هذا كان حظه أوفر من الاثنين الذين أضطر والدهما أن يشحت مبلغ الفدية من أهله وأصدقائه وجيرانه لكن أولاده لم يعودوا لبيتهم لغاية اليوم رغم تسليمه لمبلغ الفدية كاملا!!!.
وبكل تأكيد إن الحديث عن مثل هذه الأعمال هو امر محزن للكثير بل الآلاف من الضحايا وأسرهم الذين بقي ملاذ الهجرة هو الحل الوحيد للابتعاد والهرب نحو النجاة بالنفس والوسيلة المتاحة لمحو تلك الآثار، فقد أصبحت الثروة بعد 2003 أحد الأسباب كي تلاحق العصابات من تعتقد وجود الثروة لديه كي تعمل على ترهيبه وأخضاعه بغية حلب أكبر ما يمكن من ثروته، فأحد من كنت أعرفه وهو يملك فندقا ببغداد تم أختطافه ومساومته الشخصية على الفدية كونه لم يكن لديه شخصا ممكن مساومته!!! فعلينا تصور حجم المأساة لشخص في الأسر ولا يعلم مصيره وآسروه يساومونه بماله كي يطلقون سراحه!!! وكان لهم ما أرادو لكن بشرط أن يُحضر ولده الصغير مبلغ الفدية لهم!!! وكانت النتيجة أن أخذو المال واحتجزوا الولد وأطلقو الأب ليبدأو من جديد مساومة أخرى على أطلاق الولد!!! لكن مع كل ذلك كان المال هو الحل الذي به أشترى هذا الصديق نفسه ونفس وحياة ابنه ليستقر أخيرا بعد رحلة العناء النفسي والنزيف المادي هذا الصديق بعيدا في كندا حيث لا يخاف هناك من فرق الشر والابتزاز.
وآخر كان يمتهن مهنة حرة في شارع الشيخ عمر ببغداد وعندما كنا نلاقيه كانت ملابسه في غاية الوساخة ووجه ويديه أيضا لأنه كان بحق يحصل على قوته من عرق جبينه والأشرار لاحقوه أيضا كي يقاسموه هذا المكسب ويحتجزوه لديهم حتى يفديه أهله ويكسبون حريته الأمر الذي حصل لكن العائلة بأجمعها حزمت الغال من أمتعتها ورحلت بعيدا كي تستقر في دول الاغتراب!!! إنها كلها قصص محزنة جدا خسر العراق بواسطتها ناسه المخلصون والذين كانوا يعملون بجد وأخلاص كي يعيلوا عوائلهم ويقدمون خدماتهم لمن يحتاج وهكذا كان بلدهم العراق هو المستفيد الأكبر من هذه الجهود لكن الأشرار حرموا العراق من كل هذه الجهود كي يستفيد منها دول الأغتراب!!!.
وقصص مثل هذه كثيرة، لكن الأصدقاء لهم دور في سلوك أصدقائهم، وقد يمضي قدما الصديق نحو الأحسن إذا كان أصدقائه جيدون أو نحو الأسوأ إذا صادق أصدقاء السوء الأمر الذي حصل مع أحدى العوائل في حي الدورة ببغداد حيث كان للعائلة ابنا ذكرا وحيدا ونتيجة الضروف المأساوية التي شهدتها المنطقة بعد الاحتلال اضطر رب العائلة لنقل عائلته بعيدا إلى محافظة في الشمال ضانا أنها ستكون الملاذ الأكثر أمنا له ولأفراد أسرته لكن ولدهم الوحيد لم يلتحق معهم بحجة أو بأخرى ليبقى في بيت الوالد وكان ذلك بسبب أصدقائه الذين كان لهم رأي آخر حيث اتفقوا مع الولد كي يدبروا للوالد خطة ويحصلوا منه على مبالغ أكبر ما يستطيعون متصلين به هاتفيا بأن ولده مخطوفا لديهم لكن الحقيقة كانت أن هذا الولد قد أتفق معهم على الخطة بحيث بعد ذلك ارتمى بأحضانهم وانجرف معهم وابتعد عن ذويه وانحرف باتجاه الشر!!! إنه لأمر محزن أن يحدث لعائلة ما مثل هذا الأمر وعلينا تصور مدى حزن أهله؛ أمه وأبيه وأفراد الأسرة الآخرين وربما الأقرباء أيضا، وسمعنا بعدها أن هذا الولد قد استمر بأفعاله مهددا الناس الآمنين مع العصابة التي انتمى إليها خاصة مع غياب السلطات الأمنية في بعض الأوقات من السنين الماضية وكان التهديد للعوائل بأن تترك بيوتها كي تضمن سلامتها وتترك ممتلكاتها كي تكون غنائم للأشرار!!!
وممارسات كثيرة يحس قلمي بالخجل من تسجيلها حيث كان أخا قد اضطرته ضروفه للهجرة تاركا أخاه جالسا في بيته دون مقابل وعندما اضطر هذا الأخ المهاجر من أن يبيع منزله كي يشتري له منزلا في الغربة ينقذه من مسألة الإيجارات المرتفعة في بلد الأغتراب الذي وصل إليه طالبا من أخاه أن يبيع منزله ببغداد، تمرد هذا الأخير وعمل ما بوسعه كي لا يتم بيع البيت ومما لجأ إليه هو كتابة عبارة (البيت مطلوب دم لا يتم بيعه أو شرائه ومن يفعل سيكون عرضة للانتقام!!!)، وعندما انكشفت حيلته وأخوه في الغربة لا يعرف تفاصبل الأمر كلف الأخ المهاجر أحد معارفه أن يستقصي له الأمر ولكي يعرف قيمة داره الحقيقية وعندما أيقن الأخ العاق بأنه لابد له أن يترك المنزل كونه سيتم بيعه رغم كل ألاعيبه، قال بأنه لن يترك البيت قبل أن يحصل على نصيبه من مبلغ البيع وكان له ما أراد حيث حصل على ما يقارب الأربعين مليونا من الدنانير ولم يكن ذلك سوى ظلما لأخيه ليس إلا.
هكذا أصبح العراقيين بعد 2003؛ الأخ يبيع أخاه وربما منهم من عمل علاسا كي يتم سلب بيت جاره أو قريبه أو صديقه لتصبح العوائل العراقية تعيش حلات نفسية غريبة ونادرة ويصعب وصف ردود أفعالها، كون الجميع كان ممكنا أن يكون الضحية في أي وقت وفي أي مكان.
فصديق روى لي بأنه كان يقود سيارته ببطيء شديد في أحدى الأماكن الشعبية حيث اكتشف حينها وجود عصابات من نوع جديد وهي أن تختار العصابة سيارة تسير بطيئة وترمي أحدهم عليها كي يصطدم بها وهي تعلم أنه لن يصاب بأذى لتبدأ بعدها فصول المساومة على الفدية كون المصاب المفترض قد تأذى ووصل الأمر للاتفاق مع اعوانهم في بعض المستشفيات كي يستخرجو أشعة تظهر وجود كسور للضحية وربما مثل هذه الأشعة موجودة في الأرشيف لدى هؤلاء المتعاونين كي يحصلوا هم على نصيبهم وتنتهي المسألة بجلسة فصل عشائرية للاتفاق على مبلغ التعويض والمسألة بأكملها مفبركة، ولم تكن هذه الحالة الوحيدة بل حدثت للعديدين؛ منهم من علم بنتائجها وحلها بالاتفاق مع العصابة مباشرة دون اللجوء إلى إجراءاتهم المفبركة دافعا المال مباشرة حيث قالوا له أدفع لنا المال ولا علاقة لك بالصبي حتى لو مات!!! وقضية ثالثة حدثت لإحدى المربيات الفاضلات في ساحة الواثق ببغداد وكانت الأمور دائما تسير مثلما يريد الأشرار كيف لا وأن القانون غائب وأحيانا هم المجرمون من يلبسون ملابس حماة القانون المنتشر بيعها في الكثير من المحال وخصوصا في أسواق علاوي الحلة.
لكن رغم كل هذه المآسي التي ذكرت منها النزر اليسير لكن كان هناك من يعمل ويستغل وجود مساحات فارغة في مدن العراق كي يقيم منتزها أو فسحة خضراء أو ملعبا أو نافورة لتكون هذه متنفسا للعوائل لكن الخوف من التفجيرات كان هاجس الجميع وهذا ما سنستمر بالكتابة عنه في الحلقة القادمة.
… وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
[email protected]
..