تكنولوجيا متقدمة وإنسانية بدائية
تكنولوجيا متقدمة وإنسانية بدائية
أي ثمن لهذا التقدم التكنولوجي
يشهد العالم الحديث تقدما هائلا في مختلف مجالات العلوم والتكنولوجيا جعل العلم هو القوة المحركة لحياة الإنسان المعاصرة، وظهرت ابتكارات غير مسبوقة في مجال الطب والهندسة والتكنولوجيا، إلى ما وراء الذكاء الاصطناعي وصل إلى حدود جديدة، تفتح آفاقا لا نهاية لها للبشرية، لكن في خضم هذا التقدم الهائل، يلوح في الأفق خطر كبير يتمثل في انهيار القيم الإنسانية والأخلاقية التي كان من المفترض أن ترافق هذا التقدم.
بدأت القيم الإنسانية التي كانت أساسا في بناء المجتمعات تتآكل شيئا فشيئا ويطعنون في أسساها يوما بعد يوم، ففي عصر تكنولوجي يتيح لنا التواصل مع أي شخص في أي مكان بالعالم، نجد أن التواصل الحقيقي بين الأفراد قد تراجع بشكل كبير، ازدادت المسافات العاطفية بين الناس وأصبح من السهل على البعض أن يظهروا أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مزيف ومصطنع، دون أن يعبّروا عن حقيقتهم وطبيعتهم الفطرية.
انتشرت ظواهر تدهور القيم الاجتماعية والأخلاقية بطريقة مخيفة وسريعة، أصبح من الشائع أن نرى عدم احترام للمسنين وللأطفال ومؤسسات الزواج وحرماتها، الذين كانوا في السابق يُعاملون بحذر ورعاية، فالمسنون الذين قضوا حياتهم في خدمة المجتمع يُعاملون اليوم باللامبالاة من قبل الشباب الذين يركزون على التقدم المادي دون النظر إلى الحكمة التي يملكونها، والأطفال الذين من المفترض أن يكونوا ركيزة المستقبل، يُتركون دون تربية حقيقية من قبل والديهم المنشغلين بالهواتف الذكية، وهي بيئة تتسم بالإهمال أو اللامبالاة.
ويمتد هذا التدهور الأخلاقي إلى دور الأسرة في التربية، فالآباء والأمهات بعيدون عن دورهم التربوي في حياة أطفالهم، ثم الأمهات بسبب ضغوط الحياة اليومية المزيفة يتركن أولادهن دون إشراف وتوجيه، بينما يتجاهل الآباء دورهم في توفير البيئة المناسبة لتنمية شخصيات أبنائهم، فاليوم نرى العديد من الآباء يتجمعون في المقاهي أو يمضون وقتهم في أماكن بعيدة عن أسرهم، وللنساء حياة افتراضية لا يمكن السيطرة عليها، بينما تظل مسؤولياتهن في البيت معلقة.
نحن نعيش في عالم سريع التغير يتسم بالتوتر والضغوط، حيث الكل مشغول بمتابعة تطور التكنولوجيا، بينما يعاني المجتمع من غياب الوعي الأخلاقي والاجتماعي، فالموت أصبح أمرا عاديا في حياتنا اليومية، سواء كان ذلك من خلال الحروب، أو العن*ف المستشري، أو حتى الفوضى الاجتماعية التي تؤدي إلى تدهور الحياة الإنسانية، حيث إن الكثيرين فقدوا البوصلة الأخلاقية التي كانت توجههم نحو بناء مجتمع أكثر إنسانية، فالقيم مثل الاحترام والتعاطف والتراحم، لم تعد تحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به الإنجازات المادية، إذ يعيش البشر في عالم لا يرحم، فمن البديهي إلقاء اللوم على الآخرين دون أن نتساءل عن دورنا في هذا التدهور.
إننا جميعا سوف نواجه النهاية في يوم من الأيام، ولن يكون هناك مجال للرجوع إلى الوراء، سيغادر الجميع هذا العالم وتصبح كل هذه الإنجازات المادية مجرد ذكرى، إن التقدم التكنولوجي مهما كان عظيما لن يكون ذا قيمة حقيقية إذا لم يترافق مع احترام القيم الإنسانية ولن يكون مفيدا في ظل تحول المجتمعات الإنسانية إلى غابة يحكمها الأقوى.
عبدالرحيم الشافعي
ناقد سينمائي مغربي
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.