تقويم النظام البرلماني وإشكالية الديمقراطية في بلدان الشرق
بعد الحرب عام 2003 في العراق وتغيير النظام السابق، اختار السياسيون الجدد النظام البرلماني لحكم البلد؛ ولكنهم طيلة السنوات التي تجاوزت العشرين منذ ذلك التاريخ، أخفقوا في بناء معظم مفاصل الدولة وفي كثير من مشاريع البناء والإعمار، التي كتب لها النسيان بعد الإسهاب في الحديث عنها في حينها؛ وكان عدم الاستقرار ظاهرا، بسبب الصراعات بين الأحزاب التي اشتركت في الحكومة والبرلمان، وبات كثيرون يتحدثون الآن عن تفضيلهم النظام الرئاسي الذي يتمتع فيه الرئيس المنتخب بصلاحيات مطلقة..فما هي إيجابيات وسلبيات كلا النظامين..وهل أن الديمقراطية لا تصلح لبلدان الشرق مثلما يقول البعض؟
تلك الإشكالية تستوجب المناقشة و الحل ونحن نقترب من موعد الانتخابات العامة التي حدد لها شهر تشرين الثاني المقبل موعدا لاقامتها.
لكل من النظامين البرلماني والرئاسي إيجابيات وسلبيات، واختيار الأنسب لبلد ما يعتمد على عوامل عديدة، بما في ذلك السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي.
وبحسب الدراسات فان النظام البرلماني يفترض ان يكون أكثر استجابة لمطالب الشعب وان يقلل خطر الاستبداد، إذ إن الحكومة تعتمد على ثقة البرلمان، الذي يمثل بدوره إرادة الناخبين، و يمكن تغيير الحكومة بسهولة أكبر بسحب الثقة، ما يسمح بتعديل السياسات بسرعة أكبر لمواجهة التحديات الجديدة أو عندما تفقد الحكومة دعم الشعب.
و يضمن هذا النظام توزيع المسؤولية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يقلل من احتمالية تركز السلطة في يد شخص واحد ويزيد من المساءلة الحكومية؛ و غالبا ما يشجع النظام البرلماني الأحزاب المتعددة على المشاركة في الحكومة، مما يعكس تنوع الآراء والمصالح في المجتمع.
اما السلبيات المتعلقة بتطبيق النظام البرلماني فتتمثل في عدم الاستقرار الحكومي، ففي ظل تواجد أحزاب متعددة، قد يؤدي النظام البرلماني إلى حكومات ائتلافية ضعيفة أو قصيرة الأجل، مما ينتج عنه عدم استقرار سياسي وصعوبة في تنفيذ خطط تنموية طويلة الأجل، وقد صنفت بلدان منها العراق ولبنان، ضمن الأنظمة البرلمانية الفاشلة.
يمكن أن تتسبب الخلافات بين الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم في شلل سياسي وتأخير في اتخاذ القرارات الهامة، وهو ما شهدته العراق بعد 2003.
و في الحكومات الائتلافية او التشاركية، قد يكون من الصعب تحديد المسؤولية عن الفشل أو النجاح، اذ تتوزع المسؤولية بين عدة أطراف؛ وان المحاصصة الطائفية / الإثنية، قد تفرغ الديمقراطية من مضمونها لصالح تقاسم المغانم بين النخب.
وقد يؤدي النظام البرلماني الى ما يسمى “ديكتاتورية الأغلبية” ففي بعض الحالات، قد تسيطر الأغلبية البرلمانية بشكل كامل، مما يؤدي إلى تهميش المعارضة وصعوبة إيصال صوت المكونات والأقليات.
أما النظام الرئاسي فمن إيجابياته الاستقرار الحكومي، إذ يتمتع الرئيس المنتخب بولاية ثابتة لا يمكن سحبها بسهولة، مما يوفر استقرارا سياسيا أكبر ويسمح بتنفيذ الخطط طويلة الأجل من دون الخوف من تغيير الحكومة المفاجئ.
كما يتميز النظام الرئاسي بوضوح المسؤولية، اذ تتركز المسؤولية التنفيذية في يد الرئيس، مما يجعل من السهل تحديد من هو المسؤول عن السياسات والإنجازات أو الإخفاقات، و يمكن للرئيس اتخاذ القرارات بسرعة أكبر من دون الحاجة إلى موافقة برلمانية مستمرة، مما قد يكون مفيدا في أوقات الأزمات.
وينتخب الرئيس غالبا من قبل الشعب بأكمله، مما يمنحه تفويضا شعبيا قويا وشرعية وطنية.
اما سلبيات النظام الرئاسي فتتمثل في تركز صلاحيات كبيرة في يد الرئيس، ما قد يؤدي إلى الاستبداد وسوء استعمال السلطة إذا لم تتواجد ضوابط وتوازنات فعالة او إذا افتقدت المؤسسات الرقابية والقانونية (البرلمان القوي، القضاء المستقل)؛ و يمكن أن يحدث جمود سياسي عندما تكون هناك خلافات بين الرئيس والبرلمان، اذ قد يعوق كل طرف عمل الآخر، مما يؤثر على قدرة الحكومة على العمل.
وفي النظام الرئاسي يصعب تغيير الرئيس قبل انتهاء ولايته، حتى لو فقد الدعم الشعبي، مما قد يؤدي إلى مدد طويلة من عدم الرضا أو الأزمات، و قد يؤدي النظام الرئاسي إلى تهميش الأقلية أو الأحزاب التي لم تفز بالرئاسة، حيث لا يكون لها تمثيل مباشر في السلطة التنفيذية.
إن تلك التجاذبات وعدم استقرار معظم الأنظمة السياسية التي تعقب التغيرات في بلدان الشرق ومنه العالم العربي، وإخفاقها على اختلاف أنواعها في بناء مجتمعات مزدهرة، دفع كثيرا من الباحثين الى التساؤل: هل ان الديمقراطية لا تصلح لبلدان الشرق؟
ويجيب متخصصون بالقول، أن الادعاء ان الديمقراطية لا تصلح لبلدان الشرق هو تبسيط خاطئ لقضية معقدة، فالديمقراطية ليست قالبا واحدا يمكن تطبيقه بالشكل نفسه في كل مكان، وان نجاح أو فشل الأنظمة الديمقراطية يعتمد على عدة عوامل، من أبرزها الظروف التاريخية والاجتماعية، فلكل مجتمع ظروفه الخاصة التي تؤثر على كيفية عمل الديمقراطية، كما يفترض ان الأنظمة الديمقراطية تتطور عبر الزمن وتتكيف مع السياقات المحلية.
ويبقى الأهم ان الديمقراطية بحاجة إلى مؤسسات قوية ومستقلة (مثل القضاء والإعلام) وقوانين عادلة تضمن سيادة القانون وحماية حقوق الأفراد، و تتطلب الديمقراطية ثقافة سياسية تشجع على التسامح وقبول الآخر والمشاركة المدنية وحل النزاعات بالطرق السلمية.
و تؤثر التحديات الكبرى مثل الفقر، وعدم المساواة، والنزاعات الطائفية على استقرار أي نظام سياسي، بما في ذلك الديمقراطية، وان تفشلها اذا لم يجري التوصل الى علاجات فاعلة لتلك المشكلات؛ و عد باحثون الاقتصاد الريعي (النفط) كمعيق للديمقراطية أكثر من “ثقافة المجتمع”، على حد وصفهم.
ويمكن أن تؤثر التدخلات الخارجية بشكل سلبي على عملية بناء الديمقراطية في أي بلد، ومن ذلك تدخلات إقليمية ودولية (مثل إيران / الولايات المتحدة) في وضع العراق التي يقول باحثون انها عقدت الديمقراطية.
وفي الواقع، هناك أمثلة لدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حاولت تبني الديمقراطية بدرجات متفاوتة من النجاح، وان التحدي يكمن في بناء مؤسسات ديمقراطية قوية ومستقرة، وتعزيز ثقافة سياسية صحية، ومعالجة مشكلات الناس المعيشية والاقتصادية والخدماتية و التحديات الداخلية والخارجية، وان الديمقراطية عملية مستمرة تتطلب التزاما وجهودا حثيثة من جميع الأطراف.
وفي ظل التجربة العراقية بعد عام 2003، أصبح النقاش بشأن جدوى النظام البرلماني مقابل الرئاسي، وملاءمة الديمقراطية لبلدان الشرق الأوسط، موضوعا حيويا.
يورد بعض الباحثين امثلة يقولون انها اثبتت نجاح النظام الرئاسي بحسب رأيهم ومن ذلك تجربة مصر بعد 2013 او روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واللجوء الى الانتخابات الرئاسية المباشرة التي صححت الأوضاع بعد الانهيار، لاسيما اثر تسلم فلاديمير بوتن الحكم بالصلاحيات المطلقة التي امتلكها.
فيما تشير الدراسات الى تجارب ناجحة نسبيا من تطبيق الديمقراطية ومن ذلك تونس (قبل 2021)، نجحت في التداول السلمي للسلطة برغم التحديات، وكوردستان العراق، أدى النظام الديمقراطي هناك إلى استقرار نسبي مقارنة ببغداد، بحسب تلك الدراسات.
ومقابل ذلك تطرح إمكانية تطوير أنظمة هجينة تلائم السياق المحلي (مثل زيادة صلاحيات رئيس منتخب مع برلمان قوي)؛ ويلفت باحثون بالقول، ان التجربة العراقية أثبتت أن المشكلة ليست في النظام البرلماني نفسه، بل في كيفية تطبيقه وسط انقسامات اجتماعية عميقة ومصالح خارجية، وان التحول إلى النظام الرئاسي ليس حلا سحريا من دون إصلاح هذه الجذور.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.