مقالات

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

هذا شطر بيت قاله المتنبي، وهو بحكم المجاز كناية عن أنَّ الحياة لا تسير دائما وفق رغبات الإنسان. قال المتنبي: ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدْرِكُهُ/تَجرِي الرّياحُ بِما لا تَشْتَهِي السُّـفُنُ. فجرى قوله مجرى المثل، وشاع استعماله بهذا المعنى في سياقاتِ متنوعة، وصار تعبيراً اصطلاحيّاً لما فيه من البلاغة. وحكايتنا التي نرويها هنا ينطبق قول المتنبي عليها انطباق غطاء الطبق على الطبق. صحيح بأن سفينتنا ناقلة نفط لا تتحكم بها الريح، ولكن مصائر البشر على السفينة ذرتها الرياح.

أربعة نيجيريين سافروا خلسة قاصدين أوروبا وهم على منصَّة موجِّه (الزعن*فة الخلفية للسفينة) إحدى ناقلات النفط، لكن السفينة كانت متجهة إلى البرازيل من دون أن يعرفوا، واستغرقت الرحلة أسبوعين كاملين كادوا يموتون خلالها.

بعد منتصف الليل بقليل، حمل الشاب “رومان إيبيمين فرايداي” الطعام الذي كان يجمعه منذ بضعة أشهر -مؤنة طريق- وانطلق في الظلام إلى الميناء التجاري الكبير في مدينة لاغوس النيجيرية. في وقت سابق من ذلك اليوم، رصد فرايداي ناقلة طولها 190 متراً راسية في الميناء وقرر أنها ستكون السفينة التي ستنقله إلى أوروبا. كان فرايداي يستهدف موجِّه الناقلة – النقطة الوحيدة التي أمكن الوصول إليها على هيكلها الضخم لشخص لا يفترض أن يكون على متنها- لم تكن هناك طريقة لانتقاله من الرصيف إلى الموجِّه، غير إقناع صياد أسماك بنقله.

لقد كان رجلاً جليلاً، ذلك الصياد، يقول فرايداي متذكراً. لم يطلب المال. كان يرى أنني أريد المغادرة. عندما ثبت فرايداي نفسه على الدفة رأى، لدهشته، ثلاثة وجوه في الظلام. كان من بين أربعة رجال راودتهم الفكرة نفسها. قال فرايداي: كنت خائفاً في البداية، لكنهم كانوا أفارقة سوداً، إخوة لي، من بني جنسي.

مع ابتعاد مدينة لاغوس في الأفق حين تحركت الناقلة، حاول الرجال العثور على مواقع مريحة على الموجِّه، الذي تحرك باستمرار أثناء توجيهه السفينة، كانت هناك مساحة صغيرة للوقوف، وكان المكانان الوحيدان اللذان يسمحان بالاستلقاء عبارة عن شبكتين صغيرتين معلقتين في شكل غير مستقر فوق الماء، وضعهما مسافرون خلسة سابقون، كما افترض فرايداي. وقال: في نيجيريا لا توجد وظائف ولا مال ولا مورد رزق يتيح إطعام إخوتي الصغار وأمي. أنا الابن الأول وتوفي والدي قبل 20 سنة، لذلك يجب أن أعتني بعائلتي، لكن ما في اليد حيلة.

لقد أمضى فرايداي ثلاث سنوات يعيش في شكل متقطع في شوارع لاغوس، في محاولة للعثور على عمل. وقال إن كل يوم في نيجيريا كان بمثابة فصل من رواية “الج#ريم*ة والعقاب”. الناس يكافحون ويق*ت*لون بعضهم بعضاً والار*ها*بيون والخاطفون يشنون هجمات، لكنني رغبت في مستقبل مشرق وواعد أكثر من ذلك.

كان يجلس بجانب فرايداي على موجِّه الناقلة “ثانكغاد أوبيميبو ماثيو يي” وهو رجل دين وأعمال وأب لطفلين جرفت مزرعته التي يُنتج فيه الفول السوداني وزيت النخيل الفيضانات المدمرة التي ضربت نيجيريا. ولم يكن هناك أي مال احتياطي أو تأمين لتغطية الخسارة. وقال: دُمر عملي وأصبحت عائلتي من دون مأوى. كان هذا هو السبب في قراري المغادرة.

قرار “ثانكغاد أوبيميبو ماثيو يي” أصبح نهائياً بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها نيجيريا، والتي شابها -على كل حال- شوائب كثيرة ومزاعم “تزوير الأصوات”. وقال: “كانت الانتخابات أملنا، لكننا نعرف نيجيريا جيداً، ونعرف أن النظام فاسد”. لذلك، من دون إبلاغ عائلته، غادر منزل أخته ليلاً وانطلق إلى الميناء، حيث كان يعلم أن الناقلة “كين ويف” كانت تستعد للمغادرة. وشهدت نيجيريا هجرة جماعية في السنوات الأخيرة، عبر طرق منتظمة وغير منتظمة، مدفوعة بالركود ومستويات البطالة القياسية. ويسافر كثر عبر الصحراء الكبرى والبحر المتوسط.

شكَّل اليوم العاشر اللحظة التي كان الأربعة يخشونها إذ طال زمن الرحلة أكثر من المتوقع. في وقت ما في الصباح، أكلوا آخر ما بحوزتهم من قوت وشربوا آخر نقطة من الماء في جعبتهم. كان الأربعة يعانون بالفعل الجوع المؤلم. قال يي: “كانت هذه أصعب لحظة على الإطلاق. كان فمي جافاً وشفتاي متشققتين تماماً. للمرة الأولى في حياتي فهمت حقاً قيمة الماء”. وفي اليوم التالي، تمكن فرايداي من إرفاق غلاف ممزق للبسكويت مصنوع من السلوفان بحبل طويل وإنزاله في المحيط، على حد قوله، وجمع بواسطته كميات صغيرة من الماء المالح ليشربوها. ولعقوا معجون أسنان. وبدأوا يشعرون بالإعياء. ولم يلههم عن إعيائهم سوى مشهد الحيتان.

عندما ظهر بصيص الضوء في الأفق بعد أسبوعين من الرحلة، عاد فرايداي إلى حافة الموجّه، وحدق في الأفق، عندما شعر بأن محركات السفينة القوية بدأت في التباطؤ، ثمَّ، في الضوء الخافت، رأى يابسة، ثم مباني، ثم قارباً. كانت “كين ويف” تتوقف قبالة ساحل لتحمل طاقماً جديداً، ورصد قارب إعادة الإمداد الرجال، وتلاه قارب لخفر السواحل. وناول شرطي من خفر السواحل العالقين على دفَّة التوجيه قوارير مياه وأخبرهم أنهم وصلوا إلى البرازيل.

على البر استعاروا هواتف خليوية ليتصلوا بعائلاتهم. وفي حين بقي فرايداي ويي في البرازيل، قبل الآخران عرضاً بإعادتهم إلى نيجيريا. ينال المهاجرون إلى البرازيل رعاية طبية ومزايا أخرى فور وصولهم. وحظي النيجيريان بمأوى ودروس مجانية لتعلم اللغة البرتغالية. ويأمل يي في بدء مشروع واستقدام عائلته، في حين لا يزال فرايداي يعمل على التأقلم في مستقره الجديد، فهذه الرحلة الخطرة كانت أول رحلة يقوم بها خارج نيجيريا على الإطلاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!