مقالات دينية

ملكوت الله

الكاتب: الشماس د. كوركيس مردو
ـــ  ملكوت الله  ـــ
عبارة مهمة جداً يأتي تكرارُها دوماً في صلواتنا الخاصة الفردية، وترد كثيراً ضمن صلواتنا الطقسية الجماعية، وكفرضٍ يومي نتلو الصلاة الربية < أبانا > التي تتضمَّن < ليأتي ملكوتُك> وبرغم أهمية هذه العبارة فإن فهمَها يُساءُ بعض الأحيان. فمن المسيحيين بعضٌ يُشبِّه <ملكوت الله> بـ” طائفة” يتجمَّع فيها المسيحيون في هذه الدنيا مُشكِّلين قوة لمجابهة شعوبٍ أو طوائف اخرى مناوئة، أو قد ينتظرون نصراً من الله على “اعدائهم” هاهنا، أو غير ذلك من هذا القبيل.
ومن المسيحيين بعضٌ آخر يعتبر بأنَّ مقرَّ <ملكوت الله> ليس هنا في هذه الحياة الراهنة، بل في الحياة الأبدية القادمة وهم في الإنتظار. وإنَّ ما هو هنا الآن، هو لِمَن وصفه رسول الأمم بولس بـ”سيِّد هذا العالم” أي الشيطان. إلا أنَّ أفضل الطريق للوصول الى المعنى الحقيقي لهذه العبارة، هو التأمل بها عن طريق الكتاب المقدس.
قبل اليهودية والمسحية كان الله السرمدي المجهول من كُل الشعوب القديمة ودياناتها ملكاً لها، وبدون أن تعرفه كان الحاميَ لها والعادلَ بينها والقاضي بين الخير والشر لأنَّه الأعلى والأقوى! ومنه كان الملك الأرضي لتلك الشعوب يستمِدُّ قوَّته كنائب له، وبها يفرض قدسية لمُلكه وامتثالَ شعبه للطاعة له.
في الكتاب المقدس/ العهد القديم، كان يُنظر الى الله ملكاً فوق كُلِّ الملوك، لا نظير له في الآلهة الوثنية. كانت نظرة الشعب الى الله في العهد القديم كملك دوماً، ولكنَّ تلك النظرة كانت تتفاوت عِبرَ تاريخه الطويل.
عندما تجسد الكلمة الإقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، كان الزمن قد أصبح مهيَّئاً عند البعض، وتمخَّض عن تصوُّرٍ ارضي دنيوي للملك المُنقذ الآتي من سُلالة داود. بأنَّ الملك الآتي سيُنصرهم على الأمم المحيطة بهم، ولا سيما الأمة الرومانية التي كانوا رازحين تحت سلطتها، ويؤسس ملكاً لا نهاية له! بينما كانت هناك جماعة قليلة مؤمنة وتقية، ” تنتظر الخلاص لإس*رائي*ل” ولكن بطريقةٍ روحية.
لقد خصَّصَ يسوع السنوات الثلاث الأخيرة من حياته الأرضية لرسالته التبشيرية، وخلالها تجنَّب لقب الملك، وتهرَّب من الجموع الغفيرة عندما الحّواعلى تنصيبه ملكاً إثر مُعجزةٍ كبيرة. أحدث دخول يسوع الى اورشليم ممتطياً ظهر “حمار” رمز التواضع صدمة كبيرة، دفعت باليهود الى اتخاذ قرار بق*ت*ل هذا الملك المتواضع كما قال عظيم الكهنة قيافا: ” خير أن يموت رجل واحد عن الشعب” (يوحنا 18: 14).
بدأ يسوع كرازته بالتبشير “بملكوت” قائلا: < توبوا فقد اقترب ملكوت السموات > كما قاله قبله تماماً المُرسَل أمامَه يوحنا المعمذان. ولكنَّ الملكوت الذي بشَّر به يوحنا ونادى به يسوع، كان عكس المملكة التي كان يتوقعها رؤساء اليهود، ولهذا ردَّ يسوع على سؤال بيلاطس ” أأنت ملك اليهود؟ ” < ليست مملكتي من هذا العالم >.
سأل يسوعَ تلاميذُه قبل آلامه: ” متى يأتي الملكوت؟” فصرخ بهم قائلاً: < في جملة الحاضرين هَهُنا مَن لا يذوقون الموت حتى يُشاهدوا ملكوت الله آتياً بقوة > (مرقس 9: 1). يفسِّر الآباء القديسون هذه الجملة، بأنَّ الرب يسوع كان يقصد بـ” ملكوت الله” هنا حادث التجلّي الذي حدث بعد ستة أيام من هذا الحديث، حيث مضى يسوع ببطرس ويعقوب ويوحنا، فانفرد بهم وحدهم على جبل عالٍ، وتجلَّى بمرأًى منهم. أو هو أحداث موته وقيامته وتأسيس الكنيسة في العنصرة.
فيتضح بأنَّ ملكوت يسوع هو حالة ” مجدِه” الظاهر للشهود العيان. وقد أعلن يوحنا الحبيب على لسان الرب < وأنا وهبت لهم ما وهبتَ لي من المجد > (يوحنا 17: 22) . فالمجد إذاً هبة، فمعاينة مجد الله من قبل الإنسان لا تعني المُشاهدة بل الإختبار!
ولما عاين بطرس مجد يسوع على جبل ثابور، كان ذلك اختباراً دفعه للقول ليسوع: < يا معلِّم، حسن أن نكون هَهُنا > (لوقا 9: 23). إذاً مرأى مجد الله هو اختبار حياة الله في هنائها وحُبِّها ووحدتها بما هو مستطاع. فملكوت الله هو حالة العِشرة مع الله التي يُشارك بها حياتَه مع حياتنا هنا!
وفي قولنا: < ليأتي ملكوتُكَ > تُرتِّبُ علينا هذه الطِّلبة أن نعيش حياتنا على شبه حياة الله، وبتعبير آخر أن نُحسَّ بحلول الله بيننا، عن طريق النعمة الإلهية التي نختبرها في حياتنا وفي قلوبنا. وفي ذات الوقت تعني هذه الطِّلبة حالة انتظار وترقُّب لحلول ملكوت الله كُلِّياً عند مجيء المسيح الثاني.
< ملكوت الله في داخلكم > في شرحهم لهذه الجملة التي تبدو غريبة، يُشدِّدُ الآباء القديسون في تفسيرها بقولهم: أولاً، إنَّ اختبار الملكوت هو نهجٌ روحي داخلي يتم في القلب وليس في بلدٍ او موقع جغرافي أو زمن محدَّد! ملكوت الله يتمثَّل في جعلنا يسوع يملك وحده في قلوبنا! < ملكوت الله طُهرٌ وبِرٌّ وسلام >.
وثانياً، أما عبارة < في داخلكم > يُقصَد بها “فيما بينكم” وهو اجتماع المؤمنين سوية، كحضورهم في الكنيسة، فيكون الله في وسطهم. ملكوت الله إذاً هو في وسط المؤمنين، في بيئتهم ومُجتمعهم، في طريقة حياتهم المُثلى، كارتيادهم الى الكنيسة كما اسلفنا، يشهدون ويُصلون، حيث أنَّ مشيئة الله لكُلِّ مؤمن هي أن يُصلّي ويشهد في حياته الفردية وجهاده الروحي ونقاوته الداخلية.
< أنتم هيكل الله الحي > ملكوت الله في قلب كُلِّ مؤمن، وهو نهجُ حياة تُمثِّلُه وتُعِدُّه “الكنيسة” عند اجتماع المؤمنين، حول الكأس المقدسة ولا سيما في العشاء السري، يهتفون على الفور: مباركة ” مملكة الآب والإبن والروح القدس”.
< ليأتِ ملكوتك >، تعني  < لتكن مشيئتك >. المؤمنون إذاً أبناء الملكوت، الذين يحفظون وصيَّة السيِّد ويعملون مشيئته في حياتهم.      ( المقالة مستوحاة من كتاب < السائحان بين الأرض والسماء >  – الله والإنسان – ج 2 . )
الشماس د. كوركيس مردو
في 22 / 7 / 2015 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!