مفارقة الدينار العراقي: قوة وهمية وأسعار لا تنزل
في كل مرة تنخفض فيها قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي يواجه العراقيون ارتفاعا في أسعار السلع والخدمات؛ غير ان الاسعار لا تنخفض إذا حدث العكس؛ بمعنى أن قيمة الدينار أمام الدولار تشهد منذ مدة ارتفاعا في السوق الموازية، بحيث انخفض سعر 1 دولار أميركي الى 1390 دينار عراقي في احيان كثيرة بعد أن كان يتجاوز 1500 ومع هذا لم تشهد الاسواق انخفاضا في الاسعار، فلماذا بقيت الاسعار في السوق على حالها ولم تنخفض برغم الانخفاض الملحوظ في سعر الدولار؟
برأي المتخصصين والدراسات الاقتصادية، فان الامر يعكس ظاهرة اقتصادية شائعة تعرف باسم “جمود الأسعار” أو “التصاق الأسعار إلى الأسفل”، بمعنى ان، الأسعار تميل إلى الارتفاع بسهولة عندما ترتفع التكاليف (مثل انخفاض قيمة العملة المحلية)، ولكنها لا تنخفض بالسهولة نفسها عندما تنخفض التكاليف (مثل تحسن قيمة العملة المحلية).
ويرجع ذلك الى عدة أسباب تفسر هذه الظاهرة في العراق وفي عديد الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على الاستيراد، منها تكاليف المخزون والاستيراد؛ ويتمثل ذلك بالمخزون الحالي، اذ ان التجار لديهم مخزون من السلع التي جرى استيرادها عندما كان سعر الدولار أعلى.
و لتجنب الخسارة، يفضلون بيع هذا المخزون بالأسعار التي تغطي تكاليفهم الأصلية، يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يجري استنفاد هذا المخزون ويبدأ التجار في استيراد سلع جديدة بأسعار صرف أفضل؛
كما ان عمليات الاستيراد و ما يسمى “سلاسل الإمداد” في العمليات التجارية ليست فورية، وقد تستغرق السلع أسابيع أو حتى أشهر للوصول من بلد المنشأ إلى الأسواق العراقية، مما يعني أن تأثير تحسن سعر الصرف قد يستغرق وقتا ليظهر على السلع المستوردة.
وهناك عامل رئيس آخر ايضا يؤدي الى بقاء سعر السلعة وعدم انخفاضها برغم ارتفاع قيمة العملة المحلية قياسا بالدولار وهذا العامل يتمثل في جشع التجار وهيمنة السوق، ففي بعض الحالات، يستغل التجار فرصة ارتفاع الدولار لرفع الأسعار، وعندما ينخفض الدولار، لا يكون هناك حافز كاف لهم لخفض الأسعار، بخاصة إذا كانت لهم سيطرة على السوق أو غابت المنافسة الشديدة التي تدفعهم إلى ذلك.
وقد يلجأ التجار إلى “تثبيت” الأسعار عند مستوى معين لتحقيق أقصى ربح ممكن.
و إذا كان هناك توقع مستمر بارتفاع الأسعار في المستقبل بسبب التضخم مثلا، فإن التجار يميلون إلى عدم خفض أسعارهم حتى عند تحسن سعر الصرف، خوفا من أن يعاود الدولار الارتفاع مرة أخرى ويخسروا.
وتؤثر توقعات التضخم على سلوك المستهلك أيضا، الذي قد يقبل الأسعار المرتفعة معتقدا أنها لن تنخفض أو ترتفع أكثر،
و حتى لو انخفض سعر الدولار، هناك عوامل تكلفة أخرى قد لا تنخفض أو قد تزيد، مثل تكاليف النقل الداخلي، الإيجارات، أجور العمالة، الضرائب، والرسوم الجمركية؛ هذه التكاليف يمكن أن تحد من قدرة التجار على خفض الأسعار.
و ان البنية التحتية الضعيفة والفساد يضيفان تكاليف اخرى على السلع والخدمات، بغض النظر عن سعر صرف الدولار، كما ان غياب الرقابة الفعالة من قبل الجهات الحكومية على الأسعار يمكن أن يسمح للتجار بالحفاظ على الأسعار مرتفعة حتى في ظل تحسن سعر الصرف.
وعندما ترتفع الأسعار بشكل حاد بسبب انخفاض قيمة العملة، يتأثر المستهلكون والمجتمع بهذه الصدمة؛ حتى عندما تتحسن الظروف، قد تبقى ما تسمى “ذاكرة الأسعار المرتفعة” قائمة، مما يجعل قبول الأسعار المرتفعة أسهل من قبول خفضها.
ولكي تنخفض أسعار السلع مع تحسن قيمة الدينار، يتطلب الأمر
استقرارا طويل الأمد لسعر الصرف، وليس مجرد تقلبات مؤقتة، و زيادة المنافسة في السوق، لتدفع التجار لخفض الأسعار، و رقابة حكومية فعالة، للسيطرة على الأسعار ومراقبتها ومنع الاحتكار.
ومن العوامل الفعالة دعم الإنتاج المحلي، لتقليل الاعتماد على الاستيراد وتقليل تأثير تقلبات سعر الصرف، و سياسات اقتصادية كلية مستقرة، لتعزيز الثقة في الاقتصاد ومنع توقعات التضخم.
وباختصار فإن عملية تعديل الأسعار نحو الانخفاض عادة ما تكون أبطأ وأقل مرونة من تعديلها للأعلى، وهذا ما يفسر استمرار ارتفاع الأسعار حتى مع التحسن النسبي في قيمة الدينار العراقي.
ويسهم تعزيز الإنتاج المحلي والتصنيع، وتقليل الاستيراد في الحفاظ على قيمة العملة المحلية عن طريق زيادة الصادرات، وتخفيض الطلب على العملات الأجنبية، وتحسين الميزان التجاري؛ هذا يؤدي إلى زيادة الثقة في العملة المحلية وزيادة الطلب عليها، ما يعزز قيمتها.
وعندما يدعم البلد إنتاجه المحلي ويقلل من اعتماده على الاستيراد، فإنه يصبح قادرا على تصدير مزيد من السلع والمنتجات، و مع زيادة الصادرات وتقليل الاستيراد، يقل الطلب على العملات الأجنبية المطلوبة لشراء السلع المستوردة، مما يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية.
وعندما تتفوق قيمة الصادرات على الواردات، يتحقق فائض تجاري، مما يعزز الاقتصاد ويؤدي إلى زيادة الاحتياطيات الأجنبية للبلد؛ هذا الاستقرار الاقتصادي ينعكس إيجابا على قيمة العملة.
و عندما يرى المستثمرون والأسواق أن البلد يتمتع باقتصاد قوي ومستقر بفضل الإنتاج المحلي والتصنيع، يزداد إقبالهم على الاستثمار في هذه العملة، مما يزيد من الطلب عليها ويحافظ على قيمتها.
ومع زيادة الإنتاج المحلي، يقل الاعتماد على السلع والمنتجات المستوردة، مما يقلل من الضغط على العملة المحلية ويدعم قيمتها.
لذلك فان تعزيز الإنتاج المحلي والتصنيع وتقليل الاستيراد عوامل أساسية للحفاظ على قيمة العملة المحلية وتعزيز الاقتصاد الوطني؛ وهو ما يجب ان تعمل عليه الحكومة بتشغيل المصانع المتوقفة وانشاء مصانع جديدة تنتج جميع متطلبات الاستهلاك المحلي مع امكانية تصدير الفائض، وكذلك تنشيط الانتاج الزراعي للوصول بالسوق المحلية الى الاكتفاء الذاتي، فتنتفي الحاجة الى العملة الاجنبية لاستيراد المنتجات الزراعية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.