عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام –
د.حمدي سيد محمد محمود
تمثل الثقافة الرقمية التي نشأت عن تطورات الذكاء الاصطناعي نقطة تحول مفصلية في مسار علوم الإعلام والاتصال، حيث أصبح الحقل الإعلامي يعيش تحوّلات بنيوية لم تشهدها الأجيال السابقة، سواء على مستوى إنتاج المحتوى، أو توزيعه، أو تلقيه، أو حتى تحليله وفهمه. في هذا السياق، تتبلور آفاق مستقبلية جديدة تعيد تشكيل هوية الإعلامي، وتعيد تعريف وظيفة الاتصال، وتدفع باتجاه نظريات جديدة لفهم الديناميات الاتصالية داخل المجتمع الرقمي.
أولاً، تشهد علوم الإعلام تحوّلاً في الوظائف التقليدية للمؤسسات الإعلامية. ففي ظل أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على توليد الأخبار، تحريرها، وتصنيفها وفقاً لسلوك المستخدم واهتماماته، لم تعد الصحافة الورقية أو حتى الرقمية التقليدية قادرة على مجاراة السرعة والكفاءة التي تقدمها خوارزميات التعلم الآلي. وهذا يستدعي ضرورة إعادة النظر في الأطر المعرفية والنظرية التي تحكم ممارسة العمل الإعلامي، وتطوير منظومات تعليمية جديدة تدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مناهج الإعلام.
ثانيًا، يشهد علم الاتصال نقلة نوعية نحو ما يمكن تسميته بـ**”الاتصال المؤتمت والذكي”**، حيث أصبحت عمليات التواصل لا تُبنى فقط على أساس البث البشري المباشر، بل باتت تعتمد بشكل متزايد على الروبوتات التفاعلية، والمساعدات الذكية، وتقنيات التحليل العاطفي والسلوكي، مما يفتح المجال أمام دراسات جديدة حول الذكاء العاطفي الاصطناعي وتأثيره على التفاعل الاجتماعي، وإعادة تعريف مفاهيم مثل الجمهور، الرسالة، والتأثير.
ثالثًا، يفرض الذكاء الاصطناعي على ثقافة الإعلام والاتصال تحديًا أخلاقيًا ومعرفيًا يتمثل في ضرورة وضع أطر معيارية جديدة للتعامل مع إنتاج المعلومات، خصوصاً في ظل ظاهرة “التزييف العميق” Deepfake، وخوارزميات التضليل، ونماذج اللغة القادرة على إنتاج محتوى غير قابل للتمييز عن النصوص البشرية. هذه الظواهر تفرض ضرورة بلورة مواثيق إعلامية حديثة تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الذكاء الاصطناعي وتحدياته القيمية.
رابعًا، تتجه علوم الإعلام والاتصال إلى تشبيك معرفي متعدد التخصصات، حيث لم تعد دراسة الإعلام ممكنة دون استيعاب أدوات التحليل البياناتي، والتفكير الخوارزمي، وفهم تصميم الأنظمة الذكية. إن هذا التداخل المعرفي يفتح أمام الباحثين آفاقًا رحبة للتفاعل مع علوم الحاسوب، وعلم النفس المعرفي، وعلم الاجتماع الرقمي، مما يعيد صياغة التخصصات الأكاديمية في الجامعات ويطرح الحاجة إلى أقسام جديدة في كليات الإعلام تحت مسميات مثل “إعلام البيانات” أو “اتصال الذكاء الاصطناعي”.
خامسًا، يرتبط مستقبل الإعلام والاتصال أيضًا بإعادة تشكيل السلطة الإعلامية نفسها، فمع صعود المنصات الرقمية العملاقة (مثل ميتا، غوغل، تينسنت، علي بابا…) وتحوّلها إلى جهات تتحكم بخوارزميات الوصول إلى الجمهور، لم تعد الدولة ولا المؤسسات الإعلامية التقليدية تملك مفاتيح التحكم بالمجال الاتصالي، وهو ما يدعو إلى بناء نظريات جديدة في السيادة الرقمية، والتحكم المعلوماتي، والاستقلالية الاتصالية، ضمن بنية دولية تتسم بعدم التماثل واللاتوازن.
سادسًا، تبرز إمكانات الذكاء الاصطناعي في تحليل المحتوى الإعلامي، والتنبؤ باتجاهات الرأي العام، وفهم أنماط السلوك الاتصالي على منصات التواصل الاجتماعي، مما يمكّن من تطوير أدوات جديدة لقياس التأثير الإعلامي، وصياغة رسائل أكثر دقة وتأثيرًا، وهو ما يعيد الاعتبار إلى نماذج الاتصال الموجه والمُشخصن، القائم على البيانات الضخمة ومعالجة اللغة الطبيعية.
وفي الختام، فإن الآفاق المستقبلية لعلوم الإعلام والاتصال في ظل الثقافة الرقمية لعصر الذكاء الاصطناعي ليست فقط واعدة، بل تتطلب تجديدًا جذريًا في الفكر والممارسة والمناهج، والانخراط في جدل فلسفي وأخلاقي عميق حول معنى الاتصال في عصر ما بعد الإنسان. إنها دعوة لإعادة صياغة الحقول المعرفية، وبناء جيل جديد من الإعلاميين والعلماء القادرين على فهم الذكاء الاصطناعي لا كمجرد أداة، بل كفاعل جديد في المنظومة الاتصالية العالمية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.