مقالات

سقوط الجمهورية الماكرونية وشيك !!! – الواسع محمد اليمين

فرنسا تحتضر: قراءة في أزمات الدولة الحديثة
إن عام 1958 كان بمثابة سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة، التي كانت عاجزة عن معالجة الأزمات الداخلية والخارجية، ولا سيما قضية الجزائر. لكن في الوقت ذاته، كان هذا التحول بمثابة ولادة الجمهورية الخامسة على يد الجنرال ديغول، الذي تمكن من استعادة الاستقرار السياسي في فرنسا عبر إقرار دستور جديد ومنح نفسه سلطات واسعة. وتعد هذه المرحلة نقطة فارقة في التاريخ الفرنسي، حيث شكلت بداية جديدة لنظام سياسي وحكومي قوي، لكنه كان أيضًا انعكاسًا لعمق الأزمة التي عانت منها الجمهورية في مواجهة ثوار الجزائر.فهل بعيد التاريخ نفسه وتسقط الجمهورية الماكرونية ؟
تشهد الجمهورية الفرنسية في السنوات الأخيرة سلسلة من التحوّلات العميقة التي دفعت عدداً من المفكرين والمراقبين إلى استخدام تعبير “فرنسا تحتضر” لوصف الحالة الراهنة. هذا التعبير، رغم طابعه الدرامي، يعكس تراكماً لأزمات متعددة الأبعاد—اقتصادية، اجتماعية، سياسية، وثقافية—تؤثر في البنية العميقة للدولة والمجتمع الفرنسيين.ومصطلح “فرنسا تحتضر”يشير إلى حالة شاملة من التراجع تطال الاقتصاد، المجتمع، السياسة، والثقافة. ولا يُفهم هذا التعبير على أنه توصيف انفعالي، بل هو مدخل لفهم تحوّل عميق يتطلّب تفكيكاً علمياً ورؤية تحليلية.

أولاً: الأزمة الاقتصادية ومحدودية النموذج الاجتماعي

رغم محاولات الدولة الفرنسية الحفاظ على دولة الرفاه عبر تقديم خدمات اجتماعية واسعة، فإن الاقتصاد يعاني من اختلالات هيكلية تتمثّل في ارتفاع معدلات البطالة (خاصة بين الشباب والعمالة غير الماهرة)، وتباطؤ النمو، وتراكم الدين العام، مما أدى إلى تراجع في مستوى الثقة بالاقتصاد الوطني.

يذهب توماس بيكيتي (Thomas Piketty) في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” إلى أن التفاوت الاقتصادي المتزايد في فرنسا يُهدد التماسك الاجتماعي ويعيد إنتاج الامتيازات الطبقية. كما أن السياسات التقشفية التي اتُّبعت منذ الأزمة المالية لسنة 2008 ساهمت في تقليص قدرة الدولة على معالجة الفوارق.

ثانياً: الهشاشة الاجتماعية وتحديات الهوية

تُعدّ الأزمة الاجتماعية من أكثر الأزمات تعقيداً، إذ تتقاطع فيها مشكلات التهميش، والعنصرية البنيوية، وفشل سياسات الإدماج. وقد باتت الضواحي الباريسية رمزاً لفشل الدولة في تحقيق الاندماج والتكافؤ بين المواطنين. تشير دراسات مثل تقرير Institut Montaigne (2016) إلى أن جزءاً كبيراً من شباب المهاجرين يشعرون بأنهم “غير فرنسيين بما فيه الكفاية” وفق المعايير المفروضة عليهم.

تُعزّز هذه الهوة الاجتماعية مشاعر الغضب والاغتراب، كما ظهر في حراك “السترات الصفراء”، الذي مثّل احتجاجاً صامتاً وطويلاً على ما يُ perceived على أنه “جمهورية النخب”.

ثالثاً: أزمة التمثيل الديمقراطي وصعود الشعبوية

من بين أبرز المؤشرات على “احتضار” فرنسا السياسي، تراجع نسب المشاركة في الانتخابات، وتآكل الأحزاب التقليدية، وصعود تيارات يمينية متطرفة مثل حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان. هذا التحول يعكس أزمة ثقة شعبية عميقة في المؤسسات السياسية، وهي أزمة تتكرر في العديد من الديمقراطيات الغربية يمثّل الصعود المتسارع لليمين المتطرف في فرنسا أحد أبرز المؤشرات على الأزمة العميقة التي تمر بها الجمهورية. فقد استطاعت شخصيات مثل مارين لوبان، زعيمة حزب “التجمع الوطني” (Rassemblement National)، تحويل هذا التيار من قوة هامشية إلى فاعل مركزي في الساحة السياسية. في انتخابات 2022 الرئاسية، وصلت لوبان إلى الدور الثاني، وهو ما يعكس تحوّلاً في المزاج الشعبي الفرنسي، وكسراً لما كان يُعرف بـ”الجبهة الجمهورية” التي كانت تمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة.

تعكس هذه الظاهرة أزمة مضاعفة: من جهة، تراجع ثقة المواطن في النخب السياسية التقليدية، ومن جهة أخرى، تنامي الخطاب القومي، المعادي للهجرة، والذي يحمّل الأجانب، والمسلمين تحديداً، مسؤولية التراجع الاقتصادي والثقافي.

يلاحظ المفكر ميشيل فيزوليه (Michel Wieviorka) أن صعود اليمين المتطرف ليس فقط استجابة لأزمة اقتصادية، بل نتيجة مباشرة لفراغ قيمي أحدثه فشل الدولة في تمثيل تنوع المجتمع الفرنسي. وقد ترافق هذا الصعود مع خطاب يستعيد مفردات “الهوية الفرنسية”، و”التهديد الإسلامي”، و”الاستعادة الوطنية”، في تجاهل واضح لمبادئ الجمهورية الأساسية: الحرية، المساواة، والأخوة.

في هذا السياق، أصبحت شعارات مثل “فرنسا أولاً” أو “استعادة السيادة” أدوات فعالة في جذب فئات اجتماعية متضررة من العولمة والنيوليبرالية، ما يجعل من اليمين المتطرف قوة سياسية متجذرة في نسيج الأزمة وليس فقط نتيجة لها.

إن توسع اليمين المتطرف يُنذر بإعادة تشكيل الحياة السياسية الفرنسية حول انقسام جديد: بين نخبة ليبرالية معولمة، وطبقات شعبية تعاني من التهميش وتبحث عن بدائل سياسية، حتى لو كانت متطرفة.

يرى بيير روسانفالون (Pierre Rosanvallon) في كتابه “مجتمع غير مرئي” أن المؤسسات الفرنسية باتت عاجزة عن تمثيل تعددية الواقع الاجتماعي والثقافي في البلاد، وأن “الديمقراطية التمثيلية” لم تعد كافية دون أطر جديدة للمشاركة والمساءلة.

رابعاً: الثقافة، العلمانية، وصراع القيم

تعيش فرنسا اليوم حالة من التوتر حول مسألة الهوية والقيم الجمهورية، خاصة في ظل تنامي الخطاب حول “الانفصالية الإسلامية”، والهجرة، وتعليم القيم العلمانية. النقاش حول قانون الحجاب في المدارس وفرض “الحياد الديني” يُظهر عمق الانقسام في فهم العلمانية: هل هي أداة للحرية أم وسيلة للإقصاء؟

تشير الباحثة جون سكوت (Joan Wallach Scott) في كتابها The Politics of the Veil إلى أن النقاش الفرنسي حول الحجاب ليس نقاشاً دينياً بقدر ما هو صراع على الهيمنة الثقافية ومفهوم المواطنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!