مقالات

بين غربتين.. رواية ل سعاد الراعي – صباح كنجي

الجزء الأول من رواية بين غربتين لسعاد الراعي.. من الروايات الجديدة.. منشورات آريس ـ المانيا 2025..230 صفحة من القطع المتوسط.. بتصميم جميل.. ولغة سلسة معبرة تختصر الكثير من الوقائع.. التي تشكل جزء من سيرة ذاتية للكاتبة.. برؤية واعية لمجرى احداث معقدة.. في رحلة محطات للغربتين.. كما تنوه في المقدمة..
(هي رحلة مضطربة من عمر امرأة توزّع بين ضفتي دولتين، ولسنتين: ضفة الذاكرة، وضفة المنفى. تبدأ من لحظة عبور عتبة الطائرة، تاركة خلفها وطناً مألوفاً، مأهولاً بالمخاطر، إلى أرضٍ غريبة تجهلها، ومنذ الخطوة الأولى على الأرض الغريبة، كانت الريح معاكسة، والعاصفة في الانتظار)..
رحلة تجمع النقائض والمواقف المشكلة لبنية النص الروائي.. في سلسلة تنقلات عبر ازمنة وإمكان غير مختارة احياناً.. مفروضة على الشخصية الرئيسية في العمل.. من خلال حركة احداث.. تعصف بها مع شريك حياتها.. الذي يواجه تحديات سياسية.. ويتعرض لانتكاسة صحية.. تشكل محور غربته مع ذاته.. التي تتعرض للانكسار والتغيير.. وتصدم بسلوكه في اول لقاء لها معه بعد الفراق ومغادرته للوطن حينما تؤكد..
(لم يكن زوجها كما عرفته؛ التبدّل الذي طرأ عليه لم يزدها إلا اغتراباً، فصارت غربة في حضن غربة، وانقسمت الروح على ذاتها.)
لتشكل اول صفحات الغربة العائلية.. بين معاناة زوجة مصدومة.. تواجه مصيرها في أجواء ملاحقات سياسية وتحديات الاختفاء والبحث عن ملاذ آمن خارج حدود الوطن.. في أجواء واحضان غربة مركبة.. تجمع بين غربتها العائلية ومعاناتها الاسرية النفسية.. التي تسعى لمعالجتها بصبر ووعي.. وتكافح للاحتفاظ بشريك حياتها.. في محطات الغربة الجغرافية.. بين بلغاريا واليمن..
لتكتشف الوجه الآخر الاعمق والأخطر للغربة في المنفى..
(في المنفى، لم تكن الغربة جغرافيا، بل كانت شبكة متشابكة من صراعات خفية، داخل جماعة ظنّت أنها موحّدة، لكنها كانت تمزقها التناقضات والمصالح الشخصية.)
كل ذلك في خضم منعطف جديد.. واستعدادات جارية للتحول لمشروع مقاومة ثوري.. يجري الاعداد له.. لمواجهة الدكتاتورية.. والمطلوب المشاركة في صفحاته.. التي تسردها الرواية بسلاسة.. مع تصاعد خيوط الدراما.. في أكثر من مشهد.. يسفر عن ولادة احداث جديدة.. أكثر تعقيداً.. تفضح الكثير من المسلمات.. وتكشف عن هشاشة علاقات مفككة.. تبدأ بالأسرة.. التي تشهد ولادة طفلها الأول.. حيث يغادر الاب.. ليواجه مصيره.. حينما يسجل كشهيد.. من شهداء الحركة الانصارية.. في ظل معادلة كفاح وصراع.. غير متكافئة مع النظام الاستبدادي.. والطبيعة القاسية بين جبال كردستان..
سبقها تداعيات سلوك صادم من الزوج.. في بلغاريا من لحظة وصولها الى العاصمة مع مفاجأة عدم حضور شريكها لاستقبالها في المطار لأسباب واهية.. سبقها محاولة اقتحام غرفة نومها في اليمن.. من قبل أحد رفاق زوجها.. منتهزاً استغلال لحظات المغادرة.. عندما كان يتناول المشروبات الكح-و*لية.. مع شلة رفاق على السطح في اليمن.. وخطط لنزوته.. بعد أن غادرهم.. ليهبط في نزوله كي يتسلل لغرفتها بقصد الت*حر*ش واستغلال الفرصة..
(فجأة، اهتز سكون الليل بصوت الباب يُفتح ببطء، ليطل منه شبح مجهول، يخطو إلى عتمة الغرفة كأنه ظل ينسل بخفة اللصوص. تسارعت نبضاتها، تجمدت في مكانها لحظة، ثم صرخت بذعر: من هناك؟! قفزت من فراشها، وعيناها تجولان في الظلام، تبحث عن ذاك الطيف المريب، لكن ما إن تقدمت حتى كان قد تلاشى كما لو أنه لم يكن).
لتشكل صدمة جديدة لها.. في خضم علاقات واهية.. تدفعها للمزيد من الحذر والتدقيق.. في مجرى احداث قادمة.. تشكل لها أساساً لرؤية ناقدة.. حيث بدأت تتفحص المواقف.. وتعيد بناء نفسها.. لمواجهة احتمالات منعطفات وصدمات جديدة قادمة.. في مجرى حياتها.. التي اخذت تتعقد.. لتعكس من خلالها ملامح امرأة واثقة من نفسها.. ومن خطواتها.. ومناضلة تكافح من اجل حياة أفضل.. لتواجه مصيرها.. وتبحث عن ذاتها في أجواء غربة قاسية.. تسفر عن تمزق علاقات.. وخسارة المزيد من “الأصدقاء” من اصحاب الوجوه المتعددة بسبب فقدان القيم..
حذر وتدقيق مستند على ركيزتين قويتين من الصبر والتحمل.. زادها يقيناً.. ومنحها القدرة لتشخص موقفها المدرك لطبيعة الصراعات المعقدة.. وتحتاط عن قناعة راسخة لمجرى احداثها واحتمالاتها.. وفقاً لمستلزمات قانون الزمن المتحكم بالمتغيرات..
(كانت تعلم أن بعض الصراعات لا تُحسم بالكلمات، بل بالصبر، بالصمت الموجع)..
رواية سردية ـ تحليلية.. لا تخلو من معلومات معرفية.. وتصوير دقيق لمعاناة الناس والمناضلين في العراق واليمن وبلغاريا..
وكذلك الحال مع فصل سلام عادل.. الذي نقلت فيه جانباً مهماً ومخفياً من سيرة حياة هذه الشخصية السياسية العراقية المتميزة.. التي أصبحت امثولة ورمزاً من رموز الكفاح والصمود الأسطوري.. في مواجهة طغيان الاستبداد البعثي.. من خلال مواقف ظريفة.. بحكم اطلاعها عن قرب على تفاصيل تحركاته وتنقلاته.. (لم يكن سلام عادل بطلاً بمقاييس العاديين، بل تجسيدًا لحكمة الشجاعة ومكر الذكاء في آن. رجل يتقن فنّ التخفي كما يتقنه الضباب حين يلامس عيون الناظرين، ثم يتوارى كأن لم يكن. كان سيد الأقنعة، يُبدّل ملامحه ببراعة ساحرٍ من وقت لآخر، فلا تعرفه عين، ولا تلتقطه ذاكرة. هو الشخص الذي يظهر في كل مرة بهيئة جديدة: راعٍ بسيط، بدويّ حافٍ، شيخ أحدب، متسول أبكم، أو حتى أعرج مبتلى… وكان لكل هيئةٍ اسمٌ سريٌّ تتداوله الأسرة خفية، وكان “المعيدي” أكثر الأسماء شيوعًا حين يُبشّرون والدته بقدومه وخاصة حين لا تكون في البيت او عند الجيران…. أتذكر كيف كانت والدتي وهي تسرد لنا ذكرياتها، باعتزاز يعتصره الحنين، أن حسين طرق بابهم ذات مساء، في، هيئة متسوّل أنهكه الجوع وأذلّه العطش، بثياب بالية ونظرات تائهة لا يكاد يُعرف لها ملامح. رقّ له قلبهم، فأطعموه ما تيسّر من زاد، وسقوه من ماء الكرامة ما يُذهب الظمأ ويُنعش القلب، دون أن يدروا أنهم أمام فلذة كبدهم. وحين امتلأ جوفه وشكرهم بصوت خفيض، بدأ ينزع أردية التخفي، قطعةً تلو الأخرى، وإذا بالدهشة تنفجر في المكان كبرقٍ مباغت.. لقد كان هو، حسينهم).
من خلال رواية والدتها زهرة للأحداث.. زهرة أمها.. قريبة سلام عادل.. ولجوئه للاختفاء عند اسرتها بين الحين والآخر.. وتسرد الرواية مجموعة مواقف ونوادر.. تدفع بالقارئ.. لمتابعة احداثها بشوق ليواصل بلا ملل.. بقية فصول العمل.. التي لا تخلو من المواقف الساخرة.. وتجعله يواكب صفحاتها بلا انقطاع.. كأنه في أجواء فيلم سينمائي..
رواية اجتماعية.. لها هدف.. وفيها رؤية إنسانية.. لمكافحة من اجل الحرية.. تخطت بذكاء معاناة الغربة.. غربة عائلية وما فيها.. من غربة الروح مع الجسد.. وهشاشة علاقة زوجية غير متكاملة.. وغربة تنقلات في محطات.. تترافق بنشوء ونمو غربة علاقات سياسة وفكرية متهرئة في المهجر..
كما هي في ذات الوقت غربة زمن.. مع أجيال لها قيم وتوجهات جديدة.. وهي غربة امرأة تواجه مصيرها بتحدي لا يلين.. تأبى الانكسار.. وتقف بالمرصاد للانتهازيين وأصحاب الوجوه المتعددة..
(رغم كل ما مرّت به، لم تنحنِ. كانت الغُربتان ـ تلك التي خارج الجسد، وتلك التي تسكن الروح ـ كجمرتين ـ تلسعانها، لكنّها لم تسمح لهما أن تحوّلاها إلى رماد، بل صهرتْ ألمهما في أعماقها، حتى صارتا نوراً ينير قلبها، ودفئاً يغذّي ذاكرتها.)
رواية تستحق القراءة والثناء والتقدير.. على امل أنْ لا تدعنا ننتظر.. فالانتظار غربة يا ام فرات.. قبل ان تستكمل.. بقية احداث ابداعها في الجزء الثاني من العمل الروائي.. الذي حمل عنوان (بين غربتين)..
ــــــــــــــــــــ
27/6/2025 ـ هامبورغ

ـ سعاد الراعي كاتبة عراقية من النجف.. لها كتابات أدبية وفكرية وسياسية في موقع في الحوار المتمدن منذ تشرين الثاني عام 2024 استقطبت من خلاله عدد كبير من القراء في فترة زمنية قصيرة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!