مقالات

المال السياسي في الانتخابات العراقية: تهديد دستوري أم ضرورة

بقلم: د.ياسر الزبيدي
لا شك أن المال يُعد أحد أدوات العمل السياسي المشروعة في جميع بلدان العالم ، لكنه حين يُستخدم بلا رقابة ولا ضوابط قانونية، يتحول من وسيلة مشروعة إلى سلاح يُشوّه الإرادة الشعبية ويُهدد مبدأ الانتخابات الحرة والنزيهة. كون المال السياسي لا يُشكل مجرد مخالفة قانونية، بل هو تهديد وجودي للمسار الديمقراطي والدستوري في أي بلد ومنها العراق. فحين تُشترى الأصوات، وتُحسم النتائج قبل التصويت، يتحول الدستور إلى وثيقة رمزية مفرغة المحتوى لا تحمي الإرادة الشعبية. وعليه، فإن الإصلاح السياسي الحقيقي يبدأ من إصلاح البيئة الانتخابية وتجفيف منابع المال السياسي من خلال مواجهته ، دستورًيا، وقانونًيا، ومجتمعًيا. واذا اردنا ان ندرج تعريف بمصطلح “المال السياسي”: فيمكن تعريفه بانه الأموال التي تُستخدم للتأثير على نتائج الانتخابات خارج إطار الإنفاق المشروع، سواء لشراء أصوات أو تمويل حملات بتضليل أو ضغط غير عادل. ولا يخفى على أي متابع ان في العراق، أصبح المال السياسي ظاهرة مقلقة تُفرغ العملية الديمقراطية من محتواها الحقيقي، ما يستدعي الوقوف أمامها بكل حزم دستوريا وقانونيا.
أولاً: الأساس الدستوري لنزاهة الانتخابات
ينص الدستور العراقي في المادة (20 ) على أن:ـ “للمواطنين، رجالاً ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح.”هذا النص يُؤسس لمبدأ تكافؤ الفرص السياسية وضمان أن تكون إرادة الناخب حرة وغير مشوهة. وبالتالي، فإن أي سلوك أو ممارسة تُفضي إلى التأثير على هذه الإرادة عن طريق المال، تُعد انتهاكًا صريحًا لهذا الحق الدستوري. فشراء الأصوات، أو تمويل الحملات بشكل غير متكافئ، يُخل بأسس العدالة الانتخابية.
ثانيًا: مظاهر المال السياسي في الواقع الانتخابي العراقي
شهدت الانتخابات العراقية منذ 2005 وحتى اليوم تصاعدًا واضحًا في تأثير المال السياسي. ومن أبرز مظاهره:
• شراء الأصوات، لا سيما في الأحياء الفقيرة، من خلال توزيع مبالغ مالية أو سلع.
• تمويل الحملات الانتخابية من مصادر مجهولة، غالبًا غير خاضعة لأي نوع من التدقيق.
• استغلال موارد الدولة من قبل بعض الأحزاب، كالمركبات الرسمية، القنوات الإعلامية الحكومية، وحتى الكوادر الوظيفية.
• الدعم الخارجي أو دعم جماعات مسلحة لبعض المرشحين، مما يُخل بتوازن المنافسة.
هذه الممارسات، رغم شيوعها، لا تزال تمر دون مساءلة قانونية فعالة.

ثالثًا: أدوات تحجيم المال السياسي
1. على المستوى التشريعي:
يُعاني النظام القانوني العراقي من غياب قوانين صارمة تنظم تمويل الحملات الانتخابية، أو تُلزم المرشحين بالكشف عن مصادر تمويلهم. بل إن العديد من الأحزاب والمرشحين لا يُخضعون إنفاقهم لأي رقابة مالية.
2. على المستوى المؤسساتي:
• مفوضية الانتخابات تفتقر إلى صلاحيات فعلية في مراقبة المال السياسي.
• هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية لا تملكان آليات تدخل فاعلة في العمليات الانتخابية.
3. على المستوى القضائي:
رغم إمكانية الطعن في نتائج الانتخابات لأسباب تتعلق بشراء الأصوات أو التلاعب المالي، إلا أن ضعف الأدلة وصعوبة التتبع المالي يجعل من هذه الطعون غير مؤثرة في الواقع.

رابعًا: تجارب دستورية مقارنة
في فرنسا، تُفرض سقوف مالية صارمة على الحملات، ويُحظر تلقي أموال من الخارج، مع عقوبات قاسية للمخالفين قد تصل إلى إلغاء النتائج.
في الولايات المتحدة، يُسمح بحرية الإنفاق لكن يُشترط الإفصاح الكامل عن مصادر التمويل (نموذج الشفافية ).
خامسًا: توصيات دستورية وتشريعية
1. تعديل القوانين الانتخابية لتتضمن:
o سقوفًا مالية واضحة للإنفاق.
o آلية شفافة للإفصاح عن مصادر التمويل.
o عقوبات رادعة تتراوح بين الغرامة والإلغاء.
2. تعزيز دور المحكمة الاتحادية في تفسير النزاهة الانتخابية تفسيرًا موسّعًا ليشمل الرقابة على المال السياسي حيث يمكن ان تمثل المحكمة الاتحادية ضمانة قانونية ودستورية لتعزيز نزاهة الانتخابات ، من خلال الرقابة القضائية، تفسير الدستور، وحسم الطعون، مما يسهم في ترسيخ المسار الديمقراطي ومنع الانحراف عن إرادة الشعب.
3. نشر ثقافة انتخابية جديدة تقوم على رفض المال السياسي، من خلال منظمات المجتمع المدني والإعلام المستقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!