آراء متنوعة

الطائرات المسيّرة العراقية إنجاز مبكر سبق الجميع

اللواء الركن ضرغام زهير الخفاجي
كاتب وباحث في قضايا الأمن الإقليمي
خبير في شؤون الدفاع والتدريب والعلاقات الدولية

حين ولدت المسيرة من رماد الحصار

المقدمة

العراق الرائد المبكر في مجال الطائرات المسيرة ففي تسعينيات القرن الماضي وبينما كانت الكثير من الدول لا تزال تستكشف إمكانيات الطائرات من دون طيار كان العراق يضع اللبنة الأولى لصناعة محلية متقدمة في هذا المجال. فمع تفكك قوته الجوية نتيجة الحصار الدولي وتداعيات حرب الخليج الثانية اتجه العراق نحو الابتكار لتعويض النقص وخلق أداة استراتيجية جديدة تعزز قدراته الدفاعية والهجومية. وقد أطلقت هيئة التصنيع العسكري في حينها مشاريع نوعية أثمرت عن نماذج عراقية متقدمة للطائرات المسيّرة سبقت دولاً عديدة في المنطقة والعالم.

أول الغيث: مشروع اليمامة (1993–1997)

كُلفت لجنة البحث والتطوير العسكري برئاسة الدكتور عماد عام 1993 بإطلاق مشروع اليمامة الذي تفرع إلى ثلاثة نماذج:

اليمامة 2 واليمامة 4: بمحركات كبس مروحية.
• اليمامة 3: بمحرك نفاث مأخوذ من مقاتلة سوخوي-7.

وقد أدرك المهندسون العراقيون سريعاً أن الطائرات المسيرة ذات الدفع المروحي توفر مزايا في الثبات وسهولة التحكم وبقاء أطول في الجو، مقارنة بالنفاثة.

تحول استراتيجي: من L-29 إلى المسيرة-20

في أواخر التسعينات و بعد تعثر مشروع تحويل طائرات التدريب L-29 إلى مسيّرات تولّت شركة ابن فرناس بقيادة اللواء إسماعيل إبراهيم إسماعيل تطوير تصاميم اليمامة نحو نموذج أكثر تطوراً. النتيجة كانت طائرة المسيرة-20 أول مسيّرة عراقية كاملة الاستقلال عن السيطرة البشرية مزودة بنظام ملاحة يعتمد على الـGPS ومسارات مبرمجة.

مشاريع أخرى لشركة ابن فرناس

سراب-1: هدف جوي لتدريب الدفاعات الجوية، بمدى طيران 1 – 1.5 كم بُني منها 60 إلى 70 طائرة.
• المسيرة-30: قادرة على حمل 30 كجم لكن واجهت مشاكل في التحكم ولم تكتمل بسبب الغزو الأمريكي.

نقلة نوعية: إدخال “الصقر العراقي” إلى الخدمة

في يونيو 2002 حلّقت المسيرة-20 في تجربة طيران استغرقت 3 ساعات وقطعت 500 كلم انتقلت خلالها من السيطرة الأرضية إلى التحكم الآلي الكامل وهبطت بنجاح.

في نوفمبر من نفس العام أُبرم عقد مع الجيش العراقي لتسليم 36 طائرة تلاه عقد مماثل مع الحرس الجمهوري لتصبح “المسيرة-20” ركيزة أساسية في سلاح الجو العراقي تحت اسم الصقر العراقي.

تفاصيل التعاقد والتجهيز

30 طائرة مبرمجة ذاتية التوجيه
• 6 طائرات يتم التحكم بها عن بُعد لأغراض التدريب
• 12 طائرة “يمامة-1” كأهداف تدريبية
• 8 محاكيات 6 محطات تحكم أرضية معدات استطلاع وملاحة

أنظمة التوجيه والتكنولوجيا المستخدمة

رغم الحظر الدولي تمكّن العراق من استيراد أجزاء حيوية:

أجهزة طيران آلي MP2000 و3200VG
• معدات من شركة Advantech التايوانية
• برمجة عراقية متميزة لدمج الـGPS والتوجيه الذاتي
• استخدام محركات بريطانية صغيرة (342cc) بناء على الخبرات المتراكمة منذ مشروع اليمامة

أثر الطائرات المسيرة في مجرى الحروب الحديثة

أحدثت الطائرات المسيرة (الدرونز) تحولًا جذريًا في المفاهيم العسكرية التقليدية إذ أصبحت أداة حاسمة في جمع المعلومات الاستخبارية وتوجيه الضربات الدقيقة وتقليل الخسائر البشرية. فقد مكّنت الجيوش من تنفيذ عمليات استطلاع ومراقبة على مدار الساعة دون الحاجة إلى إرسال طواقم طيران إلى مناطق الخطر كما ساهمت في توسيع القدرة على الاستهداف الانتقائي وتقليص الأضرار الجانبية. ومع تطور الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية أصبحت المسيّرات قادرة على العمل بشكل شبه مستقل وتشكيل أسراب ذكية تنفذ مهامًا معقدة بتكلفة منخفضة نسبيًا. هذا التأثير غيّر من موازين القوى حيث مكّن الدول الصغيرة وحتى الجماعات المسلحة من امتلاك أدوات ردع فعّالة ما ساهم في تعقيد البيئة الأمنية وفرض تحديات جديدة على استراتيجيات الدفاع التقليدية.

الدرس والدعوة إلى المستقبل
الطائرة التي كتمت صرختها الحرب

لو أُتيحت للعراق مزيد من الوقت والدعم لأصبح من أوائل مطوري الطائرات المسيرة الثقيلة في المنطقة. واليوم ومع عودة هيئة التصنيع الحربي للعمل فإن الفرصة متاحة لإحياء هذه الروح الابتكارية. التجارب الإقليمية في تركيا وإيران تُثبت أن الدعم الحكومي للمبتكرين والمصممين يمكن أن يضع الدولة في مصاف القوى التكنولوجية الحديثة.

الخاتمة:

المسيرة العراقية: عبقرية مبكرة تجاهلها العالم
إنجازات العراق في تسعينيات القرن الماضي في مجال الطائرات المسيّرة لم تكن مجرد محاولات تقنية بل كانت تعبيرًا عن إرادة دولة محاصرة سعت للاستقلال الدفاعي والتقني. ومع عودة الأمن والإمكانيات فإن إحياء هذه المشاريع يمثل ضرورة استراتيجية لمجاراة التحولات في ميادين الحروب الحديثة حيث أصبحت المسيّرات أحد الأعمدة الرئيسية للقوة العسكرية الحديثة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!