مقالات عامة

الدولة أفهم من بني آدم

(يشكو الإنسان من حذائه والعلَّة في قدميه)

صمويل بيكت

هل فشل نموذج دول الجمهوريات الذي ساد الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية، ونحن الآن في أوائل العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين؟ ولكن في الأساس ماذا نعني بالدولة هنا، وما هي فكرة الدولة التي ترسخت في عقل الفرد؟ الدولة في المعجمات من دال – فتح الدال – ودالت الأيام أي دارت، والله يُداولها بين الناس، وتداولته الأيدي أخذته هذه مرة وهذه مرة. وهذا على الضدِّ من مفهوم الدولة في العصر الحديث حيث تجنح نحو الثبات والاستقرار. الدولة عند هيجل هي طريقة تنظيم الأمة لنفسها، الشعب لنفسه، أي أن المجتمع يُنظم نفسه من خلال مؤسسات اجتماعية، تُسمى في مجموعها دولة، والشهيد الرفيق مهدي عامل توصَّل بعد دراسة إلى أن الدولة لا فكر لها، وهي ملاحظة ذكية ومهمة، ويُقال إن لكل زمان دولة ورجالاً. وابن عمي زكريا يقول: (الدولة أفهم من بني آدم) وشكل الدولة الذي تكرَّس في الوطن العربي جمهوري ديمقراطي ثوري في الغالب وهذه خلطة عجيبة غريبة، فيها القمح والشعير والزيوان. وقد كان المُنتج الرئيسي لهذا الشكل من الدولة: الفساد العام Corruption   ومن ثم قاد هذا الفساد العام إلى الفشل العام، شكل الدولة هذا أوصل المجتمعات في الجمهوريات العربية إلى الحروب الأهلية التي نعيش بعض نتائجها اليوم، لأن الحاكم الفرد سعى ليكون هو الدولة. والأمثلة كثيرة في الوطن العربي ولن أذكر أسماء حتى لا نقع في المحظورات وهي في الحقيقة كثيرة. أما كلمة جمهوريّة فهي اسم مؤنَّث منسوب إلى جُمهور. والجمهوريَّة: دولة يرأسها حاكم منتخب من الشعب أو من ممثليه، وتكون رياسته لمدَّة محددة.

في علم السياسة تُعتبر السلطة المُطلقة شديدة الهشاشة ومزعزعة بسبب وجودها بين يدَيْ فرد واحد. إن سلطة كهذه تُعتبر خطراً على مصالح المجتمع والدولة معاً، لأنها تُنمي الكبرياء والاستخفاف في نفس صاحبها. وتُنمي الخنوع والذل في نفوس أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم الإثنية والعرقية. تتعرَّض هذه السلطة الفردية بسهولة للتشوّش بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنها لا تسعى وراء الواقع الحقيقي أو التقويم المتأني والمناقشة المُفيدة. والأهم من ذلك كله هو أنها تقود الدولة، وهي رفيقتها الحميمة، إلى عالم الفوضى والانهيار.

في ظني أن الشباب الأحرار في شوارع وساحات المدن والأرياف وفي البوادي والقفار قد تمردوا على هذا النمط من الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهم يحاربون هذا الشكل من الدولة الاستبدادية التي يحكمها طاغية ويريدون العودة بها إلى مفهومها الأول: دولة بسيطة، تُقاد من حاكم بسيط من عامة الخلق، وليس إلهاً على كل حال، بل بشراً سويّاً يخاف من ربِّ العباد الذي رفع السماء ووضع الميزان. والسؤال المقلق والحقيقي الذي يهرب منه أصحاب الشأن: أليس غريباً أن تنهار الجمهوريات بين قوسين الثورية التي يشبه بعضها بعضاً وتتفكك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ويتراجع مشروعها التنموي وتتراجع النهضة الحضارية ويدخل بعضها في أتون الحرب الأهلية، ولا تستطيع حكوماتها العتيدة تأمين الحد الأدنى من أمن وأمان وغذاء ودواء وكساء وتعليم وسكن ومواصلات لمواطنيها، بل وفوق ذلك تق*ت*لهم وتشردهم؟ كيف ذلك وما الذي يفسر هذا الأمر؟ وكيف لنا أن ندرس ما حصل ويحصل وسوف يحصل في هذه الجمهوريات؟

مشروع الشباب الأحرار في الشوارع والساحات يتعارض بالمطلق مع شكل الدولة الحديثة التي حكمت هذه الجمهوريات لأكثر من سبعين عاماً. ومع ذلك فشلت في حمل هذه المجتمعات على القبول بها. وهذه نتيجة طبيعية لأن الدولة في شكلها الجمهوري الديمقراطي الثوري إن شئت، استبدادية يحكمها لمدة طويلة أحد الطغاة، والأمثلة كثيرة، وهو في الغالب من فئة دكتاتور صغير مجنون مكانه الحقيقي في مشفى الأمراض العقلية (العصفورية) كما نسميها في بلاد الشام. بطبيعة الحال فإن الدول الاستبدادية لا تدمر المرء، ولكنها تمنع وجوده، وهي لا تستبده فقط، بل تعصره وتوهنه وتخمده وتخدره، بل وتفعل ذلك في الأمة كلها، كي لا تكون شيئاً أكثر من قطعان حيوانات مذعورة.

وفي النتيجة فإن انهيار قواعد عمل الدولة هو الذي قاد إلى انهيار تقاليد تسامح دينية حيَّة منذ آلاف السنين بحيث إن الضربة الحقيقية التي تلقتها المجتمعات متعددة الطوائف الدينية والقومية في دول الجمهوريات لم تكن في عقائدها ذلك أنها كانت أكثر من كل المجتمعات الحديثة الأخرى قدرة على استيعاب القيم والأفكار والمذاهب الجديدة نظراً لوجود تقاليد التعددية الدينية بمختلف تجلياتها، ولكنها تكمن في ما تعرض له نموذج الدولة من تهديم موضوعي وفي ما ظهر من تخلفه الهائل والمفاجئ بالمقارنة مع نموذج الدولة الحديثة ومن ثم ذوبان كل مقدرة على إعادة إنتاج السلطة المركزية دون التغيير الشامل في طبيعة التوازنات الاجتماعية القائمة. ولا يزال المجتمع لم يخرج من هذه الصدمة التي تمسّ نموذج بناء السلطة وعمل الدولة حتى الآن.

وأخيراً: لماذا لم تتحول الدول المحررة من الدين في الجمهوريات إلى دول علمانية يحكمها القانون، بل تحولت إلى دول تحكمها أجهزة فاسدة بفظاظة مفرطة؟ هل لأن هذه الأجهزة الفاسدة هي الوحيدة المنظمة في شكلها العام أمام مؤسسات الدولة الأخرى، فمن حقها أن تكون قائداً للدولة والمجتمع؟ هذا يُفسر على الأقل لماذا لم تستطع الدولة الحديثة التي ولدت بعد حقبة الاستعمار الغربي وتحت إرشاد النظرية العلمانية والنهضة الخجولة – التي تبناها حتى المصلحون الدينيون – أن تفرز سلطة سياسية دستورية قانونية تقود المجتمع إلى بر الأمان، بل أفرزت سلطة سياسية فاسدة تحكم بالحديد والنار.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!