الحوار الهاديء

البروباغاندا: تغييب الوعي وصناعة مجتمعات القطيع

بقلم: أوزجان يشار

قصرك عقلك… فاحفظ قصرك!
في زمنٍ لم تعد الحقيقة فيه تسطع، بل تُزاحمها الظلال والشعارات، وتُصاغ العقول كما تُصاغ العناوين، يصبح العقل البشري آخر حصن في معركة البقاء الإنساني. فالإعلام لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يعيد تشكيلنا كما يشكّل الصدى الجبل، ويمتد تأثيره إلى مفاهيمنا العميقة عن العدالة، والانتماء، وحتى الذات.
في هذا السياق، قال الفيلسوف والمفكر السعودي الراحل علي الهويريني، شاعرًا ومحذرًا، في واحدة من أجمل وصاياه الفكرية:
قصرك عقلك، فاحفظ قصرك!
لا يدخله ثرثرة تبني شكلاً تُغريك بأنك آية عصرك!
فسفينك في بحر لُجي مظلم،
والشكل زجاجي معتم.
فاجعل من عقلك ربانًا يهديك إلى قصرك،
واحذر!
أن ترمي عقلك في غياهب شكلك.
فالبحر عميق قاعه،
والحوت طويل باعه،
جهولٌ لاهٍ، متنكّر في شكلك.
فاحفظ قصرك، فقصرُك عقلك.
هذه الأبيات ليست مجرد شعر بل هي دستور صغير لحماية الذات من أخطر أعدائها: الإذعان غير الواعي لما يُعرض أمامها.

الفكرة لا تموت، بل تُحتل
في كتابه الرائد Propaganda (البروباغاندا)، يكشف إدوارد بيرنايز، رائد العلاقات العامة، عن آليات دقيقة تُستخدم لإعادة صياغة الرأي العام، وتوجيه السلوك الجمعي من خلف الستار. يقول بيرنايز:
“التلاعب الواعي والذكي بالعادات والآراء المنظمة للجماهير عنصر أساسي في المجتمع الديمقراطي. إن أولئك الذين يتلاعبون بهذا الجهاز غير المرئي يشكلون حكومة غير مرئية هي السلطة الحقيقية في بلادنا.”
إنه إذًا حكم العقول من خلف الكواليس، لا تُديره صناديق الاقتراع، بل شاشات العرض، وخوارزميات التغذية، وذائقة بصرية تم تشكيلها بعناية منذ الطفولة.

من توم وجيري إلى تدمير اليقين
في هذا السياق العميق، يطرح المفكر الأمريكي من أصل ألماني هيربرت شيللر ملاحظة بالغة الذكاء، تكشف لنا كيف تبدأ عملية صياغة العقول:
“لقد تمت صياغة عقولنا منذ الصغر بطريقة تجعلنا نتعاطف مع الفأر جيري ضد القط توم، دون أن نتساءل لماذا؟”
وما بين هذا التعاطف الطفولي وتحيّزاتنا السياسية في الكِبر، تمتد سلسلة طويلة من التوجيه غير الواعي، حتى نُصبح صورة مشوهة مما نعتقد أننا نحن.

كيف تعمل البروباغاندا؟
1. التكرار لا البرهان
ما يُقال كثيرًا يُعتقد صدقه، حتى لو خلا من الدليل. فالتكرار يُلبس الفكرة ثوب “الطبيعي” و”المألوف”، ما يجعل نقدها يبدو غريبًا، أو حتى تهجّمًا.
2. تحفيز العاطفة وتجميد المنطق
الخوف، الح*ما*سة، الغضب… كلها مفاتيح تُفتح بها الأبواب الخلفية للعقل. فلا يُترك للمُتلقي إلا أن يصرخ، أو يصفق، دون أن يفكر.
3. خلق عدو مشترك
من خلال إحياء صورة “العدو”، الحقيقي أو الوهمي، يتم حشد الجماهير وجعلها تتجاهل مظاهر القمع والفقر واللاعدالة، بحجة “التهديد الخارجي”.
4. صناعة الإجماع الكاذب
تصبح الجماهير قطيعًا فكريًا، لا تُفكر، بل تُكرر، ولا تُحلل، بل تُبرر، لأن “الجميع يقول ذلك”.

البروباغاندا في الفضاء الرقمي
الإنترنت، الذي وعدنا بحرية المعلومة، أصبح موطناً للأكاذيب الأكثر انتشارًا، حيث تُلقى آلاف الشائعات كل ساعة، وتنتشر بسرعة الضوء، لا لأن الناس يصدقونها، بل لأنها تُشبع توقهم للتصديق.
فتصلك رسالة مغلوطة، فتشاركها بدافع العاطفة، ثم تنتقل إلى غيرك، فيُعاد تدويرها، حتى تغدو الكذبة كأنها يقين مطلق.
هنا، لا نكون ضحايا فحسب، بل مُساهِمين نشطين في نشر الضلال.

بين الحقيقة والضلال: هل نملك البوصلة؟
إذا لم نُحسن التمييز بين ما هو حقيقي وما هو منمق مصمم لخداعنا، فإننا سنبني قراراتنا، وعلاقاتنا، وحتى رؤيتنا لذواتنا، على أوهام.
• هل نتحقق من مصدر المعلومة؟
• هل نراجع دوافع من ينشرها؟
• هل نفكر قبل أن نعيد النشر أو نُعلّق؟
• هل نملك الشجاعة لنقول: “لا أعلم”؟
الفرق بين العقل الحر والعقل المُبرمج، هو القدرة على التوقف والسؤال.

أمثلة من واقعنا المعاصر
• الحروب تُبرر عبر صور مُنتقاة بعناية.
• الانتخابات تُفوز بالكاريزما لا بالبرامج.
• الحملات الإعلامية تُشيطن المعارضين، وتُحوّل الباطل إلى “حقيقة وطنية”.
وقد لخّص بيرنايز هذه الميكانيزمات حين قال:
“إذا أثّرتَ على قادة الفكر والرأي، فقد سيطرت على عقول من يتبعونهم.”

استعادة القصر: كيف نحمي عقولنا؟
1. ارفض أن تكون قناةً لأفكار غيرك.
2. لا تشارك ما لا تثق به، مهما بدا مؤثرًا أو صادقًا.
3. اقرأ، ثم اقرأ، ثم اسأل، ثم قرر.
4. امنح عقلك فرصته الكاملة ليقودك، لا لتُقاده.

خاتمة: لا تدعهم يدوسون على أفكارك
كما قال المهاتما غاندي:
“لا تدعهم يدوسون على أفكارك بأحذيتهم الوسخة.”
وكما نبّه علي الهويريني:
“عقلك هو قصرك، فإياك أن تجعل غيرك يبني لك قصرك أو يهدمه لك.”
وها نحن نقول:
في هذا العصر الرقمي، لا يُكفي أن نمتلك عقولًا، بل يجب أن نحرسها، ونتفقد أسوارها، وننقّيها من كل ما يُبث من سموم، لا على شكل سُم، بل على هيئة “معلومة” أو “ترند”.
قصرك عقلك… فاحفظ قصرك.

المصادر
1. إدوارد بيرنايز – البروباغاندا (Propaganda) – ترجمة د. إبراهيم محمد المالكي
2. هيربرت شيللر – دراسات حول الإعلام وصياغة الإدراك العام
3. علي الهويريني – مقاطع فكرية وشعرية من إرثه الفلسفي
4. المهاتما غاندي – كتابات ومقولات حول الوعي والكرامة الفكرية
5. دراسات في علم النفس الإعلامي والاجتماعي
6. تحليل معاصر لممارسات التضليل في الفضاء الرقمي
7. مشاهدات من الحملات الإعلامية المعاصرة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!