مقالات دينية

يسوع المسيح يكشف ويزيح عنّا قناع التديُّن لنعرف حقيقة الله

نافع شابو

يُحذّر يسوع المسيح ،الجموع وتلاميذه ، من مُعلّمي الشريعة والفريسيين اليهود فيقول عنهم ” إفعلوا كُلِّ ما يقوونَهُ لكم وأعملوا به . ولكن لا تعملوا مثل أعمالهم، لأنّهم يقولون ولا يفعلون” (راجع متى 23 : 1-7).

يندرج الفصل 23 من انجيل متى في جوٍّ من القطيعة بين يسوع المسيح والفريسيين اليهود، لأنّه يرى في هذه الفئة اخطر شرّ يمكن أن تعرفهُ الجماعات المسيحية ، وهو يعارض كلّ المعارضة روح الملكوت ويغلق بابه  . هذا الشرّ هو الرياء، أي التعارض بين ما نقول وما نفعل ، بين الشخص في حقيقته والشخص في مظاهره بين الخارج والداخل  . ويقول المسيح عن هذه الفئة من رجال الدين “هم  لا يعملون عملا إلّا ليشاهِدُهم الناسُّ: يجعلون ع*صائ*بهم عريضة على جباههم وسواعِدَهم ، ويطوّلون أطراف ثيابهم ، ويُحبّون مقاعِدَ الشرف ِ في الولائم ومكان الصدارة في المجامع والتحيّات في الأسواق ، وأن يدعوهم الناس يا مُعلّم”متى 23 :5-7”.

إتّهام يسوع لهؤلاء، يبدو عند متى ،  هو محاولة يسوع الأخيرة لكي يوقظ هؤلاء  المرّائين ويفتح عيونهم العمياء . هذه الصرخة بما فيها من غضب وشفقة ، هي صرخة الحبّ الذي لم يستطع أن يفعل شيئا . وهي صرخةٌ تقع في خط أقوال الأنبياء ضدّ الشعب الذي نقض عهد ربِّهِ ونسيَ أن يوم الربّ آتٍ . متى الأنجيلي جمع أقوال يسوع هذه، وقدّم صورة عن معلّمي الشريعة(الكتبة) والفريسيين . وجّهَ كلامه الى الجموع والتلاميذ والتلاميذ ( وهو يوجّه كلامه الينا اليوم أيضا) ليكونوا شاهدين على هؤلاء من جهةٍ،وعلى نفوسهم مجهة ثانية فيحكموا عليها .

وهكذا ندّد يسوع بهؤلاء المعلّمين الذين أرادوا أن يتسلّطوا بِعِلِمهم، فعقَّدوا الفرائض الدينية ليُركِّزوا نفوذهم (سلطتهم) .

بعد هذا الكلام القاسي عاد يسوع يبكي على أورشليم الذي أراد أن يجمع أبنائها فرفضت”متى 23 : 37-37″،. ولكّنه “أنبأ” بأنّها ستعود وتعرف المسيح وتهتف له كما هتف له الأولاد في يوم الشعانين ” .

يظنُّ ناسٌ كثيرون أنّ التقوى الخارجيّة والمظاهر الدينيّة تدلُّ على الألتزام بالدين وتطبيق الشريعة، ولكن كثيرا ما يخطأ هؤلاء. ويا للأسف اليوم تنتشر المظاهر الخذّاعة لرجال الدين والكثيرون من الذين يتاجرون بالدين، وينخدع الملايين من الناس البسطاء عندما ينظرون الى المظهر الخارجي لهم ولا يعرفون أنّ هؤلاء يفعلون عكس ما يقولون وحياتهم الحقيقيّة غير ما تبدو من الخارج

كان اليهود (الفريسيّون خاصة) جلّ اهتمامهم هو بالظهور بمظهر القداسة، أعظم من إهتمامهم بمساعدة الناس ، ونقد الآخرين (وخاصة الخطاة) اكثر من تشجيعهم الى التوبة ، وبالوقار الخارجي أكثر مما بالمعاونة العملية . ولكن المسيح اتى ليوضّح لهم ولنا ولكل جيل وحضارة أنّ الحياة المسيحية ليست مجالا للشُهرة، بل التواضع والخدمة ونكران الذات وان نُبشّر بالأنجيل للفقراء والمنبوذين وذوي الأحتياجات الخاصة ، والذين يُعانون من الوحدة والحرمان من الحنان والمحبة وحتى للخطاة حيث يقول:“لا يحتاجُ ألأصحاء الى طبيب بل المرضى. ما جِئتُ لأدعو الأبرار الى التوبة، بل الخاطئين. “لوقا 5 :31-32″. فالمرضى هم الخطاة. هم مرضى يجب ان يشفيهم يسوع الذي شبّه نفسهُ بطبيب “لوقا 4 :23”. نعم يسوع المسيح هو الطبيب الأعظم. فالمسيح لم يأتي فقط لفئة معيّنة فقط، مثال الصالحين والموهبين والعلماء والمشهورين، بل جاء لخلاص كُلّ البشرية .

جاء المسيح لينقّي الشريعة اليهودية ويغربلها بشريعة جديدة قديمة سبق أن تنبّأ عنها الأنبياء منذ قرون وهي أنّ المسيح سوف يأتي لمغفرة الخطايا ويصالح الناس مع الله أبيه. إنّها رسالة الأيمان والرجاء والمحبة. هي رسالة الى القلب المتعطّش الى النور والى الخلاص والى التجدُّد وتكوين علاقة مباشرة مع الله. لقد سئم الناس من النظام الناموسي العتيق للديانة اليهودية وكان الناس (وكما اليوم) تئنُّ من اثقال القوانين والشرائع التي وضعها رجال الدين.. إنّ العالم البعيد عن المسيح يغوصُ في مستنقع القوانين والشرائع البشرية التي تُكبّل يد الأنسان في عبودية الخطيئة، بدل أن تحرره. إنهم يتبعون الشيطان القاتل وأبو الكذّاب.

إطاعة الشريعة يجب أن تتوافق مع البر (أي المحبة والسلام) والتواضع. فشريعة الله يجب ان تنبع من القلب من الداخل وليس شريعة الطقوس والفرائض الظاهرية والسطحية. الأنسان قبل كل شيء يجب ان يسلّم ذاته لله من غير تحفُّظ. فالمظاهر قد تخدعنا بالمفهوم البشري. ليست الديانة الحقيقية مجرّد الأشتراك في بعض الطقوس والشعائر، فالله يريد ايمانا بسيطا به وليس حركات استعراضية. فلا يجب ان نركز على محاولة ايهام الآخرين أو خلق الأنطباعات لديهم بصلاحنا، بينما يريد الله منّا التزاما حقيقيا بطاعته من القلب . الله لا ينظرع الى الوجوه بل يحكم بالعدل والنزاهية لكلّ الناس. فعندما نُدين الآخرين فإنّنا ننسى أنّ الله أيضا سيديننا. إنّ مجرّد الطقوس المصاحبة بالرياء هي تعني أنّنا نغُشُّ الله ونغُشُّ الآخرين ، وإلهنا إله صادق أمين لا يقبل الرياء والكذب والمظاهرالخارجية.

يقول الهنا بلسان النبي عاموس: “أبغضتُ أعيادَكُم ورفضتُها، ولا أرتاحُ لاحتفالاتكم.. أَبعدوا عنِّي هزيجَ أغانيكُم، فأنا لا أسمعُ نغَمَ عيدانِكُم. بل ليجْرِ العَدلُ كالمياهِ، والصِّدقُ كنهرٍ لا ينقطِـع ” عاموس 5 : 21 ، 23″

لقد شبّه يسوع المسيح العالم اليهودي، ورأت الكنيسة أيضا أنّه يتوجّه اليها ، مثل شجرة التينة غير المثمرة (لوقا 13). كانت الشجرة الغير المثمرة رمزا الى الشعب الذي يتظاهر من الخارج بالتديّن، ولكن لا يعطي ثمرا مثل التينة المورقة التي تبدو للناظر اليها من بعيد شجرة جميلة ولكن عندما يقترب منها الأنسان لايجد فيها ثمراً.

المسيحية تدعونا الى فحص تعاليمها بدقّة ( كما فعل لوقا كاتب الأنجيل راجع لوقا 1 :3-4). نعم على الأنسان ان يفحص ألأمور فحصا شاملا مستخدما قدراته ومهاراته ومأهلاته ومواهبه في الملاحظة والتحليل حتى يتحرى بصورة شاملة عن الروايات التي قيلت عن الرب يسوع . ويسوع المسيح نفسه ينصحنا فيقول لنا ” فتشوا الكتب انتم ترون فيها الحياة ألأبدية هي التي تشهد لي”

يقول الرب يسوع المسيح عن هؤلاء المُتديّنين بقشور الدين

” الويل لكم يامعلّمي الشّريعة والفريسيّون المراؤون! تقطعون البحر والبرَّ لتكسبوا واحداً الى ديانتكم , فاذا نجحتُم ,جعلتموه يستحق جهنَّم ضعف ما أنتُم تستحقّون !”(متى 23:15

الله يحاسب سرائر(دواخل ) الأنسان ولايحكم الله فقط من المظاهر الخارجيّة ,لأنّ الأنسان بطبيعته يحاول أن يُظهر للناس بعلامات خارجيّة توحي للناس أنّه متديّن وله تقوى ,ولكن في الغالب هؤلاء الناس هم يحاولون أن يغشّوا الآخرين ويغشّوا الله .
الله لا يطلب منّا قرابين وذبائح دون الأيمان الحقيقي والعبادة الصادقة والأمانة القلبيّة ، وليس ذلك فقط بالعلامات الخارجيّة والتمسُّك الأعمى بالتقاليد التي أصبحت لا معنى لها دون الأيمان القلبي (اشعيا 1 : 12 ، 13) . وبهذا الصدد يقول الرب يسوع “هذا الشعب يُكرمُني بشفتيه وأمّا قلبه فبعيد عنّي. وهو باطلا يعبدُني بتعاليم وضعها البشر”متى 15 :8 ،9” “. وهذا ما كان سبب اصطدام يسوع المسيح مع رجال الدين اليهود الذين كانوا يغشّون الناس البسطاء بالمظاهر الخارجيّة لتطبيق الشريعة(التديّن) ، دون التركيز على روح الشريعة، فوصفهم يسوع المسيح ” كالقبور المبيضّة ، ظاهرها جميلٌ وباطنها ممتليء بعظام الموتى وبكلِّ فساد”متى 23:27″.ووصفهم بالمرّائين يظهرون للناس غير ماهي عليه حقيقتهم فهم يضلّلون الناس بعيدا عن الله . وهذا لا ينطبق على اليهود فقط بل هذا الوصف ينطبق على كُلِّ انسان يتظاهر بالتقوى وبالصلات ولكنه بعيد كُلّ البعد عن الأيمان والمحبّة والسلام .

يقول الله على لسان النبي ارميا عن هؤلاء الناس:”يقول الواحد للآخر سلام! وفي سِّرهِ يكيدُ لهُ “ارميا 9 : 7”.والمصيبة انّ هؤلاء الناس هم في الغالب قادة رجال الدين الذين من المفروض أن يقودوا الشعب الى نور الله ، ولكن في الحقيقة هم يُدخلونهم في ظلام دامس. ولهذا وصف الرب يسوع المسيح هؤلاء رجال الدين بالقادة العميان، يقودون شعبا أعمى ، ووصفهم بالمرّائين وأولاد الأفاعي وهي أقسى الكلمات التي قالها يسوع المسيح عن هؤلاء القادة الدينيّن الذين يستغّلون مناصبهم الدينيّة لمصالحهم الخاصة ويتاجرون بالدين . لقد نبّه يسوع المسيح تلاميذه من معلّمي الشريعة اليهوديّة قائلا لهم “ايّاكم ومعلّمي الشريعة، يرغبون في المشي بالثياب الطويلة، ويحبّون التحيّة في الساحات ومكان الصدارة في المجامع ومقاعد الشرف في الولائم. يأكلون بيوت الأرامل وهم يُظهرون انّهم يستغرقون وقتاً أطول في الصلاة. هؤلاء ينالهم أشّد العقاب “لوقا 20 :45 “.
وما اشبه اليوم بالبارحة فنرى انتشار ظاهرة التديّن (الخارجي) فقسمٌ من رجال الدين يطلقون اللّحى لكي يظهروا للناس بأنهم أتقياء ومتديّنين ويفرضون على النساء أن يلبسوا الحجاب ليظهرنَّ من الخارج بأنهنّ متديّنات، والبعض يحاول أن تصبح عنده زبيبة في الجبين ليُظر للناس كثرة صلاته، والبعض يصليّ في ضجيج الشوارع وفي المناطق المزدحمة ليُظهر للناس أنّه يصلي . وفي فترة زمن الصوم يتباهون كالمرائين امام الناس أنهم صائمين ويحقدون على الآخرين لانّهم لم يصوموا. ويتباهون امام الناس ويردّدون   قائلين ” “الحمدُ لله أني صائم ” . هكذا يُظهر للناس انّه صائم ويقوم بأداء الفرائض والشعائر الدينيّة. و يفتي بعض رجال الدين بعشرات المحرّمات والمُحلّلات لكي يُظهر للناس أنّه يمتلك السلطة الدينيّة ليحترمه الناس، والبعض يغسل يديه ورجليه (يتوضّى) ليبدو نظيفا، من الخارج، امّا قلبه قد يكون مليء بالحقد والكراهية للآخرين. فكُلّ صوم او صلاة وصدقة، وكُلّ ممارسة (دينية) مها كان الأنسان ورعا، يصبح مشوّها دون أن تكون هذه الممارسات نابعة من قلب مُحبّ ورحيم ومتسامح وعادل.

يسوع يحذّرنا من التباهي ،عندما نعمل أعمال الخير ليعرفوا الناس .لأنّ الصدقة والصوم والصلاة هي أعمال برّ نعيشها في الخفية أمام الآب. يقول الرب يسوع عن الصدقة :”إيّاكم أن تعمَلوا البرّ أمام الناسِ ليُشاهدوكُم…فإذا أحسنتَ الى أحدٍ ، فلا تُطبّل ولا تُزمّر مثلما يعمل المراؤون في المجامع والشوارع حتى يَمدَحَهُم الناس ..أمّا أنتَ ، فإذا أحسنتَ الى أحدٍ فلا تجعل شمالك تعرف  ما تعملُ يمينُكَ ، حت يكونَ إحسانُكَ في الخفيةِ ، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يُكافِئُكَ” متى 6 :1، 2 ، 3″. يشدّد يسوع على الصدقة التي تبقى خفية. الرب أعطانا ونحنُ نعطي من كرم الله، لا من كرمِنا .

أمّا عن الصلاة يقول الرب يسوع:” وإذا صلّيتُم فلا تكونوا مثل المُرّائين ، يُحبّونَ الصلاة قائمين في المجامع ومفارق الطُرُق ليشاهِدهم الناس …أمّا أنت فإذا صلّيت فأدخل غُرفَتُكَ وأغلق بابها وصلِّ لأبيك  الذي لا تراهُ عينٌ ، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يُكافِئُكَ” متى 6 :5، 6″. كانت الصلاة عند اليهود تُتلى في أوقات محدّدة ، فيستفيد المراؤون من الظرف ويصلّون على مفارق الطرق ليشاهدهم الناس.

وعن الصوم يقول:”وإذا صمتم فلا تكونوا عابسين مثل المَرَائين، يجعلون وجوهُهُم كالحة ليظهَروا للناس أنَّهم صائمون ..أمّا أنت ، فإذا صُمتَ فأغسل وجهَكَ وأدهن شعركَ، حتّى لا يظهر للناس أنّك صائمٌ ، بل لأبيك الذي لا تراهُ عينٌ، يرى في الخفية هو يُكافِئُكَ” متى 6 ك 16 ،17 ،18″

وعن الذين يردّدون الكلام في صلواتهم ويكرّرونها يقول الرب يسوع:” ولا تُردّدوا تردادا في صلواتِكم مثلَ الوثنيين ، يظنون أنّ الله يستجيبُ لهم لكثرة كلامهم ” متى 6 : 7″

يُحذّر يسوع تلاميذه من تكرار الكلام (الصلاة) على مثال الوثنيين، فيصلِّ مثل هذا التكرار الى “العبارات السحرية”. يظنّ بعض الناس أنّ تكرار نفس الكلمات مرّةَ ومرّات، كأنها تعويذة سحرية، يضمن سماع الله لها. إنَّهُ من الخطأ أن نأتي الى الله بنفس الطلبات، فالرب يسوع يشجع على المثابرة في الصلاة، لكنّهُ يُدينُ التكرار الضحل لكلمات لا تُرفع من قلب مُخلص.

إعتبر البعض أنّ الصلاة ” الطويلة” تؤثّر على الله وتجبره على تبديل رأيهُ. الصلاة لا تُبدّل الله، بل تُبدّل المؤمن لكي يتقبّل عطايا الله ، وتفتُّحِهِ على مشيئته  . أمّا صلاة التلاميذ فتجد مثالا لها في “الصلاة الربيّة”، التي علّمها يسوع المسيح لتلاميذه، ويمكن أن تكون نموذجا لصلواتنا، والتي تتميّز ببساطتها وبالدالة التي بها يتحدَّث المؤمن الى الله “أبانا الذي في السماوات ، ليتقدّس اسمك لياتِ ملكوتُكَ لتكن مشيئتُكَ في الأرض كما في السماء ” متى 6 : 9 ، 10″

يتوجّه المؤمنون بصلواتهم الى أبيهم الذي لا أب سواه. والآب الذي في السماوات لا يعني أنّه يقيم بعيدا من البشر، بل أنّهُ يسودُ الأرض كُلها. هو يشرف على الأرض وينظر بعطف الى جميع بني البشر”لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ.إنجيل متى (5 :45)

عبارة ” ابانا الذي في السماوات ” تدلُّ على أنّ الله ليس عظيما وقدّوسا فقط، بل إنّه إله شخصي ومُحبّ أيضا. إنَّهُ الله الذي نشهد لقداسته في هذا العالم. هذا يعني ان الله وحدهُ يستطيع ان يعلن قداسته، ومجده وبرّهِ وحنانه. وهذا الأعلان يتوجّه الى البشر، الذين يتلون الصلاة الربيّة فيطلبون من الله ان يفتح قلبهم على هذه القداسة.

ملكوت الله حلَّ وتدشّن في شخص يسوع، ونحنُ نُصلّي لكي يظهر في الأرض وعلى عيون جميع البشر لتتحقّق فينا مشيئته. انها صلاة دُعاء الى الله الآب لكي يساعدنا لنتمّم مشيئته. تلك كانت صلاة يسوع في بستان الزيتون (متى 26: 42). الله هو الذي يفعل فينا، فيصل عمله الى النهاية. يريد أول ما يريد ان يتقدس اسمه فتَتَقدَّس البشرية، وهو سيفعل لأنّهُ كُلّيُّ القدرة. ولكنه لا يريد ان يحقّق مشيئته بمعزل عنّا، لهذا أراد أن يحتاج الينا، وطلب منّا أن نُتمّم وصاياهُ، فكانت صلاتنا بداية تجاوب مع مشيئة الله بانتظار أعمالنا، ويتحقق على الأرض ما هو محقّق في السماء . السماء هي ملكوت الله الذي تحقّق فوصل الى كماله. فعلى الأرض أن تكون على صورة السماء. يقول يوحنا السُلّمي: “مشيئة الله يمكن فهمها بمعنى أنّ إرادة الله (الآب) هي أن يخلص الكُلّ . حسب العبارة المعروفة للقديس بولس الرسول:” الله يريد أن يخلص جميع الناس وأن يُقبلوا الى معرفة الحق ” 1تيموثاوس 2 :4″.إذا ، عندما نقول “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ” ، فإنَّنا نصلّي : كما الذين في السماء فليخلص جميع الذين على ألأرض ، أيُّها الآب بمعرفة إسمُكَ”

يسوع المسيح يعلّمنا أنّ بعض ما كان محرّما في العهد القديم، والمرتبط بتصنيف الأشياء الى “طاهرة” أو ” نجسة”(كالأطعمة والوظائف الجسدية مثل الطهور والوضوء ..وغير ذلك ) إنّما لا علاقة لها بجوهر علاقة الأنسان بربّه ، وبالتالي بجوهر الخطيئة ، وإنّ ما يدنّس الأنسان فعلا ليس ما يحصل في جسده او ما يتصل به من أشياء ، بل بارادته الشريرة ، النابعة من “قلبه” أي من صميم كيانه . . يقول بولس الرسول عن هذه الحقيقة:”فما اليهوديُّ هو اليهوديُّ في الظاهر ولا الختان هو ما ظهر في الجسد ، وانّما اليهوديُّ ما ظهر في الباطن ، والختان هو ختان القلب ِبالرُّوح لا بحروف الشريعة هذا هو الأنسان الذي ينالُ المديح من الله لا من البشرِ”روميا 2 : 28،29 “.

يسوع المسيح لم يهتم بمظهر القداسة ولم يفتخر بسلطته التي كان فيها يعمل المعجزات ويشفي المرضى ويطعم الجياع. الأنسان دائما يُظهر علامة خارجيّة ليُظهر تديُّنه، ولكن الله يحاسب دواخل الأنسان وليس فقط ما يعمله الأنسان من الخارج (مظاهر التديّن)

قال يسوع المسيح للفريسيّين ومُعلّمي الشريعة اليهودية المتمسّكين تمسُّك أعمى بالتقاليد :” يا مُرؤون ، صدق إشعيا في نُبوءته عنكم حين قال : هذا الشعب يُكرمني بشفتيه وأمّا قلبُهُ فبعيد عنّي. وهو باطلا يَعبُدُني بتعالم وضعها البشر ” متى 15: 7-9″
ويقول أيضا  عن هؤلاء المُتديّنين “يحزمون أحمالا ثقيلة شاقّة الحمل ويلقونها على أكتاف الناس ولكنّهم لا يُحرّكون اصبعا تُعينهم على حملها”(متى 23 :4 )”.أي انهم “يقولون ولا يفعلون”.
فممارسة الطقوس الدينيّة لا تكفي لكي يكون الأنسان مقبولا لدى الله لانَّ الله ينظر في داخلنا وليس في ظاهر حياتنا . الأمانة للملكوت تَمُرُّ في أعمال التقوى الأساسية من صدقة وصلاة وصوم. هي أعمال برّ (أي الأمانة لله في حالات خاصة)  نعيشها في الخفية أمام الآب .إن انتظرَ المؤمن أن يراهُ الناس ، يأخذ أجرهُ من الناس ، لا من الله .وإن عَملَ لله ، فلا حاجة الى الظاهر (مظاهر التديُّن)لأنّ الله يرى في الخفية .يقول الله على لسان إشعيا النبي :”هذا الشعب يتقرّبُ منّي بفَمِهِ ويكرمني بشفتيه ، وأمّا قَلبهُ فبعيد عنّي.فهو يخافُني ويعبدُني بتعاليم وضعها البشر “اشعيا 29 : 13”

الرياء هو أن يعمل شخص ما شيئا صالحا لمجرّد الظهور هكذا أمام الناس، وليس بدافع الشفقة أو بنيّة حسنة، فأعمال هذا الشخص قد تبدو صالحة ، ولكن دوافعه تكون جوفاء ، وتصبح هذه الأفعال الجوفاء هي كُلّ مكافأته ، بينما يكافيء الله المخلصين في إيمانهم .

ان الله لايحاسبنا على الأعمال والأقوال فقط بل أيضا على النيّات (وتكون الدينونة يوم يدين الله خفايا الناس) (روما 2 :16 ). فلا يكفي أن نقول انَّ الله يوزن الأعمال والأقوال الظاهريّة، بل هو الذي يعرف ما وراء هذه الأعمال والأقوال هل هي مظاهر دينيّة لاظهار الذات والكبرياء والشهرة للوصول الى غاية وهدف شخصي لا علاقة له بالأيمان والمحبّة الحقيقية؟ .

الكثيرون من الناس يظنّون انّ الأعمال الصالحة في الماضي تُخلّصهم لانّهم عملوا أعمالا بما يكفي لتُغطّي على الخطايا التي اقترفوها والتي لايريدون التخلي عنها ، لكن الكتاب المقدّس يقول لنا انّ لا جدوى من محاولاتنا أن نكون صالحين في بعض النقاط ليتسنّى لنا التصرّف بسوء في النقاط الأخرى(راجع حزقيال 33: 12) .

يقول بولس الرسول مخاطبا اليهود الذين في الظاهر يتبعون الناموس(الشريعة) ولكن في الحقيقة هم بعيدين عن تطبيق الناموس:

” وأنت َيا من تُسمّي نفسَك َ يهوديّا و تتّكل على الشريعة و تفتخر بالله و تعرف مشيئته و تميز الامور المتخالفة متعلما من الشريعة و تثق انك قائد للعميان و نور للذين في الظلمة و مُهذَّب للأغبياء و مُعلّم للأطفال ولك صورة العلم والحق في الناموس.  انت يا من يعلّم غيره، أما تُعلّم نفسكَ ؟ تنادي : لا تسرق ، وتسرق أنتَ؟ تقول : لا تزنِ ، وتزني ؟ تستنكر ألأصنام وتنهَب هياكلها ؟ تفتخرُ بالشريعة وتُهين الله بعصيان شريعته ؟”روميا 2 : 18-24″.
لايوجد ،كما يعتقد اصحاب بعض الديانات، بانَّ الحسنات تأكل السيئات وانَّ الأعمال الصالحة توضع في كف ميزان مقابل الأعمال الطالحة التي توضع في الكفّة الثانيّة للميزان ويكون الخلاص او الدينونة بحسب ثقل كفّة الميزان .يقول الله على لسان حزقيال

النبي:”لايستطيع البارُّ أن يحيا ببرّه في يوم اقترافه الخطيّة”حزقيال 33 : 12
ليست الديانة مجرّد الأشتراك في الطقوس والشعائر والممارسات الخارجيّة، ان الله لا يريدُ حركات استعراضيّة لأيهام الآخرين أو خلق انطباع لديهم بصلاحنا او تقوانا، لكن الله يريد منا ايمانا بسيطا شفافا والتزاما منا بما يريده هو وليس مجرّد اقناع الآخرين انّنا متديّنين . الله يريد أعمالنا الصالحة. في الحقيقة التديّن يوضّح ويؤكّد لنا فشلنا في الخلاص، التديّن هو ابطال عمل المسيح في المصالحة مع البشريّة بنعمة الخلاص. أي التديّن هو أّننا نريد أن نُظهر للآخرين أننا نستحق الخلاص بجهودنا[او بجهادنا بالسيف] دون الأتكال على عمل المسيح الخلاصي على الصليب. الخلاص الذي يُقدِّمهُ الله بواسطة المسيح، هو لجميع البشر، يهودأ وغير يهود، وذلك في اطار الأيمان:

أولا : بالأيمان بالأنجيل(بشارة الخلاص ) ينقل البشر من غضب الله الى البرّ الخلاصي (روميا 1 :18-4:26) . إنكشف غضب الله للوثنيين الذين لم يعبدوا الله ولم يحمدوه، كما انكشف لليهود الذين إبتعدوا عن الخلاص رغم ممارستهم للشريعة. ولكن تجلّى برّ الله الذي يُخلّص الذين آمنوا بموت المسيح الفدائي من الفريقين.

ثانيا: حمل المسيح الى جميع البشر التبرير بالأيمان، فحلّ نظام الروح محلّ نظام الحرف. فأنتقل المؤمنون من الموت الى الحياة ومن نظام الشريعة والحرف الى نظام الروح. بموت المسيح تحرّرت البشرية من نظام الشريعة، غير أنّ هذه الشريعة التي هي صالحة جعلت الخطيئة تكثر فقادت الأنسان الى الموت. ولكن حكَمَ الله على الخطيئة في جسد المسيح، فتحرّر المؤمنون وعاشوا بحسب الروح وصاروا أبناء الآب ووارثين مع المسيح. الشريعة ليست مجرّد ” الحرف”، بل هي دليل للحياة بحسب مشيئة الله، كما أنّها تُذكّرنا بأننا لا نستطيع ان نحيا حياة البرّ ما لم تكن لنا علاقة مع الله.. فقبل ان نتّهم الآخرين ، علينا أن ننظر الى أنفسنا لنرى ما إذا  كان لهذه الخطية وجود فينا بأيّ صورة .

ثالثا : رفض بنو إس*رائي*ل المسيح يسوع ، فلم يُشكّل رفضهم عائقا أمام شموليّة مخطط الله الخلاصي .مع أن شعب الله نال امتيازات عديدة ، إلّا انّ قسما فقط صار “أبناء الموعد” . هذا لا يعني أنّ الله كان جائرا، وهو  الذي رحم اليهود والوثنيين . ولكن بني إس*رائي*ل رفضوا أن يسمعوا ويفهموا، فما نال الخلاص سوى بقيّة اختارها الله.
الله لا ينظر الى الوجوه بل الى النوايا الداخليّة، الله لايريد أن يقيّدنا بسلسلة طويلة من المحرّمات والمحلّلات والقوانين والنواهي ولا يريد منا ذبائح وقرابين وطقوس واحتفالات في ايّام الأعياد وكل مظاهر التقوى الخارجيّة بل يريد منا قلوبنا ومحبّتنا له ومعرفة شخصيّة به وتكوين علاقة معه، وأن نحبُّ كُل انسان مهما كان معتقده. هذا هو ما يريده الله، بينما التديّن هو رياء وكذب وغش، وهو قناع يختفي تحته كل ما هو نجاسة ونتانة. كان اليهود لا يقومون بالعمل في يوم السبت وكانوا لايعاشرون الخاطئين والفقراء والمرضى، حيثُ كانوا يعتقدون أنهم من المغضوب عليهم والضالين ، أي هي عقوبة الهية لهؤلاء . وكانوا ، اليهود ، لايخالطون الشعوب الأخرى الغير اليهوديّة بل يعتبرون الوثنيين كلابا ونجسين، وحتى كانوا يعتبرون المرأة درجة ثانيّة بل كان اليهودي يشكر الله لأنّه لم يخلقه امرأه.

انّ الله لا يفرح بممارساتنا الخارجيّة ان لم يكن هناك ايمان من الداخل، ولكن اليوم الكثيرون وضعوا ايمانهم في طقوس ديانتهم وطوائفهم أكثر مما في الله الذي يعبدونه، فالعلامات الخارجيّة لا معنى لها دون ألأيمان والمحبّة القلبية، وكل انسان فاسد دون قبول النعمة المجّانيّة التي أعطاها الرب يسوع المسيح، وهي أنه غسل قلوبنا (خطايانا) بدمهِ على الصليب وأعطانا قلوبا جديدة. الله يريدُ أن نُحبُّه ونقيم علاقة معه بعد ان نتوب ونرجع عن خطايانا وبعد ذلك يسرُّ باعمالنا عندما نخدم اخوتنا في الأنسانية ونصرف الوقت ونجاهد في بذل المال والجهد لخدمة اخوتنا، بكُلِّ محبّة، مهما كان انتماؤهم أو ديانتهم او معتقداتهم .

كوستي بندلي في كتابه “الله والشر والمصير” يقول:

“إنّ التديّن السطحي، السحري الى حد بعيد، كان ولا يزال يخفي لدى الأنسان، فردانيّة نهمة شائعة لدى الكثيرين، تتّخذ شعاراَ “يا ربّ، نفسي!”، فردانية تستهتر بالأنظمة والقوانين، ولا تُقيم أيّ وزن للمصلحة العامة. بعبارة اخرى تجعل الأنسان مغتربا بالفعل عن الله وعن أخيه الأنسان (رغم ترداد اسم الله على شفتيه عند كلّ شاردة وواردة). فكان من شأن هذا الاغتراب أن يجعل من بلدنا(لبنان) موضوعا قابلا لفعل تلك الأسباب التي فجّرت الحرب المدمّرة [وهذا ينطبق على كُل الدول التي فيها حروب ومأسي]. ولا يُفهم من ذلك أنّ الله أرسل لنا هذه الحرب للأقتصاص منا ( وهذا ما يدّعيه الكثيرون من المتديّنين) عن جهل يوحي بعمق تشوّه صورة الله فينا، إذ إنّ هذا الأدعاء يجعل من الله سبحانه شريكا في الشرور التي تُسبّب بالحرب والتي لا تزال تحول دون وضع حدّ لها.

كلّا ، ليس الله مسؤولا عن الشرور ،إنّما نحن الذين جلبناها على أنفسنا  عندما اخترنا طريق الموت بإغترابنا عنه .لذا فلا بُدَّ من مراجعة النفس بصدق والعودة إليه ،تلك العودة التي تتم ، لا بإقامة الشعائر الدينية وحسب ( وما أبرعنا في الأكثار منها والتبجُّح بها) ، بل بإهتداء القلب اليه والى البشر “عياله” أيّا كان معتقدهم ، عند ذلك تنفتح أمامنا وأمام وطننا درب الحياة ويصبح حلّ القضايا السياسية المعقّدة أيسر منالا .

يقول غريغوريوس النيصصي(في القرن الرابع) :”  لا يُمكن إعتبار الله مسؤولا عن الشرّ . وهو صانع ما هو موجود وليس ما هو غير موجود، وهو الذي صنع النظر وليس العمى (….) وذلك من دون أن يخضع الأنسان الى ما يروق له (أي الله) غصبا عنه كما لو كان أحد الجوامد. عندما يتألّق النور بملء نقائه.. إذا شاء أحدهم أن يحجب عنه بصره بإطباق جفنيه، فالشمس ليست مسؤولة، والحال هذه .(انتهى الأقتباس).

قال الرب يسوع المسيح :”أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة” يوحنا 12 : 46″  الكتاب المقدس يُشبّه الله  ومجده بالشمس المشرقة ،ويقول عن المسيح هو “شمس البرّ” التي تشرق على الجالسين في ظلال الموت ، ويُهديهم في طريق السلام .يختم النبي ميخا أسفار العهد القديم بالكشف عن مجيء الرب للخلاص، فيشرق بنور برِّه على الجالسين في الظلمة، ويهب الشفاء لمؤمنيه، حتى يذكروا الشريعة بمفهومٍ روحيٍ عميقٍ، روح الحب والسلام كأسرة واحدة مقدّسة .

عرف بولس الرسول كيف يعتبرُ اليهوديُّ نفسهُ مُبرّرا، لأنّ هذا ما عاشهُ، هو نفسهُ قبل أن يهتدي ويشرق نورالمسيح عليه وهو في طريقه الى دمشق . هناك دور يُطلب من اليهوديّ أن يلعَبهُ. ولكن الممارسة تجعلهم يفعلون غير ما يقولون. يعتبر اليهود أنّ الوثنيين الذين لا يعرفون شريعة موسى وأنّهم عميان، فيرون أنّهم يتفوّقون عليهم.
اليوم أيضا هناك مشكلة حقيقيّة في الديانات وهي انّ الناس تلبس قناع التديّن. إنّ القناع يُخفي عن التديّن الطبيعي أو الظاهري، الضياء الإلهي كما جاء في رسالة بولس الرسول الثانية الى المتهودين في تسالونيكي  ( 2كورنثوس 3 : 12-18). فالبرقع (القناع) يخفي عن بني إس*رائي*ل الضياء الإلهي الذي يشعُّ من وجه موسى. فعندما نزل موسى من جبل سيناء ومعه الوصايا العشر، كان وجهه يلمع نتيجة وجوده في محضر الله . فكان يضع بُرقعا (قناعا) حتى لا يرتعب الشعب من لمعان وجهه، الذي كان يشُعُّ منه نور الله (راجع سفر الخروج 34 : 29-35).

ولكن عاد بولس الرسول الى تفسير المعلّمين (اليهود)  ليقول أنّ القناع يمنع بني إس*رائي*ل من رؤية مجد زائل عندما يقول: “لكن عُميت بصائرهُم ، فلا يزال ذلك القناع الى اليوم غير مكشوفٍ عند قراءة القهد القديم “.

بولس الرسول يقول إنَّ ذلك البرقع (القناع) كان يحول بينهم (أي الشعب اليهودي) وبين رؤية المجد الزائل. فموسى وبُرقعه يصوّران زوال نظام العهد القديم ووضع حجاب على عقول الشعب وقلوبهم. فتراث اليهود كان أشبه ببرقع من الكبرياء، حال بينهم وبين فهم الأشارات الى المسيح (نور العالم) في أسفار العهد القديم. ولكن عندما يصبح أحد الناس مسيحيّا، يَرفع المسيح عنه بُرقع الكبرياء: “ولا يُنزع هذا القناع إلّا الأهتداء الى الربّ. فالربُّ هو الروح، وحيث يكون روحُ الربّ تكون الحُريّة. “وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ ” راجع 2كورنثوس 3 : 12-18″

نعم الأهتداء يفتح الطريق لمشاهدة مجد الله في المسيح، ويُتيح لنا أن نعكسهُ في الروح “روميا 4: 4-6”. فالربُّ هو الروح. أي يعطينا المعنى الروحي للكتاب المقدّس، ويتماهى مع هذا المعنى. والحُرّيّة التي يحملها تُحرّر المؤمن من الحرف. فالمسيح هو مجد الله في ملئ بهائه (عبرانيين 1 :3)، مجدٌ أبدي لا يزولُ. نالَ هذا المجد مُنذُ الأزل. ومن يؤمن به يُشاركهُ في مجدهِ. وهكذا نكون في خط قداسة المسيحيين الذين يتحوّلون شيئا فشيئا الى المسيح. مجداً على مجد. حرفيّا: من مجد الى مجد. أي من مجد المسيح الى مجد المسيحيين. يسوع يعيش في قلوب المؤمنين. لا شكَّ هذا سرّ، ولكن من يعرفون أنّ المسيح في داخلهم، يدركون حقيقة وجوده. إنّ المجد الذي يُضفيه الروح القُدس على المؤمن، لهوَ أعظم، نوعاً وبقاء، من المجد الذي كان لموسى، فهذا المجد يُغيّر المؤمنين الى صورة المسيح، في عمليّة مُستمرّة. وكُلّما قوي إرتباطنا به، زدنا شبها به.

الكتاب المقدّس هو عبارة عن قصة حُبّ بين الله والأنسان، ولكن لا يستطيع أحد فهمهُ إذا لم يكن بيده المفتاح. وهذا المفتاح هو يسوع المسيح. والذين يقرأون الكتاب المقدّس خارج المسيحيّة هم مثل من لبسّ البُرقع فلا يرون ولا يفهمون العهد القديم الذي يتكلّم عن يسوع المسيح. فلا يزال ذلك القناع الى اليوم غير مكشوف عند قراءة العهد القديم ولا ينزعه الّا المسيح.  اليهود (وكُلُّ من هم خارج المسيحية) لا يفهمون الكتاب المقدّس حتى اليوم، لانّهم ليس لهم هذا المفتاح الذي بيد المسيحي المؤمن. بولس الرسول يقول لبني إس*رائي*ل (اليهود) وكُلّ من هم خارج المسيحية الذين لا يفهمون حقائق الكتاب المقدّس لانّهم لا يعرفون المسيح.

الكتاب المقدّس هو جزئين لا ينفصلان. وكما يقول القديس أوغسطينوس: في العهد القديم نرى المسيح نور الله. أمّا في العهد الجديد نرى المسيح المتجسّد (أي الله صار معنا “عمّانوئيل”).  الليل بهي بكواكبه وبهائه (العهد القديم) . في النهار نرى الشمس (العهد الجديد). أي يسوع المسيح الذي يقول :“أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ “يو 8: 12″. شخص المسيح هو محور الكتاب المقدس والعهد الجديد هو كتاب الله بيسوع المسيح. فيسوع المسيح لا يتحدّث بلسان الله فقط، بل إنّه هو الله ذاته .وهو أزلي أبدي : في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله . بهِ كان كُلّ شيء، وبغيره ما كان شيءٌ مما كان ” يوحنا 1 : 1-3″. هذا الأعلان الكامل لله ولن يجد الإنسان صورة لله أوضح من أن يتطلّع الى يسوع المسيح. إنّ يسوع المسيح هو التجسُّد الكامل لله “إنّهُ ضياء مجد الله” عبرانيين 1 :3″.

ماذا يريد الله من البشرية ؟

هل الله يريد ذبائح حيوانية تقدّم له لأرضائه  “؟

أذا رجعنا الى الكتاب المقدس سنكتشف أن الله قال على لسان النبي هوشع “أُريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله أكثر من المحرقات “هوشع 6 :6”.

الله لا يريد ذبائحنا  بل يريد الأستماع الى صوته. فالطاعة افضل من الذبيحة والأصغاء أفضل من شحم الكباش

أي ان الله يريد علاقة المحبة والألفة معه. وقد اكّد الرب يسوع هذا التعليم الذي ورد في نبوة هوشع واستشهد به مرتين كما ورد في انجيل متى “راجع متى 9 :13”. “الله يريد منا التواضع “روحٌ مُنكسرة “(مزمور51 :16) “.

هل الله يريد صلوات مُلقَّنة يُردّدها ألأنسان كالببغاء أم يريد الله ان تكون صلاتنا صلاة قلبية حميمية مع أبينا السماوي؟

هل يريد الله دينا أو عقيدة يستعلى (معتنقيها) على الناس ويحتقرونهم وينبذوهم ويدوسوا على كرامتهم وينتهكوا اعراضهم  ويضطهدونهم ويحلّلوا ق*ت*لهم وتقديمهم كقرابين بشرية لأشباع “ساديّته ، أم يريد صيانة كرامة الإنسان مهما كانت عقيدة هذا الأنسان لانّه مخلوق على صورة الله ؟.
الهنا يريد تطبيق الحق والعدالة والصدق والأمانة (عاموس5 :24).

الهنا اله الرحمة والحنان والمحبّة يهتم بجميع الناس حتى الخطاة والمجرمين ، والحياة المسيحية ليست مجالا للشهرة ، بل أن نقتدي بيسوع المسيح الذي علّمنا سرّ الملكوت  في التطويبات على الجبل(راجع انجيل متى الأصحاح 5)
الله يريد منّا أن نتغيّر من الداخل بالتوبة الداخليّة والتواضع ، أي تطهير القلب والفكر.

ورسالة يسوع المسيح واضحة وصريحة فعندما يقول لنيقاديمس ( وهو كان فرّيسي وأحد وجهاء اليهود وعضو في المجلس اليهوديّ وكان يجسّد شخصيّة المعلّم في إس*رائي*ل، أتى إلى يسوع ليلاً ليعترف به على أنّه المعلّم الإلهيّ الآتي من الله) :”إن لم تولد من جديد فلا تدخل ملكوت الله ” يوحنا 3 :3″  . بالولادة الجديدة الثانية وهي أن نقبل أنّ الخلاص هو نعمة مجانية وهبها لنا يسوع المسيح عندما قدَّم نفسه ذبيحة وقربانا لنا على خشبة الصليب. وإنّ اعترافنا بأنَّ به فقط الخلاص، وما علينا الّا أن نقبل الروح القدس في قلوبنا بعد التوبة بقلوب منكسرة، عندها بقوة روح المسيح الساكن فينا نستطيع أن نتغيّر ونصبح خليقة جديدة *

سوء التفاهم الذي ما زال يفصل المسيحيين عن اليهود والآخرين من العقائد الأخرى، يكمن في هوية يسوع. ففي نظر البعض (نيقوديمس ويهود عصره) يسوع هو نبي أرسله الله. وفي نظر البعض الآخر (المسيحيون) يسوع هو كائن لا يقدر أن يراه إلاّ الذين وُلدوا من الماء والروح.. يسوع هو هذا الموحى الذي لم يقدر أن يتعرّف إليه نيقوديمس، ومن خلاله الشعب اليهودي. واليوم أيضا لا يستطيعوا المولودين من الجسد  أن يعرفوا من هو المسيح إلّا بالولادة الروحية أي الخليقة الجديد أي الميلاد الثاني بالماء والروح.

لهذا الرسول بولس يقول “عن غيرالمؤمنين الَّذين أعمى إله هذا العالم بصائرهم حتّى لا يُشاهدوا النور الذي يُضيءُ لهم ، نور البشارة بمجد المسيح الذي هو صورة الله   ” 2كو 4 :4″.

العالم الحاضر مطبوع بالخطيئة والأنفصال عن الله ، وهو يقابل الدهر الآتي المطبوع بالنور . فالذين يتبعون الشيطان ،ويجعلونه الههم ، فهم عميان  لا يرون مجد الله . وهكذا تتواصل صورة القناع .

” والله الذي قال : ” ليشرق من الظلمة النُّور ” هو الذي أضاء نورُهُ في قُلوبنا لتشرِقَ معرفةُ مجد الله ، ذلك المجدِ الذي على وجه يسوع المسيح ” 2 كو4 :6″.

في البدء وبعد السموات والأرض ، خلق الله النور “تكوين 1 :3” . وهذا النور الذي يشرق أيضا في الخليقة الجديدة ، يُشرقُ في قلب الرسول بولس  فيجعله ينادي بالمسيح . هو مجد الله كما على وجه المسيح

بيسوع المسيح وصل التاريخ الى ذروته، ووحي ُ الله الى كماله، بالمسيح تمّ َعمل الخلق وبه تصالحت البشرية مع الله . بالأبن المتجسّد طهّرنا من خطايانا وافتدانا بموته على الصليب . والمسيح قام وهو الآن مع الآب، سيّد الكون وحافظه،. فمجده لا يضاهيه مجد .فيسوع المسيح ، ألأبن الوحيد لله ، أسمى وأعظم من أي كائن آخر . إنّ الطاعة من القلب أهم جدا من الأعمال الطقسيّة والفرائض والذبائح لانّ الله يريد منا أن نقدّم له قلوبنا وذواتنا وان نحبّهُ من كل قلبنا وعقلنا وأن نحب الأخرين كانفسنا هذه هي خلاصة الكتاب المقدّس.

المراجع

1 – التفسير التطبيقي للكتاب المقدَّدس

2 – قراءة رعائيّة للكتاب المقدّس

3  – كتاب “كوستي بندلي” الله والشر والمصير “

*(راجع مقالة للكاتب بعنوان: الخليقة الجديدة – او الولادة من فوق، اي الميلاد الثاني بالروح”. )

الخليقة الجديدة – او الولادة من فوق ، اي الميلاد الثاني بالروح.  

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!