مناوي وحسابات البقاء في حرب السودان
مناوي وحسابات البقاء في حرب السودان
طموح مشروع أم مغامرة خطرة
في مشهد الحرب السودانية المعقد يقف مني أركو مناوي على رمال متحركة من التحالفات المؤقتة والحسابات الحذرة، يتنقل بينها بحذر بالغ، متلمسا طريقه في جغرافيا سياسية تمور بالصراعات والمكائد. موقفه الداعم للجيش لا يُقرأ خارج سياق الطموح المشروع أحيانا، والمغامرة الخطرة أحيانا أخرى لكنه في كل الأحوال ليس موقفا عبثيا أو انقيادا أعمى، بل هو انعكاس لمعطيات الجغرافيا والسياسة، وحسابات البقاء في مشهد لا يرحم الحياد ولا يغفر للضعف.
إن مناوي، وهو الذي جاء إلى سدة السلطة في دارفور إثر تسوية هشة، يدرك تماما أن موقف الحياد في هذه الحرب كان سيعني خروجه النهائي من المعادلة السياسية. فهو لا يملك عمقا جغرافيا يتيح له المناورة، ولا كتلة ديموغرافية يمكن أن تعصمه من التلاشي في خضمّ التحولات المتسارعة. ولعل أحد أبرز دوافعه للقتال إلى جانب الجيش هو حماية إقليمه من السقوط الكامل في قبضة قوات الدعم السريع، لأن هذا السقوط – إن حدث – سيقوّض كل مشاريعه السياسية، ويجرده من أي قدرة على التأثير أو حتى على البقاء كفاعل في مستقبل الإقليم.
لكن مناوي لم يكن وحده من تحرّك بهذه البراغماتية. فمواقف الجيش وحلفائه، وعلى رأسهم عبدالفتاح البرهان، اتسمت في الكثير من المراحل بالهروب من المسؤولية والتخلي عن المواقع، وترك المواطنين لمصيرهم في وجه آلة الحرب، دون حماية أو دعم. لقد انكفأت قيادة الجيش نحو بورتسودان، في ما بدا أنه انسحاب تكتيكي أعيدت صياغته لاحقا تحت شعارات “إعادة التموضع”، بينما في الحقيقة كان يعكس هشاشة عسكرية وانهيارا معنويا.
ولولا تدخل مناوي وقواته، لربما كانت بورتسودان ومدن الشمال الأخرى قد سقطت في يد الدعم السريع، وهو ما يفسر – ولو جزئيا – السماح له بتوسيع نفوذه في الإقليم، ولو إلى حين. فالجيش، في لحظة من لحظات ضعفه، اضطر إلى الاستعانة بمن كان يصنف سابقا ضمن خانة “التهديد”، وها هو اليوم يتحول إلى “حليف ظرفي” تؤمّل عليه السلطة المركزية تحقيق التوازن العسكري، دون أن تكون قادرة على ضمان استمرارية هذا التحالف أو حتى على تأمينه من الغدر الداخلي.
◄ مناوي الذي قاتل من أجل البقاء السياسي قد يجد نفسه في مرمى نيران “الحلفاء”، فالمؤسسة التي تخلت عن المواطنين لن تتورع عن التضحية بأحد قادتها العسكريين إن اقتضت مصالحها ذلك
الواقع أن الحركة الإسلامية – وهي التي تمسك بخيوط كثيرة داخل مؤسسة الجيش – لا تنظر بعين الرضا إلى صعود مناوي ولا إلى محاولاته للعب دور محوري في توازن القوى. فالتاريخ عند الإسلاميين ليس إلا سلسلة من الإزاحات المتكررة لكل من يقف في طريق مشروعهم للتمكين، ومآلات خليل إبراهيم وجون قرنق ليست سوى شواهد دامغة على قدرة هذه الحركة على التصفية المعنوية والجسدية، دون أن يطرف لها جفن.
إن تحركات الحركة الإسلامية اليوم توحي بأنها تسعى إلى إطالة أمد الحرب في دارفور، ليس فقط بهدف إنهاك الدعم السريع، بل أيضا لترتيب صفوفها في الشمال، حيث تعوّل على إعادة إنتاج سلطتها التاريخية من بوابة التعبئة القبلية والدينية، وهي الوصفة ذاتها التي أفضت إلى سنوات الدم والخراب. وهنا، يصبح مناوي – بكل ما يمثله من طموح قومي ورغبة في الخروج من القوقعة الجغرافية – عقبة مزعجة، يُخشى أن يتم تدبير خروجه من المشهد عبر سيناريوهات مألوفة في قاموس الإسلاميين.
المفارقة أن مناوي، الذي قاتل من أجل البقاء السياسي، قد يجد نفسه في مرمى نيران “الحلفاء”، بعد أن تُنجز بهم مرحلة الضرورة. فالمؤسسة التي تخلّت عن المواطنين وتركتهم نهبا للموت والتشريد، لن تتورّع عن التضحية بأحد قادتها العسكريين إن اقتضت مصالحها ذلك. إن وجود مناوي في واجهة الحرب لا يمنحه بالضرورة مقعدا في طاولة القرار، بل قد يجرّه إلى فخّ التصفية المتقنة، التي يُراد لها أن تبدو كحوادث حرب، لكنها في جوهرها تصفيات سياسية بدم بارد.
وفي خضم هذه المعمعة، يبدو أن السودان ماض في حرب تُدار بعقلية كراهية الآخر، لا برؤية وطنية جامعة. حرب تنبع من شهوة السلطة، وتُغذّى بتوازنات الجغرافيا والانتهازية، أكثر مما تُلهمها فكرة الوطن أو المستقبل. وهنا، يكون على القوى المدنية أن تعي أن صمتها ليس حيادا، بل مشاركة ضمنية في جرائم تُرتكب باسم الحفاظ على وحدة البلاد.
إن مصير مناوي – أيّا كان – لن يكون نهاية الحكاية، بل بداية فصل جديد من فصول صراع السلطة والهوية في السودان، صراع لم يعد يحتمل المزيد من الغدر والتصفية، بقدر ما يحتاج إلى شجاعة التفاهم وتجاوز سرديات التخوين والتخويف. فالمعادلة السياسية في السودان لا تستقيم إذا ظلت قائمة على منطق الإقصاء والق*ت*ل الرمزي أو المادي، بل لا بد لها من عقل جديد، يتجاوز منطق الحرب إلى منطق الدولة.
د. عبدالمنعم همت
كاتب سوداني مقيم في الإمارات
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.