الحوار الهاديء

لأنك عراقي .. انتخب

من المعروف تاريخيًا أن العراقيين يمتازون بتقلّب المزاج بشكلٍ لافت، فقد يضحك معك صباحًا ثم ينظر إليك شزرًا مساءً، من غير سببٍ واضح أو منطقي… ؛  وقد عبّر الخليفة عمر بن الخطاب عن حيرته في التعامل معهم بقوله: “إن بعثتُ إليهم والياً عادلاً استضعفوه، وإن بعثتُ إليهم والياً ظالماً شكوه”… ؛ هذا التوصيف يوضح صعوبة إدارة الحكم في العراق منذ العصور الأولى، وهو ما دفع الحاكم الأموي معاوية بن أبي سفيان إلى نصح ابنه يزيد قائلاً: “لو طلب منك العراقيون أن تغيّر واليًا كل يوم فافعل، فإن ذلك خيرٌ لك من أن يرفعوا عليك مئة ألف سيف”.

من هذا المنطلق، أقولها بصراحة و بثقة لا تحتمل الشك : إن العراقيين هم أبعد الشعوب عن القبول بالحكم الملكي المطلق أو التماهي مع الدكتاتورية او الرضوخ للزعيم الاوحد  …  ؛ إنهم لا يصلح لهم سوى النظام الجمهوري، ولكن بشرط أن يكون ديمقراطيًا، وطنيًا، وعادلًا، لا طائفيًا، ولا عنصريًا، ولا تابعًا لأجندات خارجية… ؛  نظام يمنح الحكومة أربع سنوات فقط، لا أكثر، ليُحاسَب بعدها المسؤولون في صناديق الاقتراع.

لقد سئم العراقي الاصيل والمواطن المسكين من قسوة الزمان وتوالي المصائب، ومن كثرة الاحتجاجات والثورات والانتفاضات والانقلابات العسكرية وبيانات رقم (1) واحتلال الإذاعات… ؛ وقد سئم أيضًا من نتائج هذه الفوضى: من انتشار الأمراض والمظاهر الشاذة والانفلات الاجتماعي، ومن تداعيات الحروب والفساد والتدخلات الأجنبية والازمات والانتكاسات , والانهيار الاقتصادي، وتدهور المنظومة القيمية، وانتشار الفساد والمحسوبية.

لكن، وبعد مخاض عسير وصبر طويل، وتضحيات جسام قدمها الشهداء والأحرار والمجاهدون والفقراء والمظلومون … ؛ استجاب القدر وجاء التغيير , وسقط النظام الدكتاتوري الطائفي الاجرامي الهجين … ؛ عندها وُلدت تجربة ديمقراطية فتية أساسها التداول السلمي للسلطة وفروعها الحياة المدنية والحريات … ؛  نعم، إنها لم تكتمل بعد، ومليئة بالشوائب، لكنها تمثل التحوّل الأهم في تاريخ العراق الحديث، حيث بات التداول السلمي للسلطة عرفًا سياسيًا راسخًا، ولو في الحد الأدنى.

الديمقراطية والدكتاتورية: حين تتحول البنادق إلى بطاقات انتخاب

لم يُخطئ العراقي حين اختار طريق الديمقراطية والحياة المدنية… ؛ فالنظام الديمقراطي الحقيقي لا يتطلب من المواطن أن يحمل السلاح لتغيير الحاكم، بل يكفي أن يحمل صوته الواعي و يجهر بمشاركته السياسية … ؛  فبدلاً من ركوب الدبابات، صار المواطنون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع… ؛ و المعارضون اليوم لا يُنفَون ولا يُغتالون ولا يعتقلون ، بل ينتقدون علنًا عبر المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي. وقد يستجيب النظام، ولو نسبيًا، لضغط الرأي العام.

اذ صار بإمكان المواطن العراقي أن يراقب أداء السلطات، ويحاسب السياسيين والمسؤولين ، وينتقد من يشاء في العلن، في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وأحيانًا تستجيب الحكومة لصوته، أو تتراجع تحت ضغط الرأي العام… ؛  نعم، التجربة مليئة بالشوائب، والفساد، والطائفية، والفساد الانتخابي، ولكن الأمل قائم.

إن الديمقراطية، بعمقها الفكري، ليست قالبًا سياسيًا جامدًا , بل ثورة دائمة متجددة – ثقافية , اجتماعية , اقتصادية , سياسية – تصحح نفسها بنفسها، وتجفف منابع الاستبداد  والعن*ف من الداخل , وتكافح الاستبداد والفساد بوسائل سلمية ومؤسسية , من دون الحاجة إلى العن*ف أو الدماء أو الانقلابات أو المؤامرات خارجية  … ؛ أما الدكتاتورية والعن*ف والطائفية ، فحتى إن أسقطتها ثورة، تعود بثوب جديد إذا لم تُجتَث جذورها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية .

وعليه، أمام العراقي خياران لا ثالث لهما:

الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والمشاركة الفاعلة في العملية السياسية والمساهمة في صناعة المستقبل من خلال أدوات مدنية وسلمية… ؛ والدفاع عن النظام الديمقراطي رغم علّاته، والعمل على إصلاحه وتطويره … ؛ أو العودة إلى المربع الأول: إلى الدكتاتورية والقمع والحكم العسكري والحزب الواحد والزعيم الأوحد … ؛ والانسحاب والمقاطعة، ما يعني ترك الساحة للفاسدين، أو الأسوأ من ذلك ؛ الانزلاق نحو الحكم الشمولي والعن*ف والفوضى والدمار والخراب .

إن من يختار المقاطعة أو تعطيل الدولة أو اللجوء إلى الفوضى والعصيان المدني ، إنما يدفع البلاد إلى المجهول… ؛ فنحن بحاجة إلى “ثورات”  لكن من نوع جديد: ثورات على مستوى الفكر، والقانون , والثقافة , والاعلام ، والوعي الشعبي والنخبوي المبني على معطيات الواقع والتحديات الداخلية , والمدرك للظروف الإقليمية والضغوط الدولية … ؛  تحدث كل أربع سنوات في موسم الانتخابات، لا في الشوارع عبر الفوضى والسلاح.

 

الانتخابات: مسؤولية وطنية وشرط للإصلاح … ؛ فهي مسؤولية النخب والشعب معًا

الانتخابات ليست شكلاً فارغًا، بل وسيلة مشروعة لتغيير الواقع… ؛ فهي لحظة محورية يُحاسب فيها الشعب الحكومة، ويُسقِط الفاسدين والفاشلين  بطريقة سلمية وشرعية… ؛  إنها “انقلاب دستوري” ناعم، حين يُرفض الفاشلون في صناديق الاقتراع، ويُنتخب الأصلح ؛ لذا يجب على النخب الوطنية والجماهير الواعية أن تضمن نزاهتها، وتمنع تزويرها، وتدعم الأصلح لا الأشهر أو الأقرب طائفيًا أو مناطقيًا… ؛  وهكذا يصبح “الانقلاب” على الفاسدين أو الفاشلين انقلابًا ناعمًا، سلميًا، دستوريًا، وطنيًا، لا يُراق فيه دم، ولا يُهدد فيه أمن الدولة… ؛ ولكي تنجح الديمقراطية، لا بد من ترسيخ ثقافة انتخابية ناضجة… ؛ فوظيفة  النخب ومنظمات المجتمع المدني , الشروع بحملات وعي حقيقية، بعيدًا عن الخطابات الشعبوية… ؛  وعلى الجماهير أن تدرك أن صوتها هو السلاح الأنجع في معركة الإصلاح.

 

أما البدائل الأخرى والحلول غير الديمقراطية … ؛ من انقلابات عسكرية وعمليات ار*ها*بية , وعصيان مدني وتعطيل للحياة , وفوضى … ؛ او الدعوة للحكم الدكتاتوري والشمولي والعسكري او التمجيد بمجرمي الامس القريب او الاشادة بحكم العسكر … الخ ؛ فهي وصفات مجرّبة للفشل والدمار والخراب والبؤس … ؛ و لا تنتج سوى استبداد جديد ولا تلد الا عناصر اجرامية او فاسدة او فاشلة … , ولا تق*ت*لع جذور العفن والعن*ف  ، بل تستبدل طاغية وفاسد  بآخر، وتعيد إنتاج الطائفية والعن*ف والدكتاتورية والفساد في دورات لا تنتهي … ؛  لأنها تركز على إسقاط “الرأس” وتغيير الشكل الخارجي فحسب ، وتُهمل الجذور التي أنبتت الفساد والاسس التي قام الاستبداد والعن*ف عليها : من ثقافات وعادات وتقاليد اجتماعية , و تحالفات المال والسياسة، إلى الانقسامات الطائفية والعشائرية، إلى الإعلام المُؤدلج والثقافة السطحية… الخ .

الديمقراطية: ثورة دائمة لا تنام

على النقيض من الثورات المسلحة الدموية وعلى عكس الانقلابات العسكرية، فإن الديمقراطية تراجع الجذور قبل الفروع، وتخضع كل شيء للنقاش: القوانين، المؤسسات، القيم، الأعراف، وحتى ما يُسمّى بالمسلمات… , ؛ فهي لا تهدف إلى إسقاط فرد، بل إلى بناء مجتمع أفضل، ونظام مستدام، واقتصاد سليم، وثقافة تسامح وتعدد ؛ إنها لا تهتم فقط بالماضي، بل تسأل: ما الذي نحتاجه كي نكون أفضل في الغد؟

الفرق بين الديمقراطية والثورة المسلحة، كالفرق بين المواطن والمقاتل: فالأولى تصنع الحياة والحرية باسم التغيير، والثانية تصنع الموت والدمار باسم التحرير… ؛ ولهذا السبب، نجحت أوروبا في تحويل الديمقراطية إلى ثورة مستمرة، بينما فشلنا نحن في تحويل الثورة إلى ديمقراطية.

المشاركة ليست تأييدًا للفشل والفساد … بل إيمان بالإصلاح والنهج الديمقراطي

من يذهب إلى الانتخابات لا يعني بالضرورة أنه يؤيد الفاسدين أو يبرّر فشل الحكومات والمسؤولين ؛  بل هو يؤمن بالعملية الديمقراطية كخيار استراتيجي لا بديل عنه و كوسيلة راقية للتغيير … ؛ تمامًا كما نُقدّر الإسلام، رغم جرائم بعض من يدّعون تمثيله، فإننا نؤمن بالديمقراطية، رغم فساد بعض من يدّعون قيادتها.

في النهاية، لا خلاص للعراق من واقعه المتأزم إلا بالديمقراطية … ؛ و ليس أمامنا من طريق سوى الإصلاح الديمقراطي، والوعي الشعبي، والعمل المؤسسي، بعيدًا عن العن*ف والتخوين والفوضى … ؛ لأن العراق لا يُبنى إلا بأيدي أبنائه، ولا يُحكم إلا بإرادة شعبه… ؛ لا بالعودة إلى دكتاتورية الفرد، ولا بالمقاطعة، ولا بالعن*ف، بل بالوعي، والتنظيم، والعمل، والصوت الذي يُدلي به العراقي في صندوق الاقتراع، دفاعًا عن وطنه وأطفاله ومستقبل أجياله.

ختامًا: لأنك عراقي، انتخب

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!