كيف يتحكم الإعلام في عقولنا؟ صناعة الموافقة الخفية – عقيل
دور الإعلام في تصنيع الموافقة
في عالم يتسم بالتدفق السريع للمعلومات، أصبح الإعلام أحد أقوى الأدوات التي تُشكّل وعي الأفراد وتوجه آراءهم. لا يقتصر دور الإعلام على نقل الأخبار أو تقديم الترفيه، بل يتعدى ذلك ليصبح أداة فاعلة في تشكيل الموافقة العامة، أو ما يُعرف بـ “تصنيع الموافقة”. هذا المفهوم، الذي تمت صياغته بشكل بارز من قبل المفكرين مثل نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان، يشير إلى كيفية استخدام وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام نحو تبني مواقف معينة تدعم أجندات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية محددة.
الإعلام، سواء كان مملوكًا للدولة أو للقطاع الخاص، يلعب دورًا محوريًا في التأثير على تصورات الأفراد تجاه القضايا الكبرى. فمن خلال انتقاء الأخبار، وتوجيه الرسائل، وحتى إغفال بعض الحقائق، يمكن لوسائل الإعلام أن تُشكّل صورة معينة للواقع. هذه الصورة ليست بالضرورة انعكاسًا دقيقًا للحقيقة، بل هي غالبًا ما تكون نتاجًا لعمليات انتقائية تهدف إلى خدمة مصالح معينة. على سبيل المثال، يمكن للإعلام أن يبرر الحروب من خلال تقديمها على أنها ضرورة أخلاقية أو أمنية، أو أن يروج لسياسات اقتصادية معينة من خلال تصويرها على أنها الحل الوحيد لمشكلات المجتمع.
واحدة من أكثر الطرق فعالية التي يستخدمها الإعلام في تصنيع الموافقة هي “إطار الصورة” أو “التأطير الإعلامي”. فبدلًا من تقديم الحقائق بشكل محايد، تقوم وسائل الإعلام بتقديمها ضمن إطار معين يوجه الجمهور نحو تفسير محدد. على سبيل المثال، يمكن أن يتم تقديم الاحتجاجات الشعبية على أنها أعمال شغب وفوضى، بدلًا من أن يتم تصويرها على أنها تعبير عن مطالب مشروعة. هذا التأطير لا يؤثر فقط على كيفية فهم الجمهور للأحداث، بل أيضًا على كيفية استجابتهم لها.
ولا يقتصر دور الإعلام على التأثير في القضايا السياسية فحسب، بل يمتد ليشمل القضايا الاجتماعية والثقافية والدينية. فمن خلال البرامج التلفزيونية، الأفلام، المقالات، وحتى الإعلانات، يتم تشكيل تصورات الأفراد حول قضايا مثل الهوية، الدين، الأدوار الجندرية، وحتى القيم الأخلاقية. على سبيل المثال، يمكن للإعلام أن يعزز صورة نمطية معينة عن فئة اجتماعية معينة، مما يؤثر على كيفية تعامل المجتمع معها.
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت عملية تصنيع الموافقة أكثر تعقيدًا. فمنصات مثل فيسبوك، تويتر، وإنستغرام لا تقل تأثيرًا عن الإعلام التقليدي، بل إنها في بعض الأحيان تكون أكثر فعالية بسبب قدرتها على الوصول إلى جمهور واسع ومتنوع. ومع ذلك، فإن هذه المنصات غالبًا ما تكون عرضة للتلاعب، سواء من خلال الأخبار الكاذبة أو الحملات المدفوعة التي تهدف إلى التأثير على الرأي العام.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن للجمهور أن يكون واعيًا بهذه العمليات ويتفادى الوقوع في فخ التلاعب الإعلامي؟ الجواب يكمن في تعزيز الوعي النقدي. فمن خلال تعليم الأفراد كيفية تحليل الرسائل الإعلامية، وفهم السياقات التي يتم تقديمها فيها، يمكن أن يصبحوا أكثر قدرة على تمييز الحقائق من التضليل. كما أن تنويع مصادر المعلومات والاطلاع على وجهات نظر مختلفة يمكن أن يساعد في تكوين صورة أكثر شمولية للواقع.
في النهاية، يبقى الإعلام أداة قوية يمكن أن تُستخدم لخدمة الصالح العام أو لتعزيز أجندات ضيقة. الفرق بين الحالتين يكمن في مدى شفافية الإعلام والتزامه بالمهنية والأخلاقيات. وفي عالم يتزايد فيه الاعتماد على المعلومات، يصبح من الضروري أن نكون أكثر وعيًا بكيفية تشكيل هذه المعلومات لآرائنا وقراراتنا. فالإعلام ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو أيضًا أداة تُشكله.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.