مقالات

كارثة التجنيس في العراق: حين تُهدَر الهوية وتُمنح الأرض للغرباء

في مفارقة موجعة تُجسّد أعمق مظاهر العبث والانهيار، أصبحت عملية تجنيس الأجانب والغرباء في العراق أسهل من شربة ماء، بل أيسر من أن يحلم بها المواطن العراقي نفسه حين يسعى لحقٍّ من حقوقه المهدورة.

لطالما شكّلت قضية تجنيس الأجانب في العراق جرحاً نازفاً في جسد الهوية الوطنية… ؛ فالتاريخ الحديث للعراق حافلٌ بفصولٍ مظلمة تم خلالها توظيف منح الجنسية كأداة للتلاعب بالتركيبة السكانية خدمةً لأجندات سياسية منكوسة ومخططات مشبوهة … ؛و لقد فرأت وشاهدت الوثائق وسمعت شهادات الشهود العراقيين من كبار السن عن عمليات تجنيس واسعة شملت بقايا الحقبة العثمانية ورعايا الاستعمار البريطاني في مطلع القرن العشرين، كما تتبعت قرارات الحكومات المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري، والتي اتسمت بالطائفية والعنصرية والتهجين والتدجين وخلط الاوراق … ؛ فقد سعت سلطات الاحتلال العثماني ثم البريطاني ؛  ثم الحكومات المتعاقبة، سواء في العهد الملكي أو الجمهوري ، إلى إدماج عناصر اجنبية و غريبة عن نسيج العراق الاجتماعي والثقافي والديني، وذلك ضمن مشاريع خفية لتقليل نسبة السكان من العراقيين الأصليين وزيادة أعداد الوافدين والدخلاء ؛ وتم ذلك عبر آليات منهجية وخفية  لتجنيس وتقريب وإيواء عناصر بشرية  مجهولة الاصل او مشكوك في خلفياتهم، قادمين من شتى البلدان الناطقة بالعربية وغيرها .

نعم تم تجنيس بقايا الإمبراطورية العثمانية ورعايا الإنكليز والمشرَّدين  والمجهولين من أطراف البلدان الناطقة العربية، لا حبًا فيهم، بل خدمة لأجندات طائفية ومناطقية وسياسية  مقيتة ومشبوهة … .

استحواذٌ على مقدرات الوطن:

والأمر لم يقف عند حدّ تغيير الخريطة الديموغرافية فحسب، بل تجاوزه إلى منح هؤلاء المجنسين امتيازاتٍ طائلة على حساب المواطن العراقي الأصيل… ؛  فقد استحوذوا على السلطة والنفوذ الحكومي فضلا عن فرص العمل والوظائف الحكومية المرموقة، وحصلوا على أراضٍ ودور سكنية فاخرة، بالإضافة إلى رواتب مجزية ومكاسب أخرى، والأدهى أن كثيرًا من هؤلاء أصبحوا ينافسون العراقي الأصيل على رزقه، بل ويتفوقون عليه في امتلاك مفاتيح الدولة وثرواتها ويتسلطون عليه ويتحكمون به احيانا … ؛ في حين ظل العراقي الأصيل  و المولود على هذه الأرض منذ مئات السنين  يعاني ويحلم بالحصول على جزءٍ بسيط مما يتمتع به المصري أو الأردني أو الفلسطيني المجنس !

هذه الحقائق المؤلمة لم تكن مجرد روايات مدونة، بل سمعتها شهادات حية من أفواه عراقيين عاصروا تلك الحقب بل وعاصرناه نحن ايضا وشاهدنا تلك الماسي بأم العين .

استمرار المأساة بعد التغيير:

كنت أظن أن هذه الممارسات والاجراءات والقرارات المشبوهة انتهت أو تلاشت بعد سقوط النظام الهجين البائد عام 2003، غير أن الصدمة الأكبر كانت في استمرار هذا النهج المنحرف حتى بعد سقوط النظام الصدامي … ؛  فبدلاً من تصحيح الأخطاء , واعادة الاعتبار للهوية العراقية الاصيلة , و سحب الجنسية العراقية من الذين حصلوا عليها خلال تلك العهود المظلمة والحكومات الهجينة والعميلة والطائفية والعنصرية  … ؛ شهدنا تصاعداً جنونيا خطيراً في وتيرة تجنيس الأجانب والدخلاء والغرباء ، اذ جاءت قوانين  منكوسة ومشبوهة وإجراءات مختلة تبدو مصممة خصيصاً لاستهداف كيان العراق وهويته الوطنية وثقافته الأصيلة، والنيل من كتلة الأغلبية والأمة العراقية برمتها… ؛ و لتكمل مشروع التذويب والهدم والتهجين ، فتفتّتت الهوية العراقية وتشرذمت الذات الرافدينية  ، وتقلّص الإحساس بالانتماء الوطني ، وانفتح الباب على مصراعيه أمام تجنيس الغرباء والاجانب والدخلاء ، دون ضوابط أو معايير، بل أحيانًا دون أدنى شعور بالمسؤولية الوظيفية والحمية والغيرة الوطنية … ؛ و لقد تحول منح الجنسية من شرف وامتياز إلى تجارة رخيصة تدار في أروقة الفساد.

قصةٌ تذهل العقل:

ولعل ما أفقدني صوابي وأذهلني تماماً قصةٌ سأنقلها لكم دون زيادة أو نقصان: قبل أيام قليلة، زارني أحد شيوخ العشائر المعروفين. وكعادته، كان برفقته سائق سيارة , فهو يتنقل بسيارة خصوصية وعمومية احيانا من مكان إلى آخر – و عادةً ما يكون السائق أحد أفراد عشيرته أو صديقاً مقرباً أو حتى سائق تكسي عادياً –  إذ إن الشيخ لا يقود السيارة بنفسه… ؛  بعد أن استقبلته وتحدثنا في شؤون عدة، همّ بالانصراف … ؛  فقمت بتوديعه إلى باب الدار الخارجي، وهناك قال لي فجأة: “تفضل، أريد أن أعرّفك على أحمد السوري”… ؛ و سألته وأنا في حيرة: “ومن أحمد السوري؟”… ؛  فأجابني: “إنه من أبناء إدلب”… ؛  وعلّق متعمداً: “وهذه المنطقة، كما تعلم، مشهورة بتفشي الار*ها*ب والطائفية… ؛  وأحمد نفسه، مع أنه ينتمي للطائفة السنية المحترمة، إلا أنه نشأ في بيئة طائفية تكفيرية خطيرة”… ؛ ثم أشار إلى سيارة “كاديلاك” فاخرة متوقفة، قيمتها تتجاوز المئة ألف دولار، كان أحمد يجلس خلف مقودها… ؛ والسيارة للمدعو احمد السوري ومسجلة رسميا بأسمه … ؛  ثم ألقى الشيخ القنبلة قائلا : “لقد قمتُ بتجنيس أحمد السوري!”.

صدمةٌ وفضيحةٌ مكشوفة:

انتابتني صدمةٌ عنيفة…؛ و سألته: “وكيف تم لك ذلك؟”… ؛  فأجاب ببساطةٍ تكاد تكون وقحة: “الواسطات موجودة… والفلوس موجودة!”.

في تلك اللحظة، شعرت وكأن الأرض تدور بي… ؛  ها هو المشهد الهجين ذاته يتكرر أمام عيني!

نفس الإجراءات المنكوسة، ونفس سياسات التغيير الديموغرافي المشبوهة تعاد من جديد… ؛  فبينما يتنعم الأجانب والدخلاء وأفراد المافيات الأجنبية بثروات البلاد وخيراته، يعاني شبابنا ورجالنا من ويلات البطالة والقهر والفقر المدقع… ؛ نعم لم أصدق أن هذا السيناريو المظلم يعاد من جديد، وأن العراق ما زال يُسلّم مفاتيحه للغريب ويُقصي أبناءه في الوقت ذاته؛ اذ تُمنح الجنسية العراقية  اليوم لشذاذ الآفاق، والمتسولين، والمجرمين الهاربين والعمالة الرديئة ، بينما يُمنع الشاب العراقي من أبسط حقوقه، وتُغلق أمامه أبواب الوظائف والامتيازات والسكن الكريم.

مقارنةٌ تكشف العار:

والأمر الأكثر إيلاماً هو المقارنة مع جيراننا… ؛ فها هي الكويت، بكل صرامة، تسحب جنسيتها من شيوخ وشخصيات ثقافية وإعلامية إذا ما استشعرت شبهة تهديد للهوية الوطنية… ؛  وها هي إيران لا تسمح بتجنيس الأجنبي إلا وفق شروط تعجيزية… ؛  أما تركيا والأردن والسعودية ولبنان وغيرها من دول الجوار، فتضع من العوائق ما يجعل الجنسية أشبه بالسراب، ولا تُمنح إلا لمن يُقدّم خدمات جليلة للدولة او من ذوي المهارات والكفاءات الاستثنائية … ؛ فأغلب دول الجوار والمنطقة  تُحكم قبضتها على سياسات التجنيس وتضع شروطًا صارمة لا تُمنح بموجبها الجنسية إلا للنخبة … ؛ الا العراق يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا، وكأن منح الجنسية بات عملية “أوتوماتيكية” لا تتطلب سوى  ضغطة على زر – واسطة أو مبلغًا من المال – .

اذ جعلت الحكومات العراقية المتعاقبة، البائدة منها والحالية، من منح الجنسية عمليةً في غاية السهولة، بل “أسهل من شربة ماء”… ؛  والكارثة الحقيقية أنها تُمنح للمتسولين والمشردين والبائسين والفقراء والزوار والمساكين ، ولأفراد مشكوك في خلفياتهم وأصولهم، قادمين من بقاع الأرض، دون أدنى اعتبار لمصلحة العراق أو هويته أو مستقبل أبنائه… ؛ ففي العراق أصبح التجنيس أداة بيد تجار النفوذ والسياسة، وسوقًا يُباع فيها مستقبل الوطن مقابل حفنة من الدولارات , أو دعم خارجي غامض , او ارتباطات بجهات دولية واقليمية مشبوهة .

مؤلم أن نرى أبناء العراق، من أصحاب الكفاءات والعقول، يركضون خلف وظيفة حكومية أو قطعة أرض دون جدوى، بينما يحصل وافدٌ لا يعرف من العراق شيئًا إلا اسمه، على جنسية وممتلكات وامتيازات تفوق ما يحلم به المواطن الأصلي.

لقد تحولت الجنسية العراقية من رمزٍ للانتماء والعزة إلى سلعةٍ تباع وتشترى في سوقٍ سوداء للفساد والواسطة والمحسوبيات والمؤامرات … ؛  إنها قضية وجودية تمس صميم أمن العراق القومي واستقراره ومستقبل أجياله… ؛  فمتى تستفيق الضمائر، ويتوقف هذا النزيف الذي يستنزف مقدرات الوطن ويهدد كيانه؟

نعم لقد تحوّل العراق من وطنٍ يحتضن أبناءه إلى فندقٍ يُرحّب بالغريب والاجنبي الدخيل  ويُهين المواطن  الاصيل … ؛  والمصيبة أن الخطر لا يقف عند حدود الهوية، بل يمتد إلى الأمن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي… ؛  فكيف نأمن مستقبل بلد يُسلّم قيادته لعناصر قد لا تؤمن به أصلًا؟!

على الرغم من مرارة تجارب الماضي، والتي شهدت تجنيس عناصر اجنبية و غريبة عن النسيج الوطني بهدف هندسة ديموغرافية البلاد ، اذ استحوذت تلك العناصر الدخيلة على مقاليد السلطة والثروة والنفوذ في العراق ؛ بل وارتكبت ولا زالت ابشع الجرائم والمجازر بحق ابناء الاغلبية والامة العراقية … ؛ عادت اليوم تلك السياسات وبأقبح صورها…؛  وبدلًا من تصحيح المسار، نرى قوانين مشوّهة تفتح الأبواب لتجنيس أشخاص قادمين من بيئات طائفية متطرفة وبائسة وفقيرة ، وربما يحمل بعضهم أفكارًا تشكل خطرًا أمنيًا وثقافيًا على البلد بل ومعاديا للأغلبية العراقية … ؛ والأخطر من كل ذلك، أن هذه السياسات تُنفّذ بلا شفافية، وتُدار من خلف الكواليس، خارج أي رقابة برلمانية أو شعبية… ؛  فما يحدث اليوم هو استنزاف بطيء للهوية العراقية، وإضعاف متعمّد لانتماء المواطن لوطنه ؛ كما ذكرنا ذلك انفا .

نحن بحاجة إلى سن قانون يمنع التجنيس  بصورة مطلقة ؛ لان وضع العراق حساس واستثنائي ؛ او لا أقل سن قانون عادل وشفاف وصارم ، يحفظ كرامة العراقيين  وهوية البلد , ويضع شروط استثنائية ؛ قبل أن يُمنح الغريب ما لا يستحق… ؛  فالعراق ليس فندقًا أو مضافة عابرة او منظمة لغوث اللاجئين والمهاجرين والمساكين ، بل وطن تاريخه أقدم من كل هؤلاء المتسللين من نوافذ العبث السياسي.

إن استمرار هذه السياسة المنكوسة ليس إلا خيانةً للعراق وأهله…؛ وعليه لا بد من وقفة جادة، لا بد من صرخة وطنية مدوية، تنادي بإيقاف هذا النزيف، وإعادة الاعتبار للمواطنة الحقيقية… ؛  فالوطن ليس حقل تجارب، ولا هو غنيمة توزّع بين أصحاب الحظوة… ؛فلتُرفع الأصوات، ولتُكتب الأقلام، علّنا نوقظ ما تبقّى من ضمير في زمن صار فيه التجنيس ج#ريم*ة مغلّفة بالقانون، وخيانة مغلّفة بالشعارات.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!